إنّه اللهمّ إنْ أخّرتني فمِنْ عَفْوك ورَحْمَتك.. تغشى فيوضاتهما طمع عَبْد مُذنب ومُقصّر.. وإنْ عجّلت وحَلّ المَوْعد؛ فاغفر لي.. واعفُ.. فأنت عفوٌّ تُحِبّ العفو..
رُبّ يومًا صبرتُ على ألمٍ.. واستوطني وجعٌ.. وأقرنتُ اسمك الأعلى بكُلّ ما رزقتني مِنْ إخْلاص، فتمهّلتَ عَلي قليلا؛ حتى أُكمل تنفيذ ما وعَدتك..
هكذا كان يُردّدُ عَبْدٌ.. يتصبّب مَيّا ساخنًا.. ويتقلّب جسدهُ السمّين؛ فارًا مِنْ مكالبِ موحشة النّزعِ.. وحديّة أنيْاب مُقبضة على فراش المَرْض.. ويحاولُ يلتحفُ بالأجزاء الجافّة مِنْ غطاء السّرير.. وشلال مياه ينفجرُ هنا وهناك.. وتقتحمهُ الغيبوبة.. وقدماه لا تتحمّله نبض حيْاة..
وتهرولُ ابنته.. تصرخُ على والدتها.. وتوقظ أخيها في الثانية بعد مُنتصف الليل.. صرخات مُفزعة.. وتوتر يجرفُ النفس إلى مكابدة الفعل.. والبحثُ عن هدي فكِرْ.. متاهة من الحُبّ والرهبة دنو الفقدِ.. ووجه أبيْض متهدّل؛ شحوب بأسٍ.. وإعلان منتظر.. تكتملُ حروفه بسرعة نحو رحيل جسد.. تتسرّب دلائل الحَيْاة بعيدًا بعيدا.. ما هذا؟
تصرخُ الزوجة الطيّبة.. لا يوجد دمّ في وجهك.. ويحاولون نزع ملابسه المبتلّة.. الملتصقة بجسدٍ يقاومُ التدلّي والسقوط.. ورقة بَيْن الأيْادي الغَيْر مميّزة.. ولم يكُن هناك إلا كلمة واحدة:
ـ ياربّ..!
وتتذكّر أن (يا ربّ) أجمل كلمة حُبّ..!
،،،،
رُبّ يومًا؛ في السرّاء استوطن قلبي نبضُ وأريحيّةُ رضى وحُبّ.. وها هو أنا بَيْن يديك إلهي؛ أتقلّبُ في الضرّاء؛ قَيْد الألم وأسر اللاحول واللاقوّة إلا بك.. فمدّني بالصّبر مهما اشتدّ به المُرّ؛ وأنفخُ بي حُريّة الاستغناء؛ والحاجة إلا لك وبك.. لحظات تكادُ تهزم كِبْريائي.. وتدكّ ماتبقّى من معالم الحيْاة.. وتقذف بي بعيدًا.. حَيْث لا أعرف هل هي نقطة البدايْة أم النهايْة؟
عصفُ ريح.. تشدّني وتجرّني.. وهنٌ يكسرني ويُبْكيني.. وألتمسُ جزع شجرة أملٍ أتعلّقُ به..
وتأتي سيارة الإسعاف.. وتتعصّب البنت الصغيرة على المُسْعفِ البارد حركة؛ والمُتْجَمّد بلادة وإحساس أنْ يُسرع.. والفقير حضورًا بدرب العيش.. وتطالبه أن يبطّل رَغْيا غَيْر مفيد.. ويُنْهِرُها بالذُّوق:
ـ يافندم بتكلّميني كِده ليه..؟
لا تعني المَشاعر عندما تعتادُ الألم والوَجَع، وتُرافق المَوْت أكل عيْش.. وتغدو وجوهًا مُعَلّبة.. وشوش كالحة.. جامدة.. تعملُ في سيارة الإسعاف.. تُعْلِنُ عَنْ كُلّ سوداويْة جمود.. وتفوحُ منها رائحة التأفف.. والعمل على مَضَض.. كُلّ هَمّها توصّل لك حسابات الفلوس.. وتضمن السداد للوصولات المختومة.. مبررات النهب والثمن غير المعقول للخدمة..
ـ نودّيه مستشفى حكومي (الزيتون مثلًا) مجانًا.. أي مكان آخر ١٣٥ جنيه..
_ طيّب مستشفى (الجنزوري) ٣٠ متر من البيت..!
ـ ده القانون.. يافندم!
،،،،
وأنْت على حافة النهايْة؛ لا يفكر عقل مُحبّيك.. تغرقُ وتغرقُ وخَيْبات الأعماق.. ولكن دفقة مِنْ أسفل على سفح المّي اتشال رحمة.. فتتنفس ويمنحكُ الله لُحَيْظات حَيْاة.. كَي نَتَجَاوزُ المِحْنة؛ وإنْ ثقُلَت.. وجلدت بسياط جرح لا يُطاق..
ويرميك المُسْعِفُ على كُرْسي.. ومِنْ سوء القيادة تتقيأ.. يجرّون الجثة المُلقاة.. يرمونها على سرير الرعايْا بالطوارئ.. وقد غابت عَنْ الوعي.. يعلّقون المحاليل.. هبوط حاد في الدورة الدمويّة.. الضغط ٨٠على ٥٠.. صحّوا طبيبة التحاليل.. تفشلُ في أخذ عَيّنة دمّ.. اشتباه في الإصابة بـ (كورونا)..
يقولُ الطبيب الشاب:
ـ لو فيه اشتباه في كورونا؛ لن نأخذه.. تصيحُ الابنة الشابة في وجهه:
ـ يعني نرميه في الشارع..!
والأمّ تصرخُ:
_ المهمّ انقذوه دلوقت..
والطبيبة الشابة تضبط ملابسها.. وتستيقظ غصب عنها.. تصيحُ: ـ لفّوه ببطانيّة؛ حتى يظهرُ الدمّ في العروق.. ويمكن أخذ عَيْنة دمّ..
والابن الشاب حائرفي حُزْنه بدنيا الله.. ويهربُ الشبشب من قدمي بلاعودة.. ويشاءُ الربّ أن يبعثُ أنفاس الحَيْاة رويدًا..
ويصيحُ ممرّض مرفق الإسعاف في وجه زوجتي:
ـ كُلّ ساعة انتظار.. ١٢٥ جنيه!! وتلاحقه الشابة الصغيرة:
ـ واللي معهوش فلوس مايلزمهوش.. وتسيبوه للكلاب والقطط.. واللا حتاخدوه في سيارة الإسعاف رهينة؛ لغايْة ما حَدّ من أهله ييجي يدفع.. والانتظار دَه كمان حَيْكون قيمة مُضافة.. هو إحنا في البلا بنعرف نحسبها يا بني آدم إنْت! إيه البلاوي دي..! وتنبّهت لوجود ابنتي.. وأني ما زلت قَيْد الحَيْاة!
،،،،
وأنت تكادُ تصلُ إلى حافة النهايْة؛ رُبّما تُدْرِكُ أنّ كُلّ المُبَرّرات الإيجابيّة، والتي تتكئ عليها لضياع سنوات العُمْر لم تكن منطقيّة.. والشئ الوحيد الصّادق أنّه مرّ و.. وتمُرّ.. ولن تَعُد.. وأنّ الحُزْن مُتّصل.. وفي متاهات متشابهة؛ لاتزل تدورُ وتدورُ.. ولن ينقذك وينتشلك غيْر سند الله عزّ وجلّ..
وهو الذي لا يفوته تنهيدة قلبٍ، فيستجب.. ويُرسل لقلبك نورًا، كالذي أرسله لـعَيْن يعقوب..
،،،،
ويبدأ العَبْدُ الفقير إلى الله تعالى رحلة الاشتباه في (كورونا)..
خذوه إلى مستشفى (القاهرة التخصّصي).. أقرب مستشفى.. تصل نفس سيارة الإسعاف بالمريض.. والمفاجأة أنّ السائق لا يعرف مكانها؛ وهي على بعد لا يتجاوز 6 دقائق فجرًا من مستشفى (الجنزوري) بسراي القبة..
وقبيْل النزول بالمريض يصيحُ الحارس:
ـ لا يوجد مسحات حاليًا.. أوقفناه بعد انخفاض الأعداد.. ماعادتش بتجيب هَمّها ماديًّا.. ماهو دَه الفكر الاستثماري؛ لمَنْ تمنحهُ حُرْيّة الكسب دون حساب.. خاصّة لو كان ليس مِنْ أهل بلدك..
اذهبوا به إلى مستشفى كيلوباترا.. ما هي تبع مجموعة مستشفيْات كيلوباترا.. وكلّ الهموم متشابهة في نشاذها..
لا يوجد مسحات هنا.. المستشفيات الجامعيّة فقط هي التي تقوم بالمسحات حاليًا.. عليكم بمستشفى (عين شمس الجامعيّة)..
وعامل الإسعاف ذو الوَجْه الصنمي.. يُعْلنُ للزوجة الباكية:
- سيدتي الحساب سيتجاوز الستمائة جنيه.. خرّجي لي كرسي الإسعاف؟
والمستشفى الجامعي ترفضُ.. إلا بعد إجْراء التحاليل.. لم؟
لست أدري..!
وبها سيارات إسعاف كثيرة..!
والمفاجآت تتوالى لطمة بعد أخرى..
وهنا كانت بداية لأسوأ مُعْاناة سيحاسبنا عليها الله والتاريخ..!
،،،،،
في هذا المِرْفق الحكومي؛ لابد أنْ يعملوا لك تحليل دمّ ثاني..
ـ طيّب ياسيدي ما إحنا لسّه عاملينه في مستشفى (الجنزوري) دمّ.. وسكّر.. وأشعة صدر.. ورسم قلب..
ويطير ابني بسيارته ـ الأكثر معاناة مني ـ ليحضر النتيجة.. لأنّ تحليل الدمّ لم تكن نتيجته ظهرت بعد.. وفي (الجنزوري) يخبرهُ الطبيب الشاب المُحْترم (أنّ نتيجة التحاليل..وأشعة الصدرجيدة.. ومافيش آي شبهة (كورونا) والحمد لله.. )
ويحضرها لأطباء (عين شمس التخصصي).. ولكنهم يصرّون على أخذ عَيْنة من الجثة.. والبحث عَنْ العروق الهارب منها الدمّ.. ويرمونك لمدّة ساعتين بحجرة جانبية ملفوف ببطانية مدفوعة الثمن.. ولا يجيب عليك أحد.. (لماذا نُكرّر التحاليل..؟)
وأيضًا.. لا يسمحون لسيارة الإسعاف بالذهاب!
وبعدها بساعتين.. يطلقون الحرية لسيارة الإسعاف الحكومية.. بدعوى أنّ لديهم سياراتهم الخاصّة.. (وماعرفتوش كِده إلا بعد ساعتين.. والعدّاد بيعدّ.. ليه ماكان مِنْ بدري..!)
لا أعرف.. لأنّ ذلك معناه إضافة ٢٥٠ جنيه على فاتورة الإسعاف.. لتأخذ من أهل المريض ٦٥٠ جنيه فاتورة انتظار لمريض!
وتحجز مستشفى (عين شمس التخصصي) الجثّة.. وكارنيه الشركة التي تعمل بها، حتى ترسل الإدارة؛ مايدلُّ على أنّها ستحاسب لاحقًا.. !
ـ طيّب ياسيدي.. ماتأخذ صورة من الكارنيه، وصورة من البطاقة.. وترسلها للشركة!
ـ لا.. هوه دّه النظام!
ـ آمال فائدة التعاقد إيه بينك وبين الشركة.. ومعاك مايثبت إنّ المريض مدير عام مُحْترم.. وجثة لن تهرب.. وملقى بالضربة القاضية هزيمة مرض..
ـ هوّه ده النظام.. ؟
وتهبُّ فيه البنت الصغيرة:
ـ خلاص إدّينا إيصال بأنّك استلمت الكارنيه..!
_ لا.. هوه ده النظام!
وفجأة.. يقرّرون أنك مريض مشتبه به.. أي ربّما يحمل فيروس (كورونا)..
ـ إذهبوا به على المخيم الميداني.. لعمل الماسحة؟
_ طيّب ماتعملوها هنا، لو ثبت تهمته، ودّوه المُعتقل واللا المستعمرة دي..؟
ـ لا.. مُمكن أصاب هناك.. إزّاي ترموه داخل مستعمرة للمصابين.. وحقل ألغام للفيروسات.. ولم تثبت اصابته بعد.. طيّب هوّه فيه مكان، واللا رُكن عزل خاص للمشتبه بهم وفيهم بهذا الجُرْم الآثم؟
لا أحد يجيب.. ؟
ـ طيّب هي فين..؟
ـ آخر السور.. وقبل ماتروح تدفع لسيارة الإسعاف الخاصة بمستشفى (عين شمس) ٢٥٠ جنيه.. إسعاف خاص بالمستشفى التابع للدوّلة.. معانا سيارة ابني... لأ ما ينفعش؟
الشركة حتحاسبكم.. إحنا من الثانية ليلًا في الشارع.. ونزلنا على طول.. ومش عاملين حساب لحاجة!
ماينفعش.. أجرة سيارة الإسعاف تدفع هنا قبل ماتتحرّك يافندم؟
هوّه ده النظام..!
،،،،
ويرمون العبد ـ الذي لا حول ولا قوة له ـ داخل علبة مُتْرِبة.. كئيبة.. علبة قذرة.. لم يفكّر أحد يومًا ينظفها بقطعة قماش.. ولا جهاز طبّي بداخلها يعمل.. والأسلاك مدلاة ومرميّة هنا وهناك.. متعطشة لإصابتك؛ لو لم تحاذر.. مرجيحة طاشة.. والله الخشبية في الزمن القديم أنظف وأرقى منها..
وتأبى النوم بداخلها.. وتجلسُ بجوار الزوجة المصدومة داخل سيارة نقل مَوْتى.. على عون الله تسّاند وحُضْنها..
وكأنهم يعدّونك للنهاية.. واستشراف حالك؛ بماهو قادم من غَيْب المجهول مع النزيل (رقم 1493599)..
إنه أنا وقد تحوّلت إلى رقم.. وهنا تبدأ رحلة ثانية!
......
وبإذنه تعالى؛ إلى الحيْاة نعودُ، ونلتقى بالحلقة الثانية؛ ويرزقكم الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة دنيا وآخرة..
واقرأ أيضًا:
مرضى التصلّب المتعدّد (العجز)؛ و(خراب البيوت)..!