كيف وصف الله المُحتاجين في القرآن الكريم
الفصل الرابع عشر
إذا ملك الصبي أو المجنون أو السفيه مالاً حجر عليه في ماله، والدليل على ذلك قوله تعالى: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" [النساء:6] فدل على أنه لا يسلم إليه مال قبل البلوغ والرشد.
وينظر في ماله الأب ثم الجد لأنها ولاية على حق الصغير، فقدم الأب والجد فيهما على غيرهما كولاية النكاح فإن لم يكن أب ولا جد نظر فيه الوصي لأنه نائب عن الأب والجد فقدم على غيره، وقال أبو سعيد الإصطخري: فإن لم يكن أب ولا جد نظرت الأم لأنها أحد الأبوين فثبت لها الولاية في المال كالأب والمذهب إنه لا ولاية لها، لأنها ثبتت بالشرع فلم تثبت للأم كولاية النكاح.
ولا يتصرف الناظر في ماله إلا على النظر والاحتياط ولا يتصرف إلا فيما فيه حظ واغتباط فأما ما لا حظ فيه كالعتق والهبة والمحاباة فلا يملكه، لقوله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" [الأنعام:165] ولقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "لا ضرر ولا إضرار" وفي هذه التصرفات إضرار بالصبي فوجب أن لا يملكه، ويجوز أن يتجر في ماله لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "من ولى يتيماً وله مال فليتجر له بماله، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة".
ويبتاع له العقار والدور لأنهما يبقيا وينتفع بغلتهما وعائدهما، ولا يبتاع إلا من مأمون لأنه إذا لم يكن مأموناً لم يأمن أن يبيع مالاً يملكه، ولا يبتاعه في موضع أشرف على الخراب أو يخاف عليه الهلاك لأن في ذلك تغريراً بالمال، ولا يبيع له العقار إلا في موضعين: أحدهما أن تدعو إليه الضرورة بأن يفتقر إلى النفقة وليس له مال غير هذا العقار ولم يجد من يقرضه، والثاني أن يكون له في بيعه مكسبا كبيرا؛ فيباع له ويشتري ببعض الثمن مثله؛ لأن البيع في هذين الحالين فيه مكسب وفيما سواهما لا مكسب واضح فيه فلم يجز.
ولا يسافر بمال اليتيم من غير ضرورة، لأن فيه تغريراً بالمال ويروى "إن المسافر وماله على قلت" أي على هلاك، فإن دعت إليه ضرورة بأن خاف عليه الهلاك في الحضر لحريق أو نهب جاز أن يسافر به لأن السفر هنا أحوط.
ولا يودع ماله ولا يقرضه من غير حاجة لأنه يخرجه من يده فلم يجز، فإن خاف من نهب أو حريق أو غرق أو أراد سفراً وخاف عليه جاز له الإيداع والإقراض فإن قدر على الإيداع دون الإقراض أودع ولا يودع إلا ثقة، وإن قدر على الإقراض دون الإيداع أقرضه، ولا يقرضه إلا ثقة.
وينفق على اليتيم بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار لقوله تعالى: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواماً" [الفرقان:67]، وإن رأى أن يخلط ماله بماله في النفقة جاز لقوله تعالى: "ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح" [البقرة:220] فإن بلغ الصبي واختلفا في النفقة، فإن كان الولي الأب أو الجد فالقول قول الأب أو الجد، وإن كان غيرهما ففيه وجهان: أحدهما يُقبل لأن في إقامة البينة على النفقة مشقة؛ فيُقبل قول الوصي، والثاني لا يُقبل قول الوصي.
وإن أراد أن يبيع الوصي ماله بمال اليتيم، كأن يغير الوصي الدولارات التي يمتلكها بيورو يمتلكه اليتيم مثلاً، وذلك لأن قيمة العملات تختلف من بلد لبلد آخر، أو يشتري الوصي بماله بيتا يمتلكه اليتيم، فإن كان أباً أو جداً جاز ذلك لأنهما لا يُتهمان في ذلك لكمال شفقتهما باليتيم، وإن كان غيرهما لم يجز لما روي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال "لا يشتري الوصي من مال اليتيم" ولأنه متهم في طلب المكسب له في بيع ماله من نفسه فلم يُجعل ذلك للوصي.
وإن أراد أن يأكل الوصي من مال اليتيم فلذلك شروط، فإن كان غنياً لم يجز لقوله تعالى: "ومن كان غنياً فليستعفف"[النساء:6] وإن كان فقيراً جاز أن يأكل لقوله تعالى:"ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف"[النساء:6] وهل يضمن البدل فيه قولان: أحدهما لا يضمن لأنه أجير له الأكل بحق الولاية على ذلك اليتيم، والثاني أنه يضمن لأنه مال لغيره أجيز له أكله للحاجة فوجب ضمانه كمن اضطر إلى مال غيره.
ولا يفك الحجر عن الصبي حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد لقوله تعالى:"حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم"[النساء:6] فأما البلوغ فإنه يحصل بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجل والمرأة وهي الإنزال والعمر والإنبات، واثنان تختص بهما المرأة وهما الحيض والحمل، فأما الإنزال فهو إنزال المني فمتى أنزل صار بالغاً، والدليل عليه قوله تعالى:"وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا"[النور:59] فأمرهم بالاستئذان بعد الاحتلام فدل على أنه بلوغ، وروى عطية القرظي قال: عرضنا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) زمن قريظة فمن كان محتلماً أو نبتت عانته قتل فلو لم يكن بالغاً لم يقتل، وأما العمر فهو أن يستكمل خمس عشرة سنة، والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: عرضت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني ولم يرني بلغت، وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة سنة فرآني بلغت فأجازني، وأما الإنبات فهو الشعر الخشن الذي ينبت على العانة، وبه يثبت بلوغ الكافر، والدليل عليه ما روى عطية القرظي (في فتح خيبر) قال: كنت فيمن حكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه فشكوا في، أمِن الذرية أنا أم من المقاتلة؟!، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "انظروا فإن كان قد أنبت وإلا فلا تقتلوه" فنظروا فإذا عانتي لم تنبت فجعلوني في الذرية ولم أُقتل.
أما الحيض فهو بلوغ لما روى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما "إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى الوجه والكف فعلق وجوب الستر بالمحيض، وذلك تكليف فدل على أنه بلوغ يتعلق به التكليف، وأما الحمل فهو أكبر دليل على البلوغ.
وإيناس الرشد هو إصلاح الدين والمال فإصلاح الدين أن لا يرتكب من المعاصي ما يسقط به العدالة، وإصلاح المال أن يكون حافظاً لماله غير مبذر، ويختبره الولي اختبار مثله من تجارة إن كان تاجراً أو زراعة إن كان فلاحا، أو إصلاح أمر البيت إن كانت امرأة . واختلف أصحابنا في وقت الاختبار، فمنهم من قال لا يختبر في التجارة إلا بعد البلوغ لأن قبل البلوغ لا يصح تصرفه فلا يصح اختباره، ومنهم من قال يختبر قبل البلوغ لقوله تعالى: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح"[النساء:6] فأمر باختبار اليتامى وهم الصغار،
وإن بلغ مبذراً استديم الحجر عليه لأن الحِجر عليه إنما يثبت للحاجة إليه لحفظ المال والحاجة قائمة مع التبذير فوجب أن يكون الحِجر باقياً، وإن بلغ مصلحاً للمال فاسقاً في الدين استديم الحجر عليه لقوله تعالى: "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" [النساء:6] والفاسق لم يؤنس منه الرشد ولأن حفظه للمال لا يوثق به مع الفسق لأنه لا يؤمن أن يدعوه الفسق إلى التبذير فلم يفك الحجر عنه؛ ولهذا لم تقبل شهادته وإن كان معروفاً بالصدق، لأننا لا نأمن أن يدعوه الفسق إلى الكذب، وينظر في ماله من كان ينظر في حال الصغر، وهو الأب والجد والوصي والحاكم، لأنه حجر ثبت من غير قضاء، فكان النظر إلى من ذكرنا كالحجر على الصبي والمجنون.
وإن بلغ مصلحاً للدين والمال فك عنه الحجر لقوله تعالى: "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" [النساء:6] وهل يفتقر فك الحجر إلى الحاكم فيه وجهان: أحدهما لا يفتقر إلى الحاكم لأنه حجر ثبت من غير حكم فزال من غير حكم كالحجر على المجنون، والثاني أنه يفتقر إلى الحاكم لأنه يحتاج إلى نظر واختبار فافتقر إلى الحاكم كفك الحجر عن السفيه.
وإن فك عنه الحجر ثم صار مبذراً حجر عليه ثانية، لما روي أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ابتاع أرضاً سبخة بستين ألفاً فقال عثمان: ما يسرني أن تكون لي بنعلي (لا تساوي ثمن حذائي) فبلغ ذلك علياً كرم الله وجهه وعزم أن يسأل عثمان أن يحجر عليه فجاء عبد الله بن جعفر إلى الزبير، وذكر أن علياً يريد أن يسأل عثمان رضي الله عنهما أن يحجر عليه، فقال الزبير أنا شريكك فجاء علي إلى عثمان رضي الله عنهما وسأله أن يحجر عليه، فقال كيف أحجر على من شريكه الزبير؟!، فدل ذلك على جواز الحجر على السفيه، لأن كل معنى اقتضى الحجر إذا قارن البلوغ اقتضى الحجر، إذا طرأ بعد البلوغ كالجنون، فإن فك عنه الحجر ثم صار فاسقاً ففيه وجهان: قال أبو العباس: يعاد عليه الحِجر لأنه معنى يقتضي الحجر عند البلوغ فاقتضى الحجر بعده كالتبذير، وقال أبو إسحاق: لا يعاد عليه الحِجر، لأن الحِجر للفسق لخوف التبذير وتبذير الفاسق ليس بيقين فلا يزال به ما تيقنا من حفظه للمال ولا يعاد عليه الحجر بالتبذير إلا بالحاكم؛ لأن علياً كرم الله وجهه أتى عثمان رضي الله عنه وسأله أن يحجر على عبد الله بن جعفر، ولأن العلم بالتبذير يحتاج إلى نظر، فإن الغبن قد يكون تبذيراً، وقد يكون غير تبذير، ولأن الحجر للتبذير مختلف فيه، فلا يجوز إلا بالحاكم فإذا حجر عليه لم ينظر في ماله إلا الحاكم لأنه حجر ثبت بالحاكم فصار هو الناظر كالحجر في المفلس، ويستحب أن يشهد على الحِجر ليعلم الناس بحاله، وأن من عامله ضيع ماله، فإن أقرضه رجل مالاً أو باع منه متاعاً، لم يملكه لأنه محجور عليه لعدم الرشد.
وليس للوصي التصرف في مال
المجنون أو اليتيم أو السفيه بما لا يستفيد منه صاحب المال، كالهبة والتبرعات، لقول الله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" وقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" من المسند. وفي هذه إضرار، وإن خلط مال اليتيم بماله أرفق له، مثل أن يكون ألين في الطعام والشراب، وأوسع في معيشة اليتيم وكافله، وإن كان الفصل بين مال اليتيم وكافله خيراً للطرفين؛ لقول الله تعالى: "ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم" [البقرة:220].
يتبع >>>>>>>>>>> كيف نغير عاداتنا السيئة؟