العقول الحضارية تَتَوَالَد، والعقول الخَرَابِيَّة تتخامَد، والعقول الواعدة تتعامد وتتعاضد.
في هذه الفكرة تعبير عن أزمة العقل العربي الذي تسبَّب في صناعة التَّدَاعِيَات الفاعلة في الحاضر، والُمَؤثِّرَة في المستقبل، وهي التي أَسْهَمَت بتأسيس الآليات التَّخَامُدِيَّة السلبية النَّاقِمَة على العقل والحياة لأنهأ لا تريد أن تكون، بل أن تغيب لكي تكون.
فالحياة إثمٌ في مَنْطُوقهِا الخَيْبَاوِي المُؤَطَّر بتأوِيلات مُنْحِرَفة وتَصَوُّرات سَقِيمَة، وتطَلُّعات مريضة، وأوهام عقيمة متراكمة في أَقْبِيَة الأجداث ورُفُوف الغابرات العَفِنَة الظَّلماء... فالواقع العربي لا تتحرَّك فيه عقول مُتَوَالِدَة أو متفاعلة بإيجابية ذات عطاءات اقتدارية بنّاءة ومُكَوِّنة لِمَنْهَج صَيْرُوراتي جَدِير بالتَّفاخر والاعتزاز، فالذي يَسُود سُلُوكِيَّات اعتقالية تُسَمَّى عقلية أو فكرية تهدف إلى التَّطَلُّع الأناني والتَّرْسِيخ الذَّاتي والإلغائي للعقل الآخر أو الرأي والتَّصَوُّر الذي عليه أن يتفاعل ويتواصل، لكنه يتصادم ويتفانى في تصارُعَات خسرانية مروعة.
فالعقول العربية المُفَكِّرَة مُمْعِنَة بالأنانية والتَّخَنْدُق الذَّاتَوِي المُتَمَتْرِس في خنادق ما فيه من الرُّؤى والتصَوُّرات، ويأبى أن يتزحزح أو يَمُدَّ يَدَ التفاعل والتبادل العقلي الفكري الذي يُساهِم في التنمية التطور والنماء، فتجد المُفكِّر العربي في عزلة عن المفكرين الآخرين، وفي تقاطع وربما عداء مع الشعب، مِمَّا تسبَّب بعدم تأثير الفكر في الحياة، وعِلَّة ذلك أن المفكر يتوَهَّم بأن المجتمع جاهل أو دون إدراك ما يريده ويراه، ولهذا فلا منفعة من التواصل مع الناس، وإنما الإمعان في التَّصَوْمُع، فالتَّصَوُّف الفكري هو الدَّيْدَن الفاعل في الحياة الفكرية العربية.
والمجتمع العربي فيه العديد من المُفَكِّرين المُنْعَزِلين عن بعضهم البعض وعن مجتمعهم، ويَجِدُّون ويجتهدون ويكتبون ويؤلفون، لكن ما ينتجونه رَهِين الرُّفوف، وبعيدٌ عن السَّاحة العملية للحياة والواقع اليومي للإنسان... أيَّ أن المفكر العربي مُنْقَطِع عن مياه الحياة، وينظر إلى الأمور من بعيد، أو يبدو وكأنه يقف على التَّل ويتصَوَّر وينهزم ولا يطرح ما يراه بآليات ذات قيمة تأثيرية وتغييرية ذات قيمة وقدرة على التطور والانطلاق إلى الأمام.
ويبدو أن المُفَكِّر العربي يتمَتَّع بنرجسية وغرور وكبرياء، وربما يرى نفسه فوق الآخرين ولا ينتمي إليهم، لكنه مجرد يقرأ ويستنتج وفقًا لما درسه وتعلَّمَه من النظريات ومناهج التفكير والتحليل، ويصل إلى ما لا يتفق مع أبجديات الحياة... كما أنه لا يزال مُعتَقَلًا في الماضوية، ولا تجد مُفَكِّرًا لم يغرق في الماضي ويحاول أن يفسر به ما يدور في الزمن المعاصر في واقع حصلت فيه انقطاعات وتجهيلات وتحريفات للماضي وحتى الحاضر المرير، وهذا يدفع إلى الإتيان بطروحات ذات تأثيرات سلبية وضبابية وينقصها الرصيد الواقعي الكبير، فهي انسِكَابات تائهة وحائرة في رَمْضَاء جَدْبَاء مُتَعَطِّشَة لقطرة ماء، فيُسكَب عليها السراب، ولا تزال تَلْهَث محرومة من طعم الماء.
هذه العقول العربية المفكرة يبذل أصحابها طاقات وجهود متواصلة للإطاحة ببعضها البعض والنَّيْل من غيرها ظَنًّا منها بأنها ستكون، وكلٌّ منها يقف موقف العارف الذي ينتهي عنده العلم والمعارف والثقافات، فهو الذي يدري وغيره لا يدري... بينما العقول الغربية تتفاعل بأساليب أخرى، وتنطلق من بعضها نحو آفاق أرحب، فالغاية ليس المفكر ذاته وإنما الفكرة، وهذا المفهوم يغيب عن سلوك المفكر العربي، أي إدراك المسافة ما بين المفكر والفكرة، وأن التوجُّه عليه أن يكون نحو الفكرة وليس المُفكر، ويكون الانطلاق من الفكرة وليس من الهجوم على المفكر ومَحْقِهِ وتدميره وَوَأْدِ فكرته دون أَدِلَّة موضوعية وبراهين واضحة تُنَمِّي التفكير وتنقل العقل إلى مدارات مُتَّسِعَة العطاء والإبداع.
ومن الصعب أن تجد تفاعلات ولَّادَة ما بين المفكرين العرب، وإنما يسود الاحتراب والتصارع القدَّاح الهادف إلى النيل من المفكر ذاته، وعدم النظر بفكرته وما يراه وآليات البناء على ما يراه أو الانطلاق منه إلى أفق تفكيري جدير بالنماء.
هذه الأساليب التَّخَامُدِيَّة المُتَحَكِّمة بعلاقات المفكرين العرب ببعضهم وبمجتمعاتهم تسبَّبَت بصِيَاغِة الواقع الأليم الذي نعيشه، ونَتَمَحَّن بتداعياته، ونتَوَّرَط بمعتقداته ومنطلقاته الظَّلَامِيَّة المُدَمِّرَة لمُفْرَدات الحياة الذاتية والموضوعية.
وعليه فإن الواقع العربي بحاجة مُلِحَّة إلى ثورة فكرية ونهضة عقلية وسلوكية معاصرة لها القدرة على تَحْشِيد العقول وتهذيب النفوس وتطوير السلوك والارتقاء به إلى فضاءات الإنسانية السامية، والتعامل مع الأفكار بحرية إدراكية وطاقات شبابية حرة واعدة مُتَطَلِّعَة نحو الأفضل والأقدر والأجمل.
ولا بُدَّ للمُفَكِّر العربي أن يُعِيد النظر بذاته وموضوعه وكيفيات تفاعله مع الواقع الذي يفكر فيه وبه، ومن غير ذلك سسيبقى نَاعُور الخراب يدور ولا يَسْكُب إلا الدُّمُوع والدِّمَاء في سواقي الوَيْلات العربية الآسِنَة... وإنَّه لَعَيْبٌ فاضح أن تَتَمَحَّن أُمَّة بجواهر ما فيها، ويعجز مُفَكِّرُوها عن استنهاضها والارتقاء بها إلى حيث يجب أن تكون وتتحقق!.
فهل حان وقت الصدق مع النفس، والإيمان بسلطة العقل والإدراك والبحث والإمعان؟.
عاشت "نكون"، فهي الغاية والعنوان.
واقرأ أيضاً:
الإعلام والأقلام/ التراث العلمي العربي المطمور / القوة دستور وقانون