الفصل التاسع عشر
والبطل في الأدب الإسلامي ليس حكراً على طبقة اجتماعية دون أخرى، فالإسلام مجتمع متجانس، أساس التفاضل فيه (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)، والتقوى ليست صلاة وصوماً وعبادة فحسب، ولكنها جهاد في سبيل الله، وكفاح من أجل لقمة العيش، ودأب على تحصيل العلم، وبراعة في الصناعة، وصدق في القول والعمل، وتكافل اجتماعي، وإبداع فكري، وزارعة وتجارة، وقيادة وجندية وأمانة وعدل ووفاء، وطهر، ونقاء ، وبر وتسامح، إنها ملتقى لكل القيم والمبادئ والآداب التي بها الإسلام الحنيف.
شخصية البطل إذن قد تكون (بلال بن رباح) العبد الحبشي، وقد تكون (أبو بكر الصديق) خليفة المسلمين، وقد تكون (سلمان الفارسي) أو (حمزة بن عبد المطلب) القرشي، وقد تكون (سمية) زوجة ياسر أو رفيدة أو غيرها من النساء، وقد يكون فتى يافعاً، أو شيخاً مسناً.
إن البطل ـكما قلناـ تجسيد لفكرة يرى الكاتب إبرازها، لتؤدي دوراً تمتزج فيه المتعة لدى الكاتب والمتلقي، فيتفاعل معها ويتأثر بها، ومن ثم تتولد لدى ذلك المتلقي قناعات بعينها، قد تدفعه إلى اتخاذ موقف، وهذا التأثير واسع الآفاق، رحب المدى، فقد ينمو ويتسع أكثر مما في شخصية البطل، وهذا راجع إلى عاملين أساسيين: أولهما قدرة الكاتب على الوفاء بمقتضيات الفن والفكر، بحيث لا يحد من رؤية المتلقي، ولكن يدفعه إلى مزيد من التفاعل والتفكير فيخرج بإضافات وتخيلات وابتكارات، تجعل الرؤية أكثر عمقاً وشمولاً، وكأن المتلقي في هذه الحالة يتحول ـتلقائياًـ إلى امتداد طبيعي لفكرة الكاتب وتصوراته المتنامية المتفاعلة، أما العامل الثاني فهو اندماج المتلقي مع العمل الأدبي، وتقبله له بحساسية ورضى صادق، ولا شك أن اكتمال هذه الدائرة يحقق الهدف الأسمى من الأدب، فالأدب الإسلامي بالضرورة قوة فاعلة، مغيرة إلى الأفضل، وإلا ما هي وظيفته إذن؟؟!
لكن كيف يبتكر الكاتب شخصية البطل؟؟
إن الكاتب لا ينتخب الشخصية عشوائياً، كما أنه لا يسطر كلماته من فراغ، قد يلتقط الكاتب من الحياة شخصية جذبت انتباهه بقوتها أو نقائها أو صمودها أمام العواصف والأنواء، أو تمردها على الشر والباطل، أو جهاد في سبيل الحق والخير، أو استمساكها بقيم الحب والفضيلة، أو تضحياتها الملفتة للنظر، فيرى الكاتب أن هذه الشخصية الحقيقة تستطيع أن تؤدي دوراً أخاذاً في عمل أدبي، وأن تبلور فكرة أو سلوكاً أو قضية من القضايا، فيبدأ في تطويعها لعمله الأدبي، لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، لأن الكاتب لا ينقل الحياة أو الشخصية كما هي بأسلوب فوتوغرافي، إنه يضيف إلى تلك الشخصية لمسات وظلالاً وسماتاً جديدة، ويحشد لها الأحاديث المناسبة، ويتخيل الحوار المناسب، ويدخل بها ومعها في وقائع وممارسات متخيلة تكشف عن دخيلة الشخصية وتفسر حركتها وفكرها، المهم أن الكاتب قد يحذف وقد يضيف، حتى يستوي أمامه النموذج الذي يريد، وهكذا نرى أن شخصية البطل ليست صورة طبق الأصل من الواقع ولكنها كائن حي جديد تكاملت لديه المواصفات والأسباب التي تجعله قادراً على أداء دوره، وفي هذه النقطة بالذات تتفاوت القدرات الإبداعية من كاتب إلى آخر، ويتميز نتاج كاتب عن آخر، إنها الخصوصية، وهنا يحضرني ما قاله الأديب الكبير نجيب محفوظ في أحد أحاديثه الصحفية: (الشكل فيما أعتقد هو كيف يمكنك أن تبرز أسلوبك الشخصي في العمل الأدبي أو الفني، قد استفيد مثلاً من المؤرخين، لكن لا يصح أن يغيب أسلوبي، إن التطور الطبيعي للأدب يستفيد من الأدب السابق، سواء أكان امتداداً له أم تطورياً، لكن ما الذي يضيفه الكاتب؛ الكاتب يضيف نفسه إلى الرواية، فالجديد هو الفنان نفسه، والفنان بالطبع هو عصره)؛
وهناك أدباء لا تكون شخصية البطل هي البداية، ولكنهم يبدأون بالفكرة، إن أديباً مثل (برنارد شو) يهتم بالفكرة أشد الاهتمام (الفكرة لديه هي البطل الحقيقي) فإذا ما اكتملت الفكرة في ذهنه، بحث عن النموذج الإنساني الذي يتلبس بهذه الفكرة، ويتحرك في نطاقها وبتأثير منها، وهكذا تأتي ردود الأفعال مرتبطة بالفكر أكثر من ارتباطها بالبطل، إنه بلا شك يحاول أن يحافظ على (وضع) الشخصية وإمكاناتها وتحركاتها، لكننا نلمح الفكر وراء كل حركة أو حوار، وقد لا يكتفي المؤلف بذلك، بل قد يلجأ إلى التعبير المباشر من خلال الحوار في المسرحية أو السرد في القصة أو الصياغة الشعرية في القصيدة أو في الملحمة، وعلى الرغم من اختلاف النقاد حول مشروعية ذلك التصرف في الأعمال الفنية، إلا أنه حقيقة واقعة، وبعضهم يتحمس لها، وخاصة أصحاب المذاهب والأفكار التي يروجون لها على حساب جزء من الصياغة الفنية.
ويرى بعض كتاب القصة والمسرحية في العمل الأدبي قد تتمرد!! كيف؟؟، إن الكاتب يضع تصوراً عاماً عن الشخصية التي التقطها من الحياة، وأضاف إليها أو حذف منها لكن اندماجه في العمل، ومسرحية في جنبات الرؤية التي يعايشها خيالاً، قد تجعله يخرج عن الخط المرسوم للشخصية فيضيف سمة أو عملاً أو قولاً لم يكن في الحسبان، ولم يخطر بباله قبل، لكن الأمر لا يبدو على هذه الصورة الحتمية في الواقع، لأن يقظة الكاتب، واستيعابه لأطراف القضية المطروحة قادراً على اتخاذ الموقف المناسب، أما الفئة الأخرى من الكتاب الذين يضيقون عادة بالالتزام فهم أكثر استسلاماً للتلقائية والعفوية في رسم الشخصية وتحريكها.
ويتساءل بعضهم عن مدى حرية الكاتب في تناول شخصية البطل التاريخي، هل يستطيع أن يضيف أو يحذف، وخاصة بالنسبة للشخصيات التي اكتسبت نوعاً من القداسة أو التبجيل على مدار الحقب، إن الكاتب إذا التزم حرفياً بما جاء في كتب التاريخ، فلن يقدم عملاً فنياً، بل سيكون ما طرحه مجرد عرض تاريخي، وهو أدخل في باب العلوم، منه في باب الفنون، وهناك أمور تقتضيها القصة بمعناها الفني منها النوازع النفسية، والترجمة عنها في أعمال أو أقوال، وهناك المواقف الناقصة فنياً والتي تحتاج إلى استكمال، وهناك عوامل القوة والضعف التي قد تعتري الإنسان العادي، أو البشر بصفة عامة، وهناك نمو الحدث وما يتطلبه من صنعه قد تجر إلى الإطالة أو الإيجاز، وأمور أخرى كثيرة لا مجال لشرحها بالتفصيل، ويجد فيها الكاتب معاناة شخصية لا يستطيع أن يدركها على حقيقتها غيره، إنها مشكلة بالفعل، لكن بالتفكير الواقعي قد نجد لها بعض الحلول فإذا ما تناول الكاتب شخصية مثل صلاح الدين الأيوبي مثلاً، فلا بد أن يكون قد درسها دراسة مستفيضة وألم بأبعادها، وعرف القيم والمبادئ التي شكلتها، والسلوكيات التي يتصف بها، ومواقفه المختلفة أمام الأحداث المتنوعة، وطريقة تعامله وعلاقاته مع الآخرين، ومنهجية في الحرب والسلم والسياسة، وغير ذلك مما يتصل بشخصيته اتصالاً وثيقاً، إن فهم الشخصية على هذا النحو يمد الكاتب بتصور سليم، ومن ثم يستطيع أن يضع الحوار، ويرسم الحركة، ويصف السلوك، ويتغلغل إلى النفس، وفق ذلك التصور الذي اقتنع به عن هذه الشخصية المعروفة، لكن يظل (الخطر) ماثلاً بالنسبة لبعض الكتاب الذين تنقصهم الجدية في الدرس، والأمانة في الطرح، والنبل في الغاية أو الهدف، والاستمساك بالمبادئ.
ذولا بد أن نشير إلى الشخصية الواقعية ـ سواء كانت منتجة من الواقع المعاصر أو الواقع التاريخي ـ تكون لها جاذبيتها، أما الشخصيات التي صنعت من الوهم أو الخيال المحض واتسمت بسمات وهمية تبدو عادة غير مقنعة وغير مقبول، حتى على مستوى الأطفال، الذين اصحبوا أكثر ميلاً للواقع في هذا العصر، نتيجة للتطورات ووسائل الإعلام المذهلة ولكن تظل قدرة الفنان على رسم الشخصية، ومدها بوسائل الإقناع، وهو ضرب من الصدق الفني يظل المعمول والمحك في النجاح أو الفشل.
لقد استطاعت آداب الغرب أن تضفي على الشخصيات العليلة المنطوية المتردية بطولة وبريقاً، فأفسدت فكر وأذواق الأجيال، لأنها أفسدت معنى البطولة، ألحقت به التشويه، فلم يعد يرى الناس في هذا التشويه إلا جمالاً ومثالاً احتذى، ودور الأدب الإسلامي ـ وفق منظوره الإلهي ـ أن يضع الأمور في حجمها الصحيح، وأن ينفي الزيف والخرق عن شخصيات البطولة، بحيث تصبح عامل بناء لا هدم، وهذا يعني بالطبع العودة بالأدب الإنساني إلى رسالته الصحيحة، البطل العليل المختل فكرياً ونفسياً وسلوكياً أصبح ينتزع في الغرب التصفيق والإعجاب والتعاطف، ويبدو أن عدوى ذلك التصور السقيم تزحف إلى أمم الشرق المسلمة اليوم مع فيروس (الإيدز) ذلك الداء اللعين.... انتهى كلام الدكتور نجيب الكيلاني.
يتبع >>>>>>>>>>> موليير وأبطال مسرحياته