الكاتب: أ.د مصطفى السعدنيالبلد: مصرنوع العمل: مقالتاريخ الاضافة 08/10/2006 تاريخ التحديث 05/03/2018 02:20:58 المشاهدات 5512 معدل الترشيح
كيف تكتسب الثقة في نفسك يُروَى أن مزارعا من فلوريدا قد اشترى أرضا ووضع فيها ماله كله وأمله، فلما صارت له وذهب ليراها، أصابته أشد ضربة من ضربات الدهر فتركته مضعضعا مشرفا على الانهيار، رآها قفرة مهجورة لا تصلح للزراعة ولا تنفع للرعي، وليس فيها إلا الجحور، والتي يعيش فيها مئات من الحيات والثعابين، ولا سبيل إلى مكافحتها واستئصالها، وكاد يصاب بالجنون لولا أن خطرت له فكرة عجيبة هي أن يربي هذه الحيات ويستفيد منها، وفعل ذلك فنجح نجاحا منقطع النظير، كان يُخرِج سموم هذه الحيات فيبعث بها إلى معامل الأدوية فتستخلص منها الترياق الذي يشفي من هذه السموم، ويبيع جلودها لتجار الأحذية بأغلى الأثمان، وكان يقصده السياح من كل مكان ينظرون إلى أول مزرعة في الدنيا أُنشئت لتربية الحيـــــات والثعابين.
ما رأيكم الآن في القدرات الإبداعية لذلك الرجل، والذي حول أرض الحيات السامة والثعابين المؤذية إلى متحف طبيعي حي لمن يريد المشاهدة من السياح، ومكان لإنتاج الجلود الفاخرة، بل وإلى مصنع أدوية لعمل الأمصال الواقية من سموم تلك الحيوانات المفترسة، إن هذا لهو حق التسامي، بل هو عين التسامي.
المرونة في التعامل مع المتغيرات من معالم القدوة النبوية في الابتكار والإبداع الفكري تربيته لصحابته -صلى الله عليه وسلم- على حسن التصرف وفقاً للمواقف المختلفة والمتغيرات المتعددة، وذلك أن العقلية المبتكرة والمجددة تتميز بالمرونة في تناول ما يقابلها من أحداث -ولا تقف جامدة عند رأى معين -كما أسلفنا- وهذا ما واجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما ترامت إليه الأنباء أن قافلة ضخمة لقريش تهبط من مشارف الشام عائدة إلى مكة تحمل لأهلها الثروة والمال الوفير.. قاصداً من ذلك العير..
وحينما أحس أبو سفيان الخطر على قافلته استطاع أن ينجو بها من هذا الخطر المحدق.. بعد أن أرسل إلى مكة ليستنفرهم لحماية أموالهم ويستثير حميتهم للخروج في تعبئة ترد كل هجوم.. وهنا انقلب الموقف من العير إلى النفير, حقاً إن المرء قد تصدمه أحداث عابرة وهو ماض في طريقه، يحتاج في مواجهتها لأن يستجمع عزيمته وقواه، وأن يستحضر تجاربه، وأن يقف أمامها مرهف الانتباه، شديد التركيز، وهذه الامتحانات المباغتة أدق في الحكم على الناس، وأدل على قيمهم من الامتحانات التي يعرفون ميعادها، ويتقدمون إليها واثقين مستعدين..
- وهكذا استطاع الرسول -صلى الله عليه وسلم- التعامل مع هذا الموقف الذي تغير من النقيض إلى النقيض برؤية إبداعية فذة.. تناولت جمع المعلومات عن عدد الجيش وعدته.. وتأمين جبهته الداخلية.. وطرح الأمور للشورى.. والاستعانة بالله عز وجل.. واستيعاب الأفكار الجديدة المبدعة في التعامل مع الموقف.
تشجيع الاستنباط الفكري واحترام الخلاف في الرأي - أخرج البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوم الأحزاب: (لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة) فأدرك فرض صلاة العصر بعضهم في الطريق فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيها (أي ديار بنى قريظة) وقال بعضهم: بل نصلى الفرض قبل أن يضيع وقته، فََذُكِر ذلك للنبي فلم يعنف واحداً منهم.
-(فالمسلم إذن له أن يأخذ بظاهر النص وله أن يستنبط من المعاني ما يحمله روح النص؛ و يمكن التدليل عليه، ولا لوم على من بذل جهده وكان مؤهلاً لهذا النوع من الاجتهاد.. فالفريق الثاني من الصحابة -رضوان الله عليهم- فهموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما يأمرهم بالمبالغة في الإسراع ولذلك اعتبروا أن أداءهم الصلاة قبل الوصول إلى بني قريظة لا ينافى أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة في بني قريظة مادامت الصلاة لن تؤخرهم عن الوصول، ومن الطريف أن ابن القيم -رحمه الله- أورد اختلاف الفقهاء في تصويب أي من الفريقين وبيان الأفضل من فعل كل منهما فمن قائل: إن الأفضل هو من صلى في الطريق فحاز قصب السبق في أداء الصلاة في أوقاتها وتلبية أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن قال: إن الأفضل من أخرها ليصليها في بني قريظة.
- قلت (والكلام لابن القيم): مادام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعنف واحداً منهم، فكان على الفقهاء -رحمهم الله- أن يسعهم ذلك من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألا يخوضوا في أمر قد تولى -عليه الصلاة والسلام- حسمه و الانتهاء منه.
- ويعلق الشيخ (محمد الغزالي) على هذه الحادثة بقوله (وذلك يمثل احترام الإسلام لاختلاف وجهات النظر مادامت عن اجتهاد بريء سليم، والناس غالباً أحد رجلين رجل يقف عند حدود النصوص الظاهرة لا يعدوها، ورجل يتبين حكمتها ويستكشف غايتها، ثم يتصرف في نطاق ما وعى من حكمتها وغايتها ولو خالف الظاهر القريب, وكلاً من الفريقين يشفع له إيمانه واحتسابه سواء أصاب الحق أو ند عنه).
- وهكذا نرى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع هذا الموقف.. يبتعد عن التصلب الفكري وأحادية الرأي، ويشجع الانفتاح العقلي.. والخلاف في الرأي، وصولاً إلى اختلاف التناول و إثراء الفكر، وموافقته لكل من يأخذون بظاهر النص ومن يأخذون بروح النص؛ في غير تعنت أو جمود..
- وتعد هذه النظرة من المقومات الأساسية في الابتكار والإبداع الفكري، وذلك أن المبتكر والمبدع يختلف عن غيره في تناول الموضوعات وله رؤيته المختلفة.. ولولا الآراء المختلفة ما كان هناك إبداعاً ولا ابتكاراً..
- ومن ثم وجب على المربين والمديرين أن يشجعوا البعد عن الجمود الفكري والانفتاح العقلي واختلاف الرأي طالما لا يحتمل الأمر رأياً واحداً لابد من الوقوف عنده.. وقل أن تجد ذلك.. ذلك أن الحياة بمشكلاتها وأبعادها المختلفة ليست مسائل رياضية لا يصلح معها إلا إجابة واحدة فقط.. ويتبع >>>>>>>>>>> علاج المشكلات بهدوء