الفصل السادس عشر
يقول أبو الفتح البستي:
واشدد يديك بحبل الله معتصما ** فإنه الرحمن إن خانتك أركان.
من استعان بغير الله في طلب ** فإن ناصره عجز وخذلان.
ولنتذكر معا قصة الفلاح الجالس تحت ظل شجرة يقول لولده الصغير: غدا سأقطع هذه الشجرة لأستفيد من حطبها في الشتاء القادم، وقال أيضا لابنه أذهب لجارنا عم محمد وقل له يأتي غداً في الصباح الباكر ليساعدنا في قطع هذه الشجرة العجوز، وكانت هناك حمامة تُطعِم صغارها في أعلى الشجرة وهي تستمع للحوار الدائر بين الفلاح و ابنه، وقد أحست أن الذعر قد دب في قلوب صغارها، فهدأت من روعهم وقالت لهم بثقة لن تُقطع الشجرة غداً فقروا عيناً.
وبالفعل مر الصباح التالي دون أن يأتي جار هذا الفلاح لقطع الشجرة، وفي الظهيرة جلس الفلاح تحت ظل الشجرة وكرر الطلب على ولده الصغير أن يذهب إلى جارهم عم محمود بعد غروب الشمس ليسأله المساعدة، على أن يؤكد عليه الحضور مبكراً قبل أن يشتد لهيب الشمس.
لقد تكرر نفس الإحساس لدى فراخ الحمامة ولكن طمأنتهم أمهم أيضا وطلبت منهم ألا يجزعوا وأنَّ الشجرةَ لن تُقطع في الغد!، بالفعل لم يحضر أحد في الصباح الباكر لقطع الشجرة. وعندما حل وقت الظهيرة قال الفلاح لولده إنه من الواضح أن اتكالنا على جيراننا لن ينفعنا بشيء، فغداً بمشيئة الله يا ولدي سوف نحضر معاً مبكراً للبدء في قطع الشجرة، ولن نعتمدَ إلا على أنفسنا، وفي تلك اللحظة أحست الحمامة أن الفلاح وابنه قد توكلا على الله ولم يتواكلا على أحد غيره؛ لذا فقد طلبت من فراخها الاستعداد لمغادرة عشهم الموجود على تلك الشجرة قبل أن يحل مغرب هذا اليوم، وبالفعل حضر الفلاح وابنه في الصباح الباكر لليوم الثالث بعد توكلهما على الله؛ وشرعا في قطع تلك الشجرة، وكما قيل:
ومن يستعن في أمره غير نفسه ** يخنه الرفيق العون في المسلك الوعر
ومعناه أن من يعتمد على غيره في إنجاز ما يحتاج إليه سيتخلى عنه في وقت شدته حتى أقرب الناس المتعاونين معه.
إن ترك العش النفسي (الفترة التي يقضيها الشخص مع أهله منذ ولادته حتى ما بعد الثامنة عشر من عمره، والتي يكون فيها معتمدا عليهم نفسيا وماديا) يُعتبر من إحدى الصعوبات التي يواجهها الفرد فـــي حياته، إن التواكل أفعى سامة تدخل إلى حياتنا بطرق مختلفة، ومع قسوتها على الفرد فإن التخلص منها نهائيا أمر ليس باليسير وذلك لأن البعض يستغل هذا التواكل لمنافع خاصة به؛ لذا فالاستقلال يعني التخلص من العلاقات المشروطة وبالتالي التخلص من سيطرة الآخرين، وكما قال الإمام علي رضي الله عنه: "إياك والاتكال على المنى، فإنها بضائع الموتى".
إن الابتعاد عن العش النفسي يعني تكوين شخصية مستقلة بك، وهذا لا يحدث قبل أن تتخلص من الاتكال على الغير، بالطبع هذا لا يعني بأي حال من الأحوال قطع علاقاتك مع من تحب.
إذا كنت راضيا عن الطريقة التي تُعامَل بها من قبل شخص ما وتتصور أن تلك الطريقة لا تتعارض مع نموك النفسي فمن الأجدى الحفاظ على هذه العلاقة بدلاً من تغييرها.
من فضلك لا تنسى الحكم الذهبية التالية:
"الاتِّكالُ على حمارِك أفضلُ من الاتّكالِ على حصانِ جارِك".
"لا تتكل إلا على نفسك".
"إِذا كُنْتَ تَرْغَبُ في خِدْمَةٍ جَيِّدَةٍ فَاخْدِمْ نَفْسَكَ بِنَفْسِكَ".
"من اتكل على زاد غيره؛ طال جوعه".
"لا تستطيع الطيران بأجنحة الغير".
"ومن يمتطي جمل جاره لا يصل إلى دياره".
"إِذا كُنْتَ تُريدُ أَنْ يَكونَ الشَّيءُ مُتْقَنَاً فَاعْمَلْهُ بِنَفْسِكَ".
"لَمْ يَحمِلْ خاتمي مِثلُ خِنصَري"
يتبع >>>>>>>>>>> التواكل النفسي