مفهوم اليقظة الواعية أو المعروف بمصطلحه اللاتيني Mindfulness من أكثر المصطلحات استعمالاً هذه الأيام في العلاج النفساني وفي الطب النفسي. هذا المفهوم يشكل حجر الأساس للعلاج الجدلي السلوكي Dialectical Behavioural Therapy الكثير الاستعمال في اضطرابات الشخصية الحدية، وكذلك في علاج القبول والالتزام (التعهد) Acceptance & Commitment الذي يتم تقديمه بصورة جمعية في مختلف الاضطرابات النفسية المزمنة. لذلك لابد من إلقاء نظرة موجزة على هذا المفهوم النفساني ومحاولة ربطه بالثقافة الشرقية الإسلامية أيضاً عند التعامل مع المراجعين في العالم العربي.
يعود تاريخ مفهوم اليقظة الواعية1 إلى Jon Kabat-Zinn الذي تحدث عن علاج نفساني تحت مصطلح علاج تخفيض الإجهاد المبني على اليقظة الواعية Mindfulness – Based Stress Reduction Therapy MBSR في نهاية السبعينيات من الألفية الماضية. العلاج بحد ذاته لم ينتشر انتشاراً واسعاً في البداية ولكنه ذاع صيته تدريجياً في أمريكا الشمالية وانتشر بعدها صوب القارات الأخرى. لم ينتشر المفهوم علاجياً في البداية كما انتشر إعلامياً، وكونه مبنيا على الفلسفة البوذية ربما ساهم في شهرته إلى حد ما.
يمكن القول بأن هذا المفهوم انتقل من مفهومٍ نفساني بحث إلى مفهوم اجتماعي ومهني بل وحتى سياسي. استعمال المصطلح دخل في القواميس اللغوية ويكثر استعماله بصورة صحيحة وعشوائية أحيانا ولذلك لابد من تعريفه بدقة.
تعريف اليقظة الواعية
يمكن القول بأن اليقظة الواعية هي حالة فردية عقلية نشطة ومن خلالها يكون الإنسان واعياً لجميع المحفزات الداخلية والخارجية. بعبارة أخرى هذه الحالة العقلية النشطة الواعية هي عكس ما يتصور البعض بأنها حالة استرخاء وتأمل فقط.
الشق الثاني من تعريف اليقظة الواعية يتعلق بانتباه الإنسان إلى ذاته وبيئته المتواجد فيها بدون إصدار حكم مسبق على نفسه وعلى الآخرين. بعبارة أخرى على الفرد تجنب الانجذاب العاطفي في التجربة أو الحدث الذي يعيشه في تلك المرحلة.
الشق الثالث من التعريف يتعلق بتأثير اليقظة الواعية وهو تجنب الأفكار التلقائية والسلوكيات الغير المتكيفة صحياً مع الحدث والتجربة.
الجوانب العامة لليقظة الواعية أصبحت أكثر وضوحاً مع بداية الألفية الثالثة والآن يتم تعريفها بجوانب خمسة كما هي موضحة في المخطط أدناه:
جانب الرصد والمراقبة يتعلق بالانتباه إلى الأحاسيس الداخلية والخارجية في وقت التجربة بالإضافة إلى رصد الأفكار والعواطف الداخلية في الإنسان ذاته والخارجية في من حوله. أما جانب الوصف فهو يتعلق بتعريف ما تم رصده بصورة موضوعية. التصرف بوعي كامل يعني بالانتباه إلى ما تم رصده ووصفه وتأثير ذلك على الأفكار التلقائية التي تم توليدها. عندها يتجنب الإنسان إصدار حكم مسبق على التجربة يتم عدم التفاعل مع الحدث استناداً إلى التجارب والأفكار الماضية.
رغم خضوع مفهوم اليقظة الواعية للتشريح والتفصيل، ولكنه أيضاً قد يصعب استيعابه من الكثير في الممارسة المهنية من قبل المعالج والمراجع على حد سواء. ما يستهدفه المفهوم هو عدم السماح للتجارب الماضية والأفكار المتأصلة في داخل الإنسان بالتأثير على سلوكه وتفاعله مع الآخرين والتجربة التي يمر بها مهما كانت.
اليقظة الواعية في الطب النفساني
من الممكن الحديث عن اليقظة الواعية بأنها إحدى سمات الإنسان التي يتميز بها عن غيره. هذه السمة يمارسها الإنسان بحكم خلفيته الثقافية والاجتماعية وربما اكتسبها من خلال تطوير شخصيته عاطفياً ومعرفياً. وجود هذه السمة يساعد الإنسان على ممارسة سلوكيات تساعده على تلبية احتياجاته النفسية والعاطفية والسيطرة عليها ورفع كفاءته مهنياً. هذا الإنسان يميل أكثر من غيره إلى العدل والتواضع وتجنب الطمع.
من جانب آخر يمكن استيعاب اليقظة الواعية كحالة يمر بها الإنسان بين الحين والآخر ويمارسها بعد الانتباه إليها تلقائياً. أما الجانب الثالث لليقظة الواعية فهي مهارة يكتسبها الإنسان من خلال عملية علاج نفساني ويسعى إلى ممارستها في حياته العامة وتجنب الاستسلام لأعراض نفسية قد تؤثر سلبياً على سلوكه والتعامل مع الآخرين.
الجوانب العامة لليقظة الواعية لا يسهل عزلها عن مفاهيم نفسية أخرى كثيرة الاستعمال في قواميس مصطلحات العلوم النفسانية مثل الإدراك الذاتي، الوعي الذاتي، والانعكاس الذاتي. هذه المفاهيم على حد قول الكثير من العاملين في العلاج النفساني تشير إلي إصدار الحكم على التجربة الذاتية من خلال الأفكار التي تداهم المراجع بحكم تجاربه السابقة، في حين أن اليقظة الواعية تتجنب إصدار حكم مسبق من خلال تجارب سابقة وأحاسيس وأفكار متأصله في الذات البشرية.
كذلك يكثر استعمال اليقظة الواعية كمفهوم من عملية التأمل والتدبر التي يمارسها البشر وخاصة عند ممارسة الطقوس الدينية والروحية. ليس من الصواب وضع الصلاة كعملية يقظة واعية كما يقترح البعض وإنما هي عملية تأمل يسعى من خلالها الإنسان إلى السيطرة على مشاعره وأفكاره السلبية.
هناك علاقة بين اليقظة الواعية كسمة وجوانب الشخصية الخمسة المتعارف عليها هذه الأيام في وصف شخصية الفرد2. المخطط أدناه يوضح العلاقة التي تتميز بكونها إيجابية وقوية مع سمة الضمير الحي وأقل قوة مع الميل إلى موافقة الآخرين وضعيفة إلى حد ما مع الإنسان الذي يميل إلى الانبساط في سلوكه ومستعد لخوض تجارب جديدة. لكن اليقظة الواعية في تناقض تام مع وجود سمة العصابية في الإنسان المتأزم الذي لا يقوى على التخلص من عصابه وبسببه يميل إلى الشعور بالقلق وعدم السعادة والاكتئاب.
التيار الديني الروحي الإسلامي واليقظة الواعية
العلوم والنظريات النفسانية استعملت الكثير من المفاهيم الفلسفية والدينية والروحية في تفسير سلوك الإنسان ومشاعره منذ فترة طويلة ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح مع المدرسة التحليلية النفسانية. تغير اتجاه العلوم النفسانية نحو المدرسة السلوكية والبيولوجية واستعمال التجارب العلمية منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي قبل أن يظهر بعض الباحثين الاهتمام بالجوانب والاحتياجات الروحية منذ ما يقارب ربع قرن من الزمان. تزامن ذلك مع شيوع شهرة اليقظة الواعية المشتقة من الفلسفة أو الديانة البوذية. وتسلسلها في العديد من العلاجات النفسانية مثل العلاج المعرفي السلوكي والجدلي السلوكي وغيرها. في نفس الوقت أدى انتشار وتوسع المفهوم بدوره إلى حدوث ارتباك في استيعاب المفهوم من زاوية نفسانية لاستعمال المصطلح في عملية التأمل Meditation وربط ذلك بالاسترخاء. بعد ذلك تم نشر العديد من المقالات التي تربط مختلف الممارسات الروحية باليقظة الواعية مما أدى بدوره إلى ارتباك مفهوم اليقظة الواعية من وجهة نظر الممارسة المهنية النفسانية مقابل الاستعمال الشعبي.
الفلسفة الإسلامية لها جوانبها العقلية والنفسانية والتي تستند على عدة مفاهيم تم تفسيرها بصورة مختلفة عبر الأجيال وخاض فيها المعتزلة وابن الكندي3 بصورة مفصلة في العصر العباسي في الحديث عن إرادة البشر وحريتهم. من المفاهيم الكثيرة الاستعمال والتي لها علاقة بالذات البشرية هي:
١- النفس الغريزية الباحثة عن الشهوات ويتم الإشارة إليها بالنفس الأمارة.
٢- العقل
٣- الإرادة
٤- الحدس أو البديهة ويشار اليها بالقلب.
يتم استعمال المصطلحات بارتباك واضح من قبل العديد وخاصة في فصل ما هو القلب والعقل والتمسك بالاستعمال اللفظي دون التحليل للمفهوم ذاته مثل إصرار البعض على ان القلب (التشريحي) هو العقل.
آخر من تعمق في طبيعة الإنسان من جانب نفساني وعقلي هو الإمام الغزالي (توفي ١١١١ م). بعد رحيل الغزالي رحمه الله دخل العالم الإسلامي في مرحلة سبات، قبل أن تظهر الفلسفة الصوفية في بلاد الأناضول لمولانا جلال الدين الصوفي (توفي ١٢٧٣ م). جلال الدين الرومي من أصل أفغاني ونشر تعاليمه وفلسفته في بلاد الأناضول ولا يزال مقامه في كونيا محط زيارة البشر من مختلف الملل والمذاهب. يمكن القول بأن فلسفته هي أوسع انتشاراً من أي فلسفة شرقية في العالم الغربي ويتم تدريسها على المستوى الجامعي في العلوم الإنسانية. دراسة فكر الرومي وتعاليمه الصوفية يرتكز على جوانب تشبه إلى حد كبير اليقظة الواعية التي تستند على قبول والتصريح بتجارب إيجابية وسلبية في الحياة التي تتطلب التخلص من السلوكيات السيئة والتركيز على الوجود بنظرة جديدة مع تجنب التركيز على الذات. يتم الوصول إلى الهناء عن طريق سلوكيات تتضمن التأمل والموسيقى والرقص، وهي ممارسات صوفية معروفة.
مناقشة عامة
الغاية من هذه المراجعة كان توضيح مفهوم اليقظة الواعية الكثير الاستعمال في الطب النفسي والعلاج النفساني في يومنا هذا. هناك ارتباك واضح بين إطار المفهوم ومحتواه من جانب نفساني وإطاره العام وممارسته مع التأمل في الحياة العامة. ما نستطيع استنتاجه هو أن اليقظة الواعية عملية نفسانية يجيد البعض استعمالها بصورة تلقائية في الحياة اليومية، ولا يتقنها البعض بسبب سمات تطغي على الشخصية وخاصة الجانب العصابي في الشخصية. كذلك يمكن القول بأن اليقظة الواعية مهارة يستطيع البعض اكتسابها مع الممارسة والعلاج النفساني وتساعدهم في مواجهة تحديات الحياة.
المقال لا يعني بالعلاجات النفسية المتعددة4 المستندة على ممارسة اليقظة الواعية، ومن الصعب القول بأن ممارسة اليقظة الواعية بدون استعمال نظرية علاج نفساني مثل المعرفي السلوكي، يشكل بحد ذاته علاجاً نفسانيا يمكن التوصية به.
هناك حاجة ماسة إلى دراسة اليقظة الواعية بصورة علمية مستندة إلى تجارب ميدانية في العالم العربي من منظور ديني إسلامي، وعدم الاكتفاء بالقول بان اليقظة الواعية متأصله في الفلسفة الدينية الإسلامية. هناك أيضاً الحاجة إلى مراجعة أدبيات الفلسفة الصوفية التي بدأت تميل إلى الاندثار في العالم الإسلامي ودراسة تأثيرها على عافية الإنسان النفسية.
ملاحظات
1- مقالة توضح العلاقة بين البوذية واليقظة الواعية، وتحاول الإجابة على سؤال يشغل بال الكثير وهو: هل ممارسة اليقظة الواعية هو اعتناق البوذية؟
2- دراسة توضح العلاقة بين سمات الشخصية الخمسة واليقظة الواعية.
3- مقالة توضح بصورة مفصلة فلسفة ابن الكندي وعلاقته بالمعتزلة.
4- مراجعة لفعالية العلاج النفساني المستند على اليقظة الواعية وتأثيره على المراجع.
واقرأ أيضاً:
الإيمان الديني / الإيمان بين العقل والقلب