لكل مكان أفكاره، ولكل زمان موجباته، ولا يمكن للأمكنة والأزمنة أن تتطابق، ولا يجوز فرض حالة مكانية وزمانية على غيرها، فمثلما لا يمكن عبور النهر مرتين، لا يمكن التواجد في المكان والزمان مرتين، بمعنى أن يكون المكان ثابتاً وكذلك الزمان.
وسبب ذلك أن الأرض تدور ولا تعرف التوقف عن الحركة ولو للحظة واحدة، مما يعني أن التغيير ديدن الوجود فوق التراب، وهو منهج الحياة، فلا حالة تبقى على حالها، ولا يمكن الجزم بالثبات لأنه يتنافى وإرادة الدوران التي تتحكم بالموجودات الأرضية.
ووفقاً لإرادة الأرض ونواميس الكون المحكومة بها فإن آليات الرؤى والتصورات والتقديرات والتقيمات تتبدل وتكتسب معاني متفقة وما أدركته أو توصلت إليه، فما نراه اليوم لا يتوافق تماماً مع ما سنراه غداً أو بعد غد، وما كان فيما مضى غير كائنٍ فيما حضر. وهذا يعني أن النسبية فاعلة في الوجود على مستوياته المتنوعة، وأن الإطلاقية لا وجود لها ولا أساس، فلا مطلق إلا الذي لا ندركه ولا نراه، وهذا المُطلق نعجز عن تصوره وتحسسه لأنه خارج المدارك الحسية للمخلوقات ومنها البشر.
وعليه فإن الإعتماد على رأي أو تصور متحقق في مكان وزمان ما واستحضاره لمواجهة ما هو حاصل في مكان وزمان آخر لا يتوافق ومنطق الدوران ومناهج الأكوان.
وهذا السلوك هو الذي أوقع البشرية في متاهات ومطبات خسرانية مروعة، فلو أخذنا مواقف الفقهاء في قرن ما إزاء حالة ما وعملنا بها في زمننا المعاصر فإننا نهينها وندمر ذاتنا وموضوعنا، وهذا ما يتأكد في الحركات التي تدَّعي الدينية وتتبع هذا الفقيه أو غيره وتستهدي بآرائه وأفكاره وتعزله عن مكانه وزمانه والضرورات التي حتمت عليه القول بما قاله ورآه.
فلو أخذنا منطلقات الفقهاء في القرن الثالث عشر لتَبَيَّن بأنها ذات قيمة عملية في مكانها وزمانها، وقد أدت دورها وحافظت على الوجود العربي والدين، وحمته من الانقراض الأكيد والإبادة الحتمية التي عصفت به بعد سقوط بغداد على يد هولاكو واندفاعه نحو بلاد الشام ومصر، ولو أنه تمكن منهما لما بقي للإسلام والعرب مقام ودور في الدنيا، لكن أولئك الفقهاء والأمناء على الأمة رفعوا رايات التحدي والجهاد وانتصروا على الهولاكيين، وأدلوا بفتاواهم ورؤاهم التي حافظت على العرب والدين.
وما أطلقوه في مكانه وزمانه لا يصلح لأي مكان آخر وزمان غير زمانهم، وقد ينفع استخلاص المعاني والعبر مما اجتهدوا به، لكن لا يمكن للتبعية الحرفية العمياء أن تكون دواءً، وإنما داءً فتاكاً. وأكثر الفقهاء العرب الذين أثروا في مسيرة الأمة ومقامها هم من الجهابذة النبغاء الذين امتلكوا قدرات ذكائية معرفية متميزة استطاعوا توظيفها لخدمة الصالح العام والحفاظ على الدين، ولا يوجد تناقض بينهم، وإنما رؤاهم ذات زوايا متعددة، واقتراباتهم محكومة بمكانهم وزمانهم، ولهذا فالكثير منها أدت غرضها وانتهت.
وعلينا أن نعرف مكاننا ونعي زماننا وننطلق في تقديراتنا من العناصر الفاعلة في المكان والزمان، أما الإقرار بنفي المكان والزمان والعمل بآليات عمياء ذات شحنات عاطفية هوجاء ولصقها بفكرة أو عقيدة ودين إنما يشير إلى جهل مرير واندحار خطير.
فهل من وعي لمقتضيات المكان والزمان؟!!
واقرأ أيضاً:
التشاؤمية عاهتنا!! \ الأقلام أدوات الكراسي\ إرادة العمل \ ابْحَثْ عن الضوء الذي فيكَ