حين كنت صغيرا وحتى ربما سن 14 سنة كنت أتضايق من حمل منديل قماش في جيبي رغم أن والدتي يرحمها الله كانت دائما تضعه في جيب البنطال ... وكنت عندما تصادفه يدي أخرجه وأضعه على أي طاولة أو سرير ... وأشعر أني تورطت فيه إذا لم أكتشفه إلا خارج المنزل، كان حجمه الكبير يضايقني, أشعر أنه لا يليق بي أن أحمل منديلا بهذا الحجم أو المقاس (45 سم مربع)........ ثم حين أصبحت في الجامعة بدأت حساسية أنفي المزمنة في الظهور وكان أبي أو أمي رحمهما الله قد اشتريا لي من السعودية التي كانا يعملان بها، دستة مناديل على غرار مناديل أبي لكن حجمها أصغر (35 سم مربع) من المنديل الرجالي المعتاد ... لا أذكر كم مضى من الوقت عليها ملقاة في خزانة ملابسي .... لكنني ربما منذ أيام الحساسية التي كانت تورثني نزلات التهاب الأنف والجيوب الأنفية كل شتاء .. منذ تلك الأيام وأنا لا أستطيع الاستغناء عن منديل قماش صغير في جيب بنطالي الأيسر.
في نفس الآونة تقريبا بدأ ظهور اختراع الكلينيكس أي المناديل الورقية الرقيقة ... أول ما رأيتها كان في السعودية حيث كانت تباع في السعودية تحت اسم فاين .. ولم يكن هناك غير فاين ... في البداية شكل واحد ولون واحد أبيض ثم ظهرت العلب الملونة المناديل ثم ظهرت العلب ذات اللونين معا بعلبة واحدة....إلخ.. وبعد ذلك عرفت أن اسمها الشائع في مصر ليس فاين وإنما كلينيكس.... والسبب واضح الشركة الموزعة هناك اشترت اسم فاين وماكينة التصنيع من أصحابه الخواجات والشركة الموزعة هنا في مصر اشترت اسم كلينيكس وماكينة التصنيع من مجموعة خواجات أخر...
لم أجد نفسي مقتنعا بأن هذه المناديل تصلح بديلا للمنديل القماش... يعني لا تتحمل فاين أو كلينيكس ما تتحمله مناديلي القماش، وعلى مر سنوات الجامعة بدأت عبوات المناديل الصغيرة في الظهور وبسعر رخيص وبدأت تظهر في أيدي وجيوب المحيطين .. لكنني ظللت على حالي لا يفارقني منديلي القماش الصغير فهو في جيبي دائما، لكنني لم أكن وحيدا أستخدم مناديل القماش فقد كنت أراها مع هذا أو ذاك يخرجها من جيبه لأي سبب أو يستدخمها هنا أو هناك ... وإن ناقشني بعض المقربين من الأصدقاء والأقرباء لماذا تصر على استخدام منديل قماش وكنت أرد بأن منديل الورق لا يتحمل .. بعضهم كان يسكت وبعضهم "يتفذلك" قائلا ممكن نستخدم منديلين ثلاثة أربعة أنت والقوة التي تحتاجها... هذه المناديل صحية تتخلص منها ولا تلوث نفسك باستخدامها مرتين ..... يمكنك أن تعدي نفسك .... لكنني ببساطة لم أكن أقتنع.
طبعا ولأن الشيء بالشيء يذكر لابد أن أحكي قليلا عن أنفي وجيوبها الأنفية فأنا ككثيرين في هذا العالم الملوث تحسست من شيء ما بقيت سنوات لا أعرفه .... لم يكن من علاج آمن وفعال للحساسية قبل أواخر الثمانينات من القرن العشرين... وكنت بالفعل في صراعي مع التهاب الأنف المتكرر، والتهاب الجيوب الأنفية المزمن المتكرر كل هذا مع المفرزات التي تسببها الحساسية كنت قد أجريت عددا من عمليات غسيل الجيوب الأنفية الثقب والغسل Puncture and Lavage للجيب الأنفي الفكي والتي كانت تجرى في مستشفى الجامعة وهي عمليات صغرى أظنها الآن ألغيت... وأجريت كذلك عملية عملية كالدويل-لوك Caldwell-Luc Surgery هي عملية لإزالة الغشاء المخاطي التالف بشكل لا رجعة فيه من الجيب الفكي..... وكنت أبقى شهورا على المضادات الحيوية حتى تكاثرت الزوائد الناتجة عن ذلك كما علق أ.د نادر عبد الحميد جراح الأنف والأذن أمده الله بالصحة والعافية بينما أنا مخدر أثناء الجراحة .. وعرفت بعد ذلك من زملائي الذين حضروا العملية وكنت أيامها في الفاصل بين الجزء الأول والثاني من الماجستير.... وحضر العملية أ.د حسن جاويش جراح الأعصاب وصاحب المستشفى وحكي لي أن د. حسن قال لد. نادر خذ بالك منه وابتعد عن Ethmoid Sinus (الجيب الأنفي الغربالي) ذا نائب سيكياتري (طب نفسي) ابعد عن الفص الجبهي كفاية عليه السيكياتري ..... فرد د. نادر لا اطمئن نحن نعمل بعيدا .. أنفه وجيوبه الفكية ملأى بالزوائد من كثرة استخدامه المضادات الحيوية..... حكى لي ذلك اثنان منهما أخي وزوج أختي وصديقي أ.د محمد موافي طبيب التخدير الذي خدرني.... والآخر أ.د مجدي بدير جراح الأنف والأذن الذي كان يساعد أستاذه د. نادر..... المهم تحسنت بنسبة كبيرة بعد العملية لكني من يومها بدأت أستخدم الغسول القلوي للأنف بشكل يومي مرتين على الأقل.... لم تكن أنفي تكف عن إزعاجي.
في السنة التالية بعد العملية .... تعرفت على علاج الحساسية باستخدام المستضدات Antigens بالحقن تحت الجلد بتركيزات من المستضدات متزايدة مرة أو مرتين في الأسبوع لا أذكر ... لكنيي عرفت ساعتها عدة أسماء لمستضدات تقريبا في كل مكان في مصر الحبيبة لدي حساسية لها .... واظبت طويلا على وحدة علاج الحساسية بكلية طب الزقازيق سنة 1991/1992 ... لكنني للأسف لم أستفد رغم التزامي ... ثم انشغلت في رسالتي دراستي للماجستير ونسيت علاج الحساسية اللهم إلا من حقنة كورتيزون طويل المفعول كل فترة طويلة ... وبقيت مستمرا على الغسول القلوي يوميا مرتان صيفا وثلاث مرات شتاءًا ولم يغادر منديل القماش جيبي لا قبل الجراحة ومحاولة علاج الحساسية ولا بعدهما.
في تلك الفترة التي امتدت ربما سنوات دراسة كلية الطب والماجستير كان مخزوني من المناديل هو ما اشتراه لي أبي أو أمي دستة مناديل رجالي صغيرة ... كان المنديل يبقى في جيبي عاطلا عن الاستخدام اللهم إلا في الشتاء ... حتى أنني كثيرا ما كنت في الصيف أنسى اصطحابه في جيبي.. لكنني كنت أشعر أن لدي ما يكفيني وبالفعل استمرت معي بضع المناديل تلك حتى التسعينات ثم تلاشت لم تفقد لكنها بليت بعد ثمانية أعوام معي... وبدأت أبحث عن مناديل قماشي رجالي حجم أو مقاس صغير ... فلا أجد ... كان المتاح دائما هو مناديل القماش الرجالي بمقاسها الذي لم أكن أحبه وإن اضطررت إليها أحيانا وبدأت أحمل أحيانا مناديل ورقية لأستخدمها كل استخدام إلا نفث ما في أنفي ...... لكنني ظللت أوصي كل من أعرف في دول الخليج أن يبحث لي عن مناديل قماش رجالي مقاس صغير ... تعبت أمي يرحمها الله وأختيّ في البحث في كل سفرة للخليج ... ولم يعثر أحد على تلك المناديل الرجالي الصغيرة، في الوقت الذي اختفت فيه حتى المناديل القماش الحريمي التي كانت أصغر حجما من منديلي المعتاد... ثم في سنة 2000 أهديت منديلين من إنسان عزيز اشتراهما من الكويت (يعني الخليج أيضًا) أحدهما كان أخضر اللون والآخر أحمر هو المرفقة صورته أعلاه ... بدأت بالأخضر أصطحبه أينما كنت أرتدي ملابس الخروج وكنت أراه أكثر ملائمة لرجل من الأحمر ... فكان في جيبي وأنا أتحرك طوال 10 سنوات ما بين 2000 و2010 ... كنت أغسله مرة أو مرتين في الأسبوع بنفسي أو تغسله زوجتي وكانت تقسو عليه بينما كنت أحنو في الغسيل ولكن في النهاية اتضح أن كله غسيل وتهالكت قماشة المنديل حتى بليت... ولم يعد متاحا لي إلا المنديل الأحمر.
والمنديل الأحمر الباقي لم يكن فقط المنديل الوحيد مقاسا الذي يريحني أن يكون في جيبي .. وإنما كان البقية المادية الباقية من هدية غالية من ذلك الإنسان العزيز الذي فقدته بين حربي الخليج الأولى (حرب تدمير العراق وتحرير الكويت) والثانية (حرب احتلال العراق)... كنت أعزي نفسي وأنا أشاهد عوامل التعرية تجتاح المنديل الأخضر بأن لدي الأحمر .... لكن الآن لم يعد إلا الأحمر فأصبحت لا أستخدمه إلا مضطرا لكن وجوده في جيبي كان مهما من كل الأبعاد ... وبينما أشكو لوالدتي رحمة الله عليها قالت لي : يا بني أنت لو ترضى بمنديل بنفس المقاس الذي تحبه لكن قماش سادة من اللون الذي تريد كنت خيطت لك 20 منديلا .... وأنما هبطت الفكرة من السماء قلت لها ومن قال أني أرفض بل ليتك تفعلين ...... وبالفعل طارت زوجتي نانسي واشترت 3 قماشات أزرق فاتح يميل إلى البياض وسمني وبني فاتح يميل إلى البياض ... وأصبح عندي ثلاثين منديلا قماش سادة وأبقيت المنديل الأحمر معطرا في جيبي لا يستخدم لكنه يحتضن رفيقا يستخدم بدلا منه.
في السنة الماضية لتوها 2019 انتبهت إلى أنني لم يتبق لدي من 30 منديل إلا ثلاثة كلهم من اللون البني الأقل استخداما من جانبي ... ولفت نظري ذلك إلى أنني لابد بذلت مجهودا لم يكن واعيا في الحفاظ على المنديل الأخضر، فقد بقي لا يبلى 10 سنوات بينما أنا أهلكت أكثر من 25 منديل في عشر مماثلة أو أقل !! هل الفرق في نوع القماش أم في الاهتمام والخوف على المنديل ؟؟ لا أدري...... المهم أن المنديل الأحمر الباقي ما يزال معطرا في جيبي وأخاف أن أضطر إليه أكثر وقد تسارع انقراض مناديلي القماش السادة.
هذه الأيام لم يعد أحد أقابله يحمل منديل قماش.... كل الناس تحولوا ... وأصبح أولادي يكررون انتقادهم لإصراري هذا العجيب على حمل منديل قماش وزوجاتي يضعن لي باكيت مناديل ورق صغير إلى جوار المنديل القماش بعد غسله... وأصبح المقربون يسألونني بين الحين والآخر لماذا لا تستخدم المناديل العادية !! وكل مرة ما تزال تأتيني صفة العادية هذه صادمة !! فليست المناديل الورقية هي العادية وإنما العادية هي المناديل القماش ... لكن باضطراد يبدو هذا المفهوم خاصا بي لا يشاركني فيه أحد أعرفه فمن منكم يشارك ؟
واقرأ أيضًا:
مدونات مجانين: (3) عيد على من عائد يا عيد؟ / مدونات مجانين: كيف ننجو بالعراق؟