كيف يغير الحكماء بعضاً من عاداتهم السيئة3
الفصل الخامس عشر
إن الله سبحانه وتعالى خلق العقل على أحسن صورة وقال له أقبل فاقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت في خلقي شياً أحسن منك بك آخذ وبك أعطي وبك أحاسب وبك أعاقب. والدليل على صحة هذا أن الله تعالى على العباد شيئين وكلاهما موقوفان على العقل وهما الأمر والنهي كما جاء في محكم التنزيل قوله جل ذكره: (فاتقوا الله يا أولي الألباب). وهم ذوو العقول واشتقاق العقل من العقال والمعقل المنيع القلعة على رأس الجبل لا يصل إليها يد أحد لامتناعها وقوتها وإحكامها.
سئل حكيم الفرس لم سمي العاقل عاقلاً فقال للعاقل أربع علامات يعرف بها. وهي أن يتجاوز عن ذنب من ظلمه وأن يتواضع لمن دونه وأن يسابق إلى فعل الخير لمن هو أعلى منه وأن يذكر ربه دائماً وان يتكلم عن العلم ويعرف منفعة الكلام في موضعه وإذا وقع في شدة التجأ إلى الله تعالى. وكذلك الجاهل له علامات وهو أن يجور على الناس ويظلمهم ويتعسف بمن دونه وأن يتكبر على الزعماء وأن يتكلم بغير علم وأن يسكت عن خطأ وإذا وقع في شدة أهلك نفسه وإذا رأى أعمال الخير لفت عنها وجهه.
حكمة:
قال سعيد بن جبير: ما رأيت للإنسان لباساً أشرف من العقل إن انكسر صححه وإن وقع أقامه وان ذل أعزه وإن سقط في هوة جذبه بضبعه منها واستنقذه منها وان افتقر أغناه وأول شيء يحتاج إليه البليغ العلم الممتزج بالعقل كما جاء في الحكاية.
حكاية:
يقال أنه ما كان في خلفاء بني العباس أعلم من المأمون في جميع العلوم فكان له في كل أسبوع يومان يجلس فيهما لمناظرة الفقهاء وكان يجتمع عنده الفقهاء والمناظرون والعلماء والمتكلمون فدخل في بعض الأيام إلى مجلسه رجل غريب عليه ثياب بياض رثة فجلس في أواخر الناس وقعد من وراء الفقهاء في مكان مجهول فلما شرعوا في المسائل وكان رسمهم يديرون المسألة على جماعة أهل المجلس فكل من وجد زيادة لطيفة أو نكتة غريبة ذكرها فدارت المسألة إلى أن وصلت إلى ذلك الرجل الغريب فتكلم بكلام عجيب فاستحسنه المأمون فأمر أن يرفع إلى أعلى من تلك المرتبة.
فلما وصلت الثالثة أجاب بجواب أحسن من أجوبة الفقهاء كلهم فأمر أن يرفع إلى أعلى من تلك المرتبة.
فلما وصلت الثالثة أجاب بجواب أحسن وأصوب من الجوابيين الأولين فأمر المأمون أن يجلس قريباً منه فلما انقضت المناظرة أحضر الماء وغسلوا أيديهم ثم أحضر الطعام فأكلوا ثم نهض الفقهاء وخرجوا وقرب المأمون ذلك الرجل وأدناه وطيب قلبه ووعده بالإحسان إليه والإنعام عليه.
ثم عبي مجلس الشراب ونضد وحضر الندماء الملاح ودارت الراح.
فلما وصل الدور إلى الرجل نهض قائماً وقال إن أذن أمير المؤمنين تكلمت بكلمة واحدة فقال قل ما تشاء فقال قد علم الرأي العالي زاده الله علواً أن العبد كان في مجلس الشريف من مجاهيل الناس ووضعاء الجلاس وأن أمير المؤمنين بقدر يسير من العقل الذي أبداه جعله مرفوعاً على درجة غيره وبلغ به الغاية التي لم تسم إليها همته وإن العبد إذا شرب الشراب تباعد عنه العقل وقرب منه الجهل وسلب أدبه فعاد إلى تلك الدرجة ووقع في أعين الناس كما كان ذليلاً فإن رأى الرأي العالي أن لا يفرق بينه وبين ذلك القدر اليسير من العقل الذي أعزه بعد الذلة وكثره بعد القلة بمنه وفضله وكرمه وسيادته وحسن شيمه فعل متطولاً وأنعم متفضلاً.
فلما سمع المأمون منه ذلك مدحه وشكره وأجلسه في رتبته ووفره وأمر له بمائة ألف درهم وحمله على فرس وأعطاه ثياب تجمل وكان كل مجلس يرفعه على جماعة الفقهاء حتى صار أرفع منهم درجة وأعلى منزلة. وإنما أوردنا هذه الحكاية لأجل نعت العقل لأن العقل يوصل صاحبه إلى درجة عالية ومرتبة سامية وأن الجهل يحط صاحبه عن درجته ويهبط به من علو مكانته.
يتبع >>>>>>>>>>> من قراء تأكيد الذات مشاركات