"إنَّ من البيان لَسِحْرًا".
الكلمة عندما تكون طيبة كالشجرة الطيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء... ولو تكاتَفَت أقلام الأكوان وشَرِبت من مياه الوجود ما تمكَّنت من استيعاب كلمات رب العرش العظيم الذي تَنْهَلُ أقلام عِزّتِه من فَيْضِ المُطلَق.
الكلمة تُولَد من رَحِم أبْجَدِيّات محدودة لِتَسْبح في فضاء بلا حدود، وتخترق الأزمان، وتتحدَّى الذَّوَبان في جسد التراب، وتتجاوز عمر العقل الذي أَوْجَدَها، فهي كائن سَرْمَدِي المَلامِح، خالد الأثر، بعيد المدى، يحقق دَيْمُومة التفاعلات.
الكلمة التي تخرج من القلب تقع في القلب لأنها صادقة نَقِيَّة مُعَبِّرة عن الحقيقة والمعاني الطاهرة النبيلة، وتتأَلَّف من حروف النور والصفاء المبين، فتكون منيرة ذات قدرات على زَعْزَعَة الأعماق واستخراج الإنسان من مَكَامِنِه، فيرى جواهر ذاته ويُصادِقُ روحه ويَشْذُب نفسه ويسمو إلى علياء الرجاء.
الكلمة أُلْفَةٌ ومحبَّةٌ ورحمةٌ وينبوع خير وعطاء وإيثار وموَدَّة وصدقة جارية إلى يوم يبعثون عندما تكون مُنَزَّهَةً من وَجَع التراب، ومُصَفَّاةً في مَرَاجِل التَّسامِي العُلْوِيَّة، ومُعبّرة عن الروح الإنسانية السَّاعية إلى ينابيع أصلها الحالمة بِفَيْض "كُن".
الكلمة مِرْآة العقل، وجوهرة مكنوناته، وتعبير عن ذاته وأصله، فهي لسان حاله وحقيقته الساعية فوق بِسَاط التناجي الخلاق ما بين أفلاك الرأي والإبداع... وإنها العقل يسعى بملامحه وهيْأَتِه التي اختارها لشخصيته وقدرته على التزاوج المادي مع نواة روحه ومَبْعَث صَيْرُورته في أقاصي السماء.
الكلمة تكشف المَخْبُوء، وتشير إلى حجم المَدْفُون في الأعماق البشرية، وتُحدِث فُرْجَةً في المستور من النوايا والخفايا، وتُكْتَنَز وتَصِير ثقيلةً وثمينةً وغنيَّةً في حُضْن الصمت والتأمل والإمعان في تفاعلاتها وامتداداتها وتَعشُّقِها بروافدها اللامحدودة ومصادرها المُتَرَامِيَة في آفاق اللامَحْسُوس المُتَجَسِّد في جذور البعيد والأبعد.
الكلمة أداة ووسيلة لنقل الأفكار والتعبير عن الحاجات والمشاعر والأحاسيس والانفعالات، فهي الحصان الذي تَمْتَطِيه هَوَاجِسُنا, وتَغير به أفكارنا على أهدافها، وبها نكتب شعاراتنا ورسائلنا إلى الآتي، فنخاطب بها مَن لا نعرف، ونَتَسَامر بواسطتها مع الذين جاءوا بعد أن أَكَلَنا التراب ومَحَق أثرنا وعشنا فيه كما عاش أجدادنا.
الكلمة مُستودَع همومنا ومعاناتنا وشجوننا، ومصحف أفكارنا، ومَسَلّة إرادتنا، ومُدَوَّنة حياتنا في تِيهِ الأيام المُتعاقِبَة والأزمان الصاخبة التي تَلِدُنا من رَحِم كل صباح... بها نُفْصِح عن أنفسنا، ونعرف غيرنا، ونُؤَسِّس لتواصلنا الاجتماعي، ونُحَقِّق دواعي بقائنا، ونرسم مَعَالم تقدُّمنا ومبادئ انطلاقنا في خِضَمِّ التفاعل الساخن فوق التراب الذي يملكنا بِجَذْبِه اللذيذ.
الكلمة وسيلة الأفكار للتآلف والتفاعل والامتثال لإرادة الصَّيْرورة والتأثير في الحياة، والتواصل في دروب الأجيال لتحقيق الإرادة الكامنة فيها، والمعاني التي تحملها وتريدها أن تُورِقَ وتتفَتَّح أزهارها وتنضج أثمارها، فالكلمة فكرة حُبْلَى بالطاقات وقدرة ذات أنوار ساطعة تثنِير أَدْجَى الطُّرُقات.
الكلمة في تاريخنا كانت تقتلنا، وكم ربطنا حياتنا بلساننا، وفي مسيرتنا الطويلة الكثير من شهداء الكلمة كابن المُقَفَّع وبشَّار بن بُرْد وغيرهم من الذين قالوا كلمةً فتَمَّ اتِّخاذها ذَرِيعَةً لقتلهم، وبسبب هذا الثَّمَن المُرْعب للكلمة أصبح مجتمعنا مُصابًا بِدَاء البُكْم لأن الخوف قد شَلَّ الأَلْسُن تمامًا، وفي بعض بلداننا المعاصرة كانت الألسن تُقْطَع بسبب الكلمة.
الكلمة رصاصة تُصِيب أهدافًا كثيرة، وتبقى فعَّالةً ومؤثرة ووَثَّابة لأنها ما إن تُولَد حتى تتسَلَّق أَوْصَال الخلود وتنمو كبيرة مُشْرِقةً في سماء الأجيال وعابرة لحواجز الأزمان والمُعَوِّقات، فهي التي تقتل الشرَّ وتَكْتَسِح الظلام الذي يتوَطَّن في العقول والأعماق لكي يتستر على آفات الشرور والسوء الكبير.
الكلمة تبقى وسيلتنا النبيلة لتحقيق أهدافنا وأخذ حقوقنا وتجسيد طموحاتنا، وهي عُدَّتُنا التي ندافع بها عن الحق، ومُهَنَّدُنا الذي نُشْهِرُه بوجه الظالمين والمُسْتَبِدِّين، وبها نتحقق ونكون لأن الكلمة تبعث الطاقات الخلَّاقة في دُنيانا، وتَحْشِدُنا في أفواج من القوة المؤثرة لتغيير وجه الحياة وقيادتها نحو الأفضل.
الكلمة الخَيِّرة تزرع خيرًا، وتُوقِدُ مَشاعل الفضيلة والنزاهة في عقول الناس، والشريرة تتفاعل مع نوازع الشرور، وتلقي بالناس في أَتْون الهلاك والضياع والتعبير الدامي عن عقيدة البغضاء والأحقاد وسوء المصير.
الكلمة الصادقة وطن للمحبة والقوة والاعتصام بحبل المودة والوطنية والتآخي والتفاعل الإنساني الحر المنير، وهي تُطَهِّر القلوب وتَغْسُلها بقَطْرِ النقاء والصفاء والسلام فيُدْرِك أصحابها معاني إنسانيتهم ويتفهَّمُون عناصر رسالتهم ودورهم الإيجابي في الحياة.
فهل ستكتب أقلامنا بحبر الفضيلة كلمات نور؟!
واقرأ أيضاً:
الأوطان مِلْكُ أهلها / الكراسي والمآسي!! / الأصيل والدخيل