الذي هيمن على الوعي الجمعي العربي وحدد مسارات الرؤى والتصورات ربما كتاب الغزالي في القرن الحادي عشر المسمى "تهافت الفلاسفة" الذي كتبه بأسلوب حواري رداً على الفلاسفة العرب وانتهى بتكفيرهم لأنهم اعتمدوا على الفكر اليوناني الذي يراه وثنياً مما أدى إلى اعتبار ما جاؤوا به كفراً.
والفلاسفة المعنيون بالتكفير هم الكندي والفارابي وابن سينا، لكن الغزالي ترك الحبل على غاربه في موضوع قتلهم بعد تكفيرهم. وقد تصدى للغزالي بعد قرن العلامة الفقيه الطبيب الفيلسوف ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت" الذي أعاد فيه للعقل قيمته ودوره الحضاري المنير.
والمشكلة في الكتابين أن الأول ساد والثاني مات، فكتاب "تهافت الفلاسفة" حيٌّ يُرزق ومعمول به حتى يومنا هذا، وكتاب تهافت التهافت مات في وقته أو تم وأده بموجب إرادة فقهاء ذلك العصر الذين يتحكمون بقرارات السلطان. فلا قرار في مسيرة حكمنا الطويلة أصدره خليفة أو سلطان إلا وقد نال استحسان الفقهاء وفتواهم وتبريكاتهم، فهم في حقيقة الأمر الذين يصدرون الأحكام ومثلما يريد السلطان.
"تهافت الفلاسفة" انبثقت عنه مجاميع ومشاريع وفرق وأحزاب وغيرها من الحركات التي تستمد فكرها ورؤيتها منه، بل وبرز فقهاء ومفكرون مؤثرون ولدوا من رحمه. أما كتاب "تهافت التهافت" فإنه أُحْرِقَ وتم تكفير صاحبه واتهامه بالزندقة وتحقق نفيه والإمعان بالقسوة عليه.
ولم يلتفت العرب له ولغيره من كتبه منذ القرن الثاني عشر وحتى اليوم، لكن أوربا في القرن الثالث عشر انتبهت إلى كتبه وترجمتها، ويُؤكد الكثيرون أن الثورة الانبعاثية أو التنويرية قد انطلقت بسببها. فالعرب كانوا أمام تهافتين، فاختاروا الذي أزرى بهم وتهافتوا به، وما أدركوا قيمة تهافت التهافت ومعانيه وما فيه من أفكار حضارية ذات قدرات تنويرية مطلقة، ولو أنهم عملوا ببعض ما احتواه من أفكار لكانوا سادة الأمم وقادتها منذ قرون بعيدة.
واليوم ما أحوجنا إلى إحياء الأفكار التنويرية الداعية إلى إعمال العقول وتحفيزها والعمل بمقتضيات معطياتها المعاصرة، وهي ذات الدعوة التي إنالقت في قرطبة في القرن الثاني عشر بقيادة ابن رشد.
فهل نستطيع أن نعيد للعقل سلطانه؟!!
واقرأ أيضاً:
قتلُ الأعلام من الإظلام!! / الكورونا دولار!! / كورونا والنفط!!