كل شيء يتكرربإرادة الدوران وبتقدير وحُسبان!
الكون يدور فيتسع, والأرض تدور وتدور, وتستحصل المزيد من الأفكار, وتستنزل من علياء المدارك ما يصطاده الإنسان.
يقول الطغرائي:
نقّلْ فؤادك حيث شئتَ من الهوى
مالحب إلا للحبيب الأول
كمْ منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه دوما لأول منزل
لو أنّ في شرف المأوى بلوغ منى
لمْ تبرحِ الشمسُ يوما دارة الحَمل
وفي هذه الأبيات إقرار بطاقات الجذب المتحققة في الأعماق, والتي تشد الإنسان إلى تلك اللحظات التي تحققت فيها, أو تمكنت من صناعة بؤرتها الدماغية الكفيلة برعايتها وحفظها في مراكز متنوعة, كمراكز الذاكرة وما يتصل بها من تفرعات وترابطات ودوائر فعالة متحركة دائما, فحالما تنطلق المراكز بدورانها فأنها تتأبد في ميكانيكية ذات كهرومغناطيسية ذاتية جذابة القدرات والتأثيرات.
والعلاقة ما بين الدوران والتكرار ذات تطبيقات سلوكية وتفاعلات نفسية وفكرية وإدراكية. فالتكرار من إنتاج الدوران, والدوران من تأثير التجاذبات الفيزيائية الكونية التي نجهل معظم قوانينها وجوهر طاقاتها.
فهل أن الأرض قد افترست جرما غيرها, فتزودت بطاقة تكفيها للأسر في حلبة الدوران إلى أجلٍ مسمّى؟! وهل أنها تصنّع طاقتها ذاتيا من تفاعلها مع الشمس؟ فلكل حركة لابد من طاقة, والدوران حركة بحاجة لطاقة! إذا الشمس هي مصدر طاقة الدوران فوجودنا مرهون بها, وهذا ما أدركه رمسيس الثاني, فعبدها, وجعلها تشرق على وجهه في يومي ميلاده وتتويجه.
والتكرار كالدوران بحاجة لطاقة؟
فما هي طاقة التكرار؟
ولماذا يتسيّد التكرار؟
وهل أنه فعل أوتوماتيكي ؟
التكرار يأخذنا إلى الوسوسة, التي في جوهرها تكرار مهيمن على السلوك.
يبدو أن العصيبات الدماغية عندما تحقق ترابطاتها وتواصلاتها, تصنع جهازا قادرا على الجذب الفعال للأفكار المتفقة مع ما فيه من قدرات مغناطيسية تتفاعل مع جوهر طاقاتها, وكلما توافدت الأفكار, ستزداد سرعة الدوران في الدائرة العُصيبية, وبتكرار الدوران والتواصل تكتسب العلاقة ما بين العُصيبات قدرات أكبر, وقوة أعظم قد تتسع لتؤثر على مراكز أخرى في الدماغ, ويبدو أن طاقة التكرار توفرها الأفكار المتواردة إلى مراكز الحث والجذب العُصيبي في دائرة التواصل الفعال. وهذا يعني أن الأفكار ذات طاقات متناسبة مع جوهرها وإرادتها الكامنة فيها, فالتفكير بحاجة إلى أفكار, وكلما تواردت الأفكار تواصل التفكير وتعمّق واتسع وتعقد, وازدادت قوة الأفكار وطاقاتها وعنفوان تفاعلاتها.
فالفكرة طاقة!!
والتفكير تعبير عن هذه الطاقة!!
وهذا يفسر آليات السلوك الوسواسي القهري وتناميه بأوتوماتيكية فائقة عصية على التوقف والهدوء. ويمكننا أن نقرأ السلوك البشري بمنظار التكرار, الذي يُسمى إدمانا أيضا, فكل سلوك مكرر قد تصح تسميته بالإدمان. فالإدمان لا يعني فقط الكحول والمخدرات, وإنما يمكنه أن يشمل معظم نواحي السلوك المُكرر. ترى ما الذي يدفع إلى تكرار ذات السلوك في نفس المكان؟!
قد نقول أن هناك منبهات ومعززات ومنشطات وتداعيات ذات تأثيرات سلوكية على الشخص, كما يحصل للمدمن على الخمر عندما ينتكس لدخوله الحانة التي كان يحتسي الخمر فيها كل يوم. لكن لماذا تتوقد دائرة التواصل العُصيبية وتستحضر طاقاتها الكفيلة بالسيطرة وتحقيق الإذعان؟ قد يبدو أنها مثلما الأرض تدور بقدرات طاقاتها الذاتية المتولدة من تفاعلات لا تحصى, فإنها ربما كذلك تستمد طاقات هيمنتها من الأفكار المتواردة إليها, والتي تمدها بالقدرات اللازمة لتحقيق غاياتها وتطلعاتها الكامنة فيها.
ووفقا لما تقدم, فإن لآليات التكرار تطبيقات سلوكية ذات نتائج مؤثرة في حياة المجتمعات, فالعنف سلوك تكرار يجتاح البشرية, ويقض مضاجع المجتمعات المتقدمة المتحضرة, فكم تكررت أعمال العنف الدامي في المدارس والجامعات والمجمّعات والأسواق ودور السينما.
فكل ما يحصل لأول مرة يتكرر لمرات ومرات!!
إن الحالات من حولنا سلوك يتكرر!!
الانتحار يتكرر, وتحوّل الفرد إلى قنبلة يتكرر, والقتل يتكرر, ومَن يَقدِم على فعلٍ يتمادى في تكراره, بامتلاكه طاقات متنامية للقيام به وبمهارات أفضل.
إن البشرية في محنة كبيرة بسبب تداعيات السلوك المُكرر.
والقتل من أعتى سلوك البشر الذي يتكرر ويتكرر.
ففكرة القيام بعمل ما, ينجم عنها بناء الدوائر العُصيبية الكفيلة بإنجازه, وهذه الدوائر تسعى للتقوية والتعزيز والهيمنة والسيادة والطغيان على الدماغ, ولكي تصل إلى غايتها فإنها تحث على التكرار لأنه الوسيلة الأقوى لمنحها قدرات امتلاك الدوائر العُصيبية الأخرى في الدماغ, فما يجري في أروقة المخ, عبارة عن صراع استبدادي قاسي ما بين دوائره الفعالة النشطة الساعية للاستحواذ على مملكة الدماغ. ولكي تهيمن أية دائرة لا بد لها من الإتيان بما هو أصيل وجديد, لتذعن لها الدوائر الأخرى, أي أن داخل جماجمنا تدور رحى حروب طاحنة لا تعرف الهدوء, تتسيّد وتنتصر فيها فكرة وتعزز دائرتها القادرة على التحكم بغيرها وتهذيب سلوكها وفقا لتوجهها.
وهذا يفسر تنوّع التوجهات الفكرية والسلوكية, وتباين القدرات المعرفية, لعدم وجود تشابه ما بين أية دائرة عُصيبية وأخرى في الأدمغة البشرية. إنها كبصمات الأصابع, ومتواليات الأحماض الأمينية في كروموسوماتنا. وللتربية دور في صناعة دوائر التكرار السائدة في الأدمغة, ومن أهمها التربية الدينية, لأنها تمتلك القدرات اللازمة لتعزيز تواصل ومتانة تلك الدوائر. ومعظم البشر يكون للدين عندهم دور أساسي في ما يدور بين العُصيبات الدماغية وما ينجم عنها من سلوكيات, ووفقا لترتيبها يكون النهج والتفاعل مع الواقع المكاني والزماني.
وعندما تتحقق ارتباطات مشوهة فأنها ستستحضر أفكارا تناسبها فدفع لسلوكيات متفقة معها, مما يرسخ عند المصاب بها معاني وتوجهات تخل بجوهر ما يراه ويعتقده, لاستحواذ فكرة مارقة متكررة على مواضع بصيرته ونوافذ إدراكه. وهذا يدعونا للتصدي للسلوك المشوه الذي ترزخ تحت وطأته العديد من المجتمعات المبتلاة بلعنة العنف الشديد.
ترى هل أن آليات معالجاتنا للوسواس القهري ذات فائدة في علاج أي سلوك آخر يتكرر؟!!
واقرأ أيضاً:
إصْباحٌ ومصْباحٌ!! / الانكماش والانتعاش!! / الجهل المقدس والمصير المُتعّس!! / الذكاء والإخلاص الوطني!! / مَرّيخُ ومِرّيخ!!