كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن حرائق تشتعل في أحد البيوت أو في أكثر من بيت دون سبب واضح لهذه الحرائق، الأمر الذي استدعى ذهاب عدد من القنوات الفضائية ومنهم إعلاميين مشاهير للمشاهدة والتصوير، ثم طرح التساؤلات الحائرة: كيف تحدث هذه الحرائق التلقائية؟ من يشعلها؟ هل ثمة جن يسكن هذه البيوت ويريد إزعاج أو طرد ساكنيها من البشر؟ هل تكون من فعل البشر لتحقيق أهداف بعينها؟ هل هي فعلا حقيقة أم توهمات من العامة ومبالغات في الحكايات؟ هل تحتاج لمعالجات روحانية أو مصالحة مع الجن؟ أم تحتاج دراسة علمية متخصصة؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه "شو" شعبي ومبالغات إعلامية هدفها جذب المشاهد وإبهاره وشغل الناس عن مشاغلها ومشكلاتها الحقيقية؟.
الملاحظة الهامة الأولى أن الكلام عن هذه الحرائق ينتشر في القرى والنجوع سواء في الصعيد أو في الدلتا (محافظة الشرقية على وجه الخصوص) وفي بيئات ينخفض فيها المستوى التعليمي والاقتصادي والاجتماعي، ويشيع فيها المعتقدات عن الجن، والناس في هذه المجتمعات لديهم قابلية عالية للإيحاء والاستهواء ولنقل الحكايات بعد إضافة مبالغات كثيرة عليها. وهذه الظواهر الغريبة نادرة الحدوث في المجتمعات المتقدمة وفي المستويات الاجتماعية والعلمية الأرقى.
الملاحظة الثانية أنه لم يتم توثيق ما حدث بشكل علمي منضبط أو حتى بشكل رسمي واقعي، وإنما ترك الأمر لأقوال مرسلة لا تصمد أمام أي تفكير منطقي.
الملاحظة الثالثة هي أنه لم تحدث خسائر في الأرواح نتيجة هذه الحرائق، وكأنها مصممة بطريقة متقنة وانتقائية تبتعد فيها عن إيذاء ساكني هذه البيوت.
ولي خبرة شخصية في بيت سكنته، وقد سمعت أن هذا البيت مسكون بالعفاريت، وأن الجيران كانوا يشاهدون نارا تشتعل فيه ودخانا يتصاعد قبل أن يكتمل هذا البيت وقبل أن يسكنه أحد!!!... وقد عشت في هذا البيت سنوات عديدة ولم أر فيه أي شئ مما ذكره الناس، وكنت أحيانا أنام فيه وحدي لعدة ليال ولم ألاحظ أي شيء غريب فعرفت كيف يتناقل الناس الشائعات حول هذه الأمور.
وقبل الدخول في التفسيرات العلمية للظاهرة نذكر قصة سيدة ماليزية عجوز تعيش في منزل قديم بمفردها، وكانت من وقت لآخر تصرخ وتستنجد بجيرانها ليطفئوا حريقا شب في بيتها دون سبب مفهوم، وتذهب أحيانا إلى الشرطة لتحرر محضرا بالواقعة، وكان التفسير الجاهز كالعادة هو أن ثمة جن يسكن بيت السيدة العجوز يشعل هذه النيران، إلى أن جاء يوم وتطوع سائح أمريكي هو وزوجته أن يستئذنا السيدة العجوز ويسكنا في البيت بدلا منها ليرصدا هذه الظاهرة الغريبة بشكل دقيق. في البداية رفضت السيدة هذا العرض، ولكن تحت إلحاح الجيران والسلطات قبلت، وسكن الزوجان في البيت ومر شهر كامل ولم تحدث أية حرائق، واتضح فيما بعد أن العجوز نفسها هي من كانت تشعل الحرائق في بيتها.
ومن المعروف أن منطقة "جعيطا" في جبال لبنان اشتهرت لسنوات طويلة بحدوث رجع غريب للصوت، وكان الناس يعتقدوت لسنوات طويلة أن المنطقة مسكونة بالجان، إلى أن جاء مستكشف غربي وعاش في المنطقة وافترض أن رجع الصوت بهذه الطريقة يفيد بأن ثمة تجويف ضخم في بطن الجبل، وظل يبحث في جوانب الجبل إلى أن عثر على مدخل لمغارة هائلة أصبحت الآن من أجمل المزارات في جبل لبنان.
ومن خلال متابعة حالات في العيادات النفسية نورد بعض النماذج الحقيقية والتي كانت مستترة خلف أحداث تبدو غامضة وكانت بسبب غموضها تستدعي لدى العامة وبعض الخاصة تفسيرات تتصل بالجن:
٠ جاء الزوج يشتكي بأن ملابسه تحترق بشكل تلقائي دون سبب واضح، وأنه حين نقل ملابسه من شقة لشقة أخرى في نفس البيت كانت تحترق أيضا وحين كان يخلطها بملابس أخرى تشبهها لم يكن يحترق غير ملابسه!!!. وقد أقرت الزوجة بأنها ترى بعينها الملابس تحترق تلقائيا وشاركها في الإقرار أطفالها الثلاثة وذكروا أنهم رأوا ذلك بأعينهم. وأحضر الزوج أشخاصا يدّعون أنهم يخرجون الجان وظلوا يتمتمون ويعوذون ويضعون ملحا هنا وأحجبة هناك ويعقدون جلسات صلح مع الجن الذي فعل ذلك – حسب رأيهم – لأن هذا الرجل طرد قطة من البيت بعد أن ضربها وهي كانت من الجن فقررت الانتقام منه. وبعد جلسات عديدة مع أفراد الأسرة كل على حدة اتضح أن الزوجة هي من كانت تحرق ملابس زوجها لخلافات عميقة بينهما، وأنها كانت تأتي بأطفالها ليروا كيف كانت تحترق الملابس بعد أن تكون قد أشعلت النار فيها بمفردها.
٠ زوج آخر لاحظ احتراق النقود التي يحتفظ بها في المنزل، وأنه يراها وقد تحولت إلى رماد، ومهما غير أماكنها كانت تحترق وذكر أيضا أن أحد التجار قال له أن أحدا من بيته يأتي له بأموال كثيرة يشتري بها بضائع لا لزوم لها لبيت واحد ولأسرة صغيرة، وحين سأل زوجته وأبناءه نفوا جميعا أن يكونوا ذهبوا إلى هذا التاجر. ومرة أخرى أجمع الروحانيون ومخرجي الجن أن هذا عمل من أعمال الجن وابتزوا الزوج لفترات طويلة حتى يئس منهم، وجاء يسأل إن كان ثمة تفسير نفسي لذلك. وبعد جلسات عديدة اتضح أن الزوجة هي من كانت تشعل النيران في أموال زوجها لأنها علمت بنيته في الزواج عليها لما تحسنت أحواله المادية واذدهرت تجارته فكانت تريد أن تحرمه من هذا المال حتى يظل معها وحدها.
٠ ثبت أن بعض الدجالين والمشعوذين في القرى يكلفون أتباعا لهم بإشعال الحرائق في أكثر من مكان ليروجوا أن ذلك بفعل الجن ليتدخلوا هم بعد ذلك ويعرضوا خدماتهم لإنقاذ هذه البيوت وأصحابها من غضبة الجن .
٠ هناك مرض في الطب النفسي يسمى "هوس إشعال النيران"، والمريض بهذ الحالة يستمتع بإشعال الحرائق، ويفعلها سرا وبطريقة متقنة ولا يترك خلفه (خلفها) أثر يدل عليه، ولذلك يدع الناس في حيرة وربما يظل هكذا سنوات دون أن يعرف أحد أنه هو المتسبب في تلك الحرائق .
وحتى لو افترضنا جدلا أن تلك الحرائق تشتعل دون أي سبب مما ذكرناه، فهذا ليس مبررا لأن نلقي التهمة على الجن جزافا، ولكن علينا أن ندرس الظاهرة بواسطة فريق علمي متعدد التخصصات يمكث في البيت بعد مغادرة أهله له بشكل مؤقت ويرى متى وكيف تشتعل الحرائق؟ وما هي الأسباب الفيزيقية أو الكيميائية أو الكهربية وراء اشتعالها (إن كانت ستشتعل أصلا).
فقد كانت تسود خرافة لمئات السنين أن شلل الأطفال يحدث نتيجة لمسة جن للطفل عند ولادته وصدق الناس جميعا هذه الخرافة ومارسوا طقوسا لصرف الجن عن أبنائهم عند الولادة ولم تفلح، إلى أن جاء عالمان هما سالك وسابين ورفضا هذا التفسير الشيطاني، وبحثا الأمر بطريقة علمية واكتشفا أن ثمة ميكروبات تسبب هذا المرض وصنعا لقاحا من هذه الميكروبات يعطي مناعة للجسم ضدها، وبذلك أنقذا البشرية من هذا المرض الخطير... فلماذا نبقى نحن في الظلام ونعزو كل مالا نفهمه أو نعرف تفسيره إلى الجن والعفاريت؟
ولهذا نقترح على السلطات المسئولة أن تطلب من كل من يدّعي اشتعال حرائق متكررة في بيته بدون سبب واضح أن يترك البيت على الأقل لمدة شهر ليقيم فيه فريق بحثي متخصص، وإذا ثبت أن الأمر مجرد ادعاء يعاقب صاحب المنزل بتهمة إزعاج السلطات ويتحمل مصروفات الفريق البحثي، وإذا كان كلامه صحيحا وأن ثمة حرائق تشتعل تلقائيا فهذه مهمة الباحثين والدولة في معرفة الأسباب الموضوعية لاشتعال هذه الحرائق بعيدا عن التفسيرات الخرافية .
وليكف الإعلام عن نشر الشائعات والخرافات والخزعبلات التي يشغل بها الناس بالباطل ويزيف وعيهم ويلوث أفكارهم ويأخذهم بعيدا عن قضاياهم الواقعية لعالم وهمي .
واقرأ أيضاً:
مصر تطلق لحيتها !....مصر تحلق لحيتها!2/ الحالة النفسية للإسلاميين/ رسالة إلى العقلاء في الإخوان: لا تحملوا السلاح ولا تحرقوا مراكبكم/ صناعة الدكتاتور/ الكلمة تقتل.. والكلمة تحيي/ إسلامية بالشطة، أو علمانية بالسم الهاري!!/ العضّاضون والعضّاضات/ مستقبل تيار الإسلام السياسي/ استراتيجيات حل الصراع/ انتهاك حقوق الموتى/ عودة المتدين الطيب/ إرهاب المعتدلين/ أرجوك لا تترشح للرئاسة/ هشاشة النظام/ لماذا يقتل المصريون رؤساءهم ؟/ الزعيم الملهم/ الأثر النفسي للقفص الزجاجي/ قوة التسامح/ لولا دي سيلفا.. ماسح الأحذية صانع نهضة البرازيل