لابد هنا من وقفة أسجل فيها وقائع تبين مقدار الهلع وحالة الفوبيا الجمعية لسكان الكرة الأرضية بأسرها من هذا الفايروس المُعدي، وسيكون مدخلنا باتجاهين:
الأول: نفسي، والآخر: اجتماعي يخص موضوع السلوك الجمعي، وهي مادة تدرس لطلبة علم الاجتماع، وصدر لي فيها كتاب بعنوان: مقدمة في السلوك الجمعي في العام 2019، وهو مدخل علمي أكاديمي لدراسة الظواهر الاجتماعية – النفسية ذات التأثير المباشر على العقل الجمعي، مثل انتشار الشائعات والموضة، والبدعة، والهوس والهلع وموضوعات أخرى يتناولها هذا الموضوع المهم في حياة الناس، وسنتناول حالة الهستيريا بفعل تأثير الفايروس، وكذلك معالجات لوبون لهذه الظاهرة الواسعة الانتشار.
إن حالة فايروس الكورونا هي حالة هستيريا جماعية تعمُّ المجتمعات الإنسانية بأسرها الآن فضلاً عن التضخيم والمبالغة في تهويل المرض والشائعات المصاحبة له. لو تساءلنا ما هي الهستيريا كحالة؟ وما هي الفوبيا "المخاوف المرضية" كحالة؟ لا نعني هنا الاضطراب بعينه، وإنما الهستيريا كحالة ناجمة عن موقف، وكذلك الفوبيا "المخاوف" كحالة ناجمة عن موقف بعينه، كما هو القلق حينما يكون حالة، وحينما يكون اضطراباً، هنا علينا أن نفرق بين قلق الامتحان كحالة ناجمة عن الامتحان نفسه، بينما القلق كاضطراب فهو حالة مستمرة توسم الشخص بأنه شخصية قلقة، وتصنف بالقلق المرضي، وصدق "سيجموند فرويد" حينما قال: أن القلق هي المادة الخام لكل الأمراض النفسية، نعم يثير فايروس الكورونا القلق لدى النسبة الأعظم من سكان الكرة الأرضية، في مشارقها ومغاربها، وتؤكد لنا خبرتنا الطويلة في هذا التخصص علم النفس وعلم النفس المرضي بالتحديد أن قلق "الكورونا" يؤثر في حياة الناس العامة تأثيراً لا شك فيه، فمن المحتمل أن يضطرب الأفراد وتقديرهم لنفسهم كما يضطرب تقديرهم للآخرين، لا سيما أن انتقال هذا الفايروس يكون سريعاً، وانتشاره هائل، هنا لابد أن نعرج على بروز ظواهر مثل بعض الأعراض الوسواسية القهرية، مثل غسل اليدين مراراً وتكراراً بحجة التطهير من الميكروبات والقاذورات، ولكن في الحقيقة إن لهذه الأعراض أوهام أخرى مرتبطة بمشاعر ورغبات خفية تتحقق بفعل التطهير المستمر إذا ما زادت عن حدودها.
بمكننا القول هنا أن الأسوياء لا يبرأون من اللبس بين ما يحمله التحصين من هذا الفايروس"الكورونا" وهو الواقع الفعلي، وبين ما تحمله ذواتهم من رغبات كانت مكبوتة بفعل المجتمع أو العيب، وهو الواقع الذاتي إن صحّ تسميته، وهذا الافتراض قابل للقبول، وربما قابل للنفي، وإن حمل بين حنايا النفس من رغبات غير معلنة، تباً لعلم نفس الأعماق من تحليلات محرجة لنا ولصاحبها، وفي النهاية هل تذعن النفس بقبول الحقيقة؟ وهي معلومة يستطيع كل إنسان أن يجد لها صدىً في نفسه.
ما الذي يتركه فايروس كورونا على سلوك الإنسان؟
لا أعني حينما يصاب به، بل في حالة التهيؤ التي يعيشها الفرد في مواجهة خطر الإصابة، وكل الدلائل تشير بعدم وجود مضاد فعال لعلاجه، وكل ما هو شائع تكهنات بضرورة الحذر منه، واتخاذ التدابير اللازمة من الإصابة به لا سيما التحذير مخيف وربما مرعب، عند ذلك تظهر ألوان اللبس سافرةً وخاصة اللبس بين الواقع والمتخيل، فإذا كان الواقع طفيفاً، فإن وسائل الإعلام وصفحات النت والتواصل الاجتماعي تنقل لنا ما يهز أبداننا بالخوف والرعب، فممّا لا مفر منه أن نرى مشاعر الفرد تجاه الفايروس تتبلور في مجموعة من الانفعالات لا يبررها الموقف الذي يكتنفها، إنها محنة البشر إزاء هذا القاتل المجهول الذي يهدد وجودنا الحقيقي في الحياة بدون القدرة على مواجهته بالعلاج أو التحصين الحقيقي منه.
نتساءل هل يفسح مرض الكورونا المجال لإطلاق من في نفسه أساس للاضطراب النفسي أن يضطرب؟ لا سيما أن جميع الأعراض في الاضطراب النفسي متهيئة، وقول عالم النفس العربي "مصطفى زيور" الأمراض النفسية تعبير عن تخيلات تقوم لدى المريض مقام الواقع، فمثل المريض النفسي مثل قومِ يؤمنون بالسحر، فما عليهم إلا أن يقولوا تعويذة حتى يتحقق ما يُضمرون من رغبات، بعبارة أخرى، إن الاضطراب النفسي والتفكير السحري يقومان على أساس واحد، أعني أن الخيال يكافئ الواقع والنية تساوي الفعل.
أما ظاهرة انتشار مرض الكورونا كحالة هستيريا جماعية تعاني منها شعوب الكرة الأرضية فهي حقاً حالة هستيريا زادتها أكثر الشائعات المصاحبة لها فضلاً عن الإيحاء الذي يُلون أشكال الشائعات وانتشارها، لا سيما أن المجتمعات بأسرها تؤمن بالخرافات والتخيلات الميتافيزيقية، لا أستثني منها أحداً، سواء كانت المجتمعات الشرقية الموغلة بالخرافات، أو المجتمعات الغربية المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً، أو الشرقية الصناعية مثل الصين واليابان، حينما لجأ قادة الصين إلى طلب العون من المسلمين في الصين بإقامة صلاة خاصة لنجاة الأمة الصينية من هذا الفايروس. سبق وأن قلنا في كتاب السلوك الجمعي أن السلوك الجمعي يعني التشكيل التلقائي لجمع من الناس على هيئة حشد أو جماعة أو شعب أو أمة يخضعون لقيم طارئة وهو نسبياً غير منظم وغير مخطط لتشكيلته أو تطوره أو تدهوره، ولا يمكن التنبؤ بنتائجه وهو حصيلة الإثارة المشتركة للمشاركين فيه، فالأفراد يتأثر بعضهم بالبعض الآخر، وكذلك تؤثر ردود الفعل المشتركة في أعضاء المجتمع كما قال عنه "ألوك وآخرون" لذا فانتشار الشائعات وحالة الهلع الجمعي وحالة الهستيريا الجمعية، والمخاوف المصاحبة لهذا الموقف الغامض أمر بديهي في مسار فعل السلوك الجمعي وحيثياته، لأنه سلوك حشد في مواقف غير منتظمة ولا تحكمها المعايير الاجتماعية السائدة، بقدر ما تحكمها القيم والمعايير الطارئة والمؤقتة، وهو بنفس الوقت كما يقول "حاتم الكعبي" ضرب من السلوك الاجتماعي، أي سلوك الجماعات التي ينتظم أعضاؤها بشكل عفوي بتأثير حالة عقلية مشتركة ويسيطر عليها جوٌّ نفسي اجتماعي خاص، وإزاء ذلك يضعف الإدراك الاجتماعي الفردي والجمعي في زحمة الفوضى وانعدام التنظيم فتنتشر الشائعات وحالة الهلع والمخاوف التي تؤدي إلى الاضطرابات، فضلاً عن حالة الهستيريا الجمعية.
يرى "غوستاف لوبون" وهو طبيب فرنسي ومؤرخ اهتم بدراسة الحضارة الشرقية ودراسة المجتمعات وقوله في موضوع الإثارة والهيجان "يقع الأفراد تحت التأثير السريع والمفاجئ في سرعة التصديق مما يمهد السبيل إلى خلق الأساطير وبث الشائعات ونشرها بسهولة فائقة، إلا أن هذا الاندفاع في العواطف يتصف بعدم الثبات والاستقرار".
خلاصة السطور التي عرضنا لها وجهات نظر نفسية – اجتماعية هل يكون من المحتمل أن البشرية أصبحت كبش فداء للسياسة والاقتصاد والصراع الدولي من أجل السيطرة التامة على البشرية دون استثناء، لا سيما أن كبش الفداء كظاهرة اجتماعية لها علاقة بكيان المجتمعات وإدارتها أو السيطرة عليها سياسياً واقتصادياً، نحن وإياكم لا نملك أية معلومة مؤكدة عن أطراف الصراع السياسي – الاقتصادي والذي تحول إلى صراع نفسي فردي وجمعي عند سكان العالم رغم تحضره وتقدمه.
واقرأ أيضًا:
الندم.. مدخل سيكولوجي لمحنة الذات / التربية ومشكلة التعصب!! / البلوغ والتشنجات العقلية / بين التأمل والتركيز ماذا يجري في الدماغ؟