شخصية الحجاج المثيرة للجدل والاستغراب لا يمكن فهمها والاقتراب منها بوضوح بمعزل عن عبد الملك بن مروان الذي تولى قيادة الدولة الأموية وهي على شفا الانهيار، ووجد نفسه في مأزق عدم القدرة على السيطرة على الفتن والاضطرابات. فالمسلمون لديهم قيادتان في دمشق والمدينة، فالدولة منشطرة، والإسلام في خطر، فكان لا بد من شخصية عنيفة لا تعرف الهوادة ذات قدرة فائقة على محق الفتن، فتم اختيار الحجاج بن يوسف الثقفي لهذه المهمة بتوصية من قائد شرطة عبد الملك بن مروان.
الغريب في أمر الشخصيتين أنهما من حفظة القرآن والمتعمقين بدراسته، ولديهما ثقافة فقهية عالية وإلمام باللغة العربية، فعبد الملك بن مروان عرف بتقواه وملازمته للقرآن، والحجاج بن يوسف الثقفي عرف بتعليمه للقرآن وحفظه له كما كان أبوه، ولديه قدرة خطابية مؤثرة.
والحجاج عنده نوازع غريبة وكأنه ولد منتمياً لعبد الملك بن مروان، ولا يُعرف إن كان متأثراً به عندما كان في المدينة، ومبهوراً بتقواه وعلمه وكأنه لا يفرق بينه وبين الدين، ويحسبه هو الإسلام الذي على جميع المسلمين اتباعه والعمل بموجبه. أي أن هناك تماهي مطلق ما بين الحجاج والخليفة عبد الملك بن مروان، ولهذا قد أبلى الحجاج بلاءً لا نظير له في خدمته وتنفيذ أوامره وتأكيد سلطانه، وكأنه كان يعشقه إلى حد الهيام!!
ولولا الحجاج لما قامت قائمة لدولة بني أمية، فهو الذي أرسى دعائمها فقضى على الفتن والانشقاقات بقوة فتاكة، حتى صار القتل عنده من أبسط الأمور، وقضاءه على عبدالله بن الزبير معروف، وولايته للمدينة، ومن ثم العراق وما فعل في الكوفة وأهلها، وما قام به من فتوحات وصلت إلى الهند والسند والصين، وما أنجزه من تنقيط الحروف وتيسير القرآن للقارئين، وسك النقود وبناء مدينة واسط، وغيرها من الإنجازات التي طمستها سلوكياته العنيفة القاسية الدامية.
ويعترف ولاة الأمويين بدوره في تقوية وحماية دولتهم وتطويرها، فكان الوليد بن عبد الملك على نهج والده يدين للحجاج بقوة الدولة ويعتمد عليه ويطلقه بوجه العواصف والثورات فيخمدها ويفتك بالقائمين بها، ويقدم رؤوسهم هدايا للخليفة. وكأنه كان الخليفة الفعلي، والذين في دمشق الخلفاء الرمزيُّون، وبعد وفاة الحجاج لم تتمكن الدولة الأموية الصمود لبضعة عقود لتعاظم الثورات والانشقاقات ضدها، وما وجدت مَن هو بكفاءة الحجاج للذود عنها.
وبعد هذا عندما نعود إلى عبد الملك بن مروان الذي تولى الخلافة وتجربته محدودة في القيادة لكنه فقيهاً مفوّهاً ويميل إلى التقى ومخافة ربه، وعندما أخبروه بتوليه المنصب بعد وفاة أبيه مروان بن الحكم كان يقرأ القرآن فخاطبه بعد أن أغلقه "هذا فراق بيني وبينك" وبهذه العبارة لخّص معنى علاقة الدولة بالدين.
فعبد الملك بن مروان كان وكأنه شخصيتان متناقضتان، الأولى هي المتدينة التقية والأخرى الشرسة والدموية الفتاكة التي لا ترحم، ويبدو أنه عاش صراعاً بينهما أوجعه وقضّ مضاجعه، لكن الحجاج قد أنقذه من هذا الصراع العنيف إذ عبّر بقوة عن الشخصية السادية الكامنة فيه، فأطلق له العنان ليمعن بالقتل وسفك الدماء، ليقول لنفسه أن الحجاج فعلها وليس هو، وأنه أي الحجاج يرى ما قام به لخدمة الدين والحفاظ على دورة المسلمين، وقد كفاني الله به شر الفتن والاضطرابات والانقسامات، وأنه قدر الأمة وغضب الله على الظالمين فيها.
أي أن عبد الملك بن مروان قد استحضر ما يسوّغ سلوك الحجاج، ولهذا لم يمنعه إلا فيما ندر من القيام بما يعجز المرء عن تخيله من الإقدام على قتل الناس بنفسه، إذ قتل عشرات الآلاف من الناس وما فتئ يقتل ويقتل حتى انتهى قبل آخر مَن قتل بسعيد بن حبير.
وكان الحجاج لا يرى كبيراً إلا الخليفة عبد الملك بن مروان، ولهذا تصاغرت أمامه الأسماء والرموز فتعامل معها على أنها موجودات جاهزة للقتل بسيفه البتار. وكان يبرر قتله للناس بحجج وأسانيد يستلها من القرآن ومن الأحاديث، فهو حاضر الحجة، نبيه البرهان، فكان لذلك دور كبير في سلوكه الدامي.
فلكي تقتل بهذه الفظاعة والوحشية لابد من تبريرات وتسويغات دينية تجعل من القتل طقس عبادة وفعل جهاد للحفاظ على الدين ودولته. ويمكن القول أن الحجاج هو عبد الملك بن مروان بشخصيته التي يحاول عدم الكشف عنها أو تمويهها وإسقاطها على الحجاج الذي عبر عنها أصدق تعبير.
وذلك تزامن تفاعلي قل حدوثه في التاريخ، لكنه عندما يحصل تتحقق العجائب العُجاب!!
واقرأ أيضاً:
الانعقارية!! / ورقة التوت البشرية!! / النُخب العليلة!!