المعاناة من إهمال العمل في مجتمعاتنا
الفصل الثامن عشر
والآن دعونا نناقش هذا المثل الشرقي الياباني الأصيل عن كيفية تفاني شاب مخلص في انتمائه وولائه وحبه الشديد لوطنه اليابان، هذا الشاب المهندس الذي ذهب إلى ألمانيا ليتعلم تكنولوجيا صناعة المحركات، وأراد أساتذته الألمان أن يمنحوه درجة الدكتوراه في الجانب النظري لعمل المحركات فقط، ولكنه وفي ظل تأكيده لذاته ووضوح هدفه ورؤيته رفض "شهادة الدكتوراه"، واهتم بمعرفة تفاصيل صناعة المحرك ونقل أسرار تلك الصناعة وبصورة حرفية مهنية إلى بلده الذي يتفانى في حبه، إنني أهدي هذا المثل الجميل لشباب أمتنا والأجيال القادمة:
أرسلت الدولة اليابانية في بدء حضارتها بعوثا دراسية إلى ألمانيا، كما بعثت الأمة العربية بعوثا، ورجعت بعوث اليابان لتُحضِّر أمتها، ورجعت بعوث أمتنا خاوية الوفاض، فما هو السر؟، يقول الطالب الياباني أوساهير: لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني الذي ذهبت لأدرس عنده في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء؛ كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم كيف أصنع محركاً صغيراً؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى "موديل"، وهو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف يتم صنعها وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها، وبدلاً من أن يأخذني الأساتذة إلى المعمل أو الورشة أو مركز التدريب العملي أخذوا يعطونني كتبا لأقرأها، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكني ظللت أمام المحرك أياً كانت قوته وكأنني أقف أمام لغز لا يُحَل؛
وفي يوم ما قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي، وجدت في المعرض محركا بقوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلاً جدا، وذهبت إلى حجرتي ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه، كأنني أنظر إلى تاج من الجوهر، وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا لغيرت تاريخ اليابان، وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحدوة الحصان وأسلاك وأذرع دافعة وعجلات وتروس وما إلى ذلك، لو أنني استطعت أن أفك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم أوصلته بمصدر للطاقة فاشتغل وأكون بذلك قد خطوت خطوة نحو سر "موديل" الصناعة الأوروبية الحديثة، وبحثت في رفوف الكتب التي عندي حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات وأخذت ورقا كثيرا وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل، رسمت المحرك بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه، ثم جعلت أفككه قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة، وأعطيتها رقما، وشيئا فشيئا فككته كله، ثم أعدت تركيبه، وشغلته فاشتغل، كاد قلبي يقف من الفرح، استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل!.
وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا، فقال: حسنا فعلت، الآن لا بد أن أختبرك، سأحضر لك محرك متعطل، وعليك أن تفككه وتكتشف موضع الخطأ وتصلحه وتجعل هذا المحرك المُعطََل يعمل.
وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، حيث صنعتها بالمطرقة والمبرد.
بعد ذلك قال رئيس البعثة الذي كان يتولى قيادتي روحيا: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك ثم تركبها في المحرك، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد وصهر النحاس والألمنيوم، بدلاً من أن أُعِد رسالة الدكتوراه كما أراد مني أساتذتي الألمان تحولت إلى عامل ألبس الحلة الزرقاء وأقف صاغرا إلى جانب عامل صهر المعادن، وكنت أُطيع أوامره كأنه سيد عظيم حتى أنني كنت أخدمه وقت الأكل!!، مع أنني من أسرة نبيلة من الساموراي، ولكنني كنت أخدم اليابان، ولأنني أخدم اليابان فلابد أن أتحمل وأتحمل!.
لقد قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثمان سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشرة وخمس عشرة ساعة في اليوم.
وعلم حاكم اليابان بأمري فأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهبا، اشتريت بها أدوات مصنع محركات كامل وأدوات وآلات، وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت، فوضعت راتبي وكل ما ادخرته، وعندما وصلت إلى نجازاكي قيل لي، إن الحاكم يريد أن يراك، قلت لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أبنيَ مصنع محركات كامل، حقيقة أنت شاب بقدر إيمانك وهرم بقدر ما أوتيت من شك، ولذة العيش صحة وشباب.
استغرق ذلك تسع سنوات، وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات مكتوب عليها صُنِع في اليابان قطعة قطعة، حملناها إلى القصر ودخل الحاكم وانحنينا نحييه، وابتسم وقال بعد أن جرب أحد المحركات: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة، هكذا ملكنا "موديل" ياباني أصيل "للموتور" للمحرك، وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا بذلك اليابان إلى الغرب، وصدق من قال: يتوقف مصير كل أمة على شبابها، وتذكر الحكمة القائلة: "إن من يحقق شيئا يحققه لإيمانه بالقدرة على تحقيقه".
إن قصة "أوساهير" تذكرني بقول جميل لبرنارد شو وهو: "الرجلُ القويُ يَعملُ، أما الرجل الضَّعيفُ فيَتمنَّى"، حقاً إن رجلاً مثل "أوساهير" لرجلٌ قوي، وبكل المقاييس.
إنني أتقدم بهذا النموذج من الشباب الياباني إلى شباب أمتنا، والذين أقول عنهم أنهم ثروتنا في المستقبل ويقع على عاتقهم مسئولية نهضة هذه الأمة، والتي لن تتحقق إلا بوضوح الرؤية والهدف لديهم وتأكيدهم لذاتهم، والحمد لله نجد عدداً لا بأس به من شباب الأمة على درجة من الوعي بمشاكل أمتهم، ويسعون جاهدين لحل بعض تلك المشاكل، ولكن ما يضايقني أنني أجد أيضاً من حولي بعض الشباب، وأقول أنهم من الخامات الجيدة، ولكن الرؤية أمامهم ضبابية وغير واضحة، وقضية الولاء لديهم نحو شعوبهم وأوطانهم وأمتهم مهتزة، وأحياناً ما تكون تائهة أو ضائعة، نجد بعض الشباب من بني جلدتنا لا يلبسون إلا من دول الغرب، ولا يشاهدون إلا الأفلام الغربية ولا يأكلون ولا يشربون إلا كما يأكل ويشرب أهل الغرب، وليتهم بعد كل هذا التغريب يعلمون شيئاً عن تاريخ أجدادهم العظيم، أو حتى عن دينهم، أو يكونوا جادين في دراساتهم أو أعمالهم كما يفعل الشباب الغربي!!، ليتهم يقلدون الشباب الغربي في صدقهم وأمانتهم واعتمادهم على أنفسهم منذ وقت مراهقتهم، وشجاعتهم وتحملهم لمسئولية أي قرار يتخذونه في حياتهم، وإتقانهم لأعمالهم، واحترامهم لقيمة العمل مهما قل شأنه مادام عملاً يخدم المجتمع!.
وانظروا معي أيضا إلى مدى مثابرة هذا الشاب الياباني وصبره ليس فقط في صناعة الموديل للمحرك بل في تعلمه لسباكة وسحب وطرق المعادن حتى يتمكن من صنع الأجزاء المعدنية الصغيرة لهذا المحرك، وتجشمه للمشقة الكبيرة في ذلك، أيضا كيف قام بخدمة عمال صهر المعادن؛ حتى يتمكن من تصنيع سبائك القطع الصغيرة اللازمة لصنع المحرك، على الرغم من أنه من أبناء الطبقة الراقية في اليابان!، يقول إفلاطون: "أتقِن عَمَلَكَ تُحقِق أَمَلَكَ".
يتبع >>>>>>>>>>> أخلاقيات العمل