البشر تتنازع فيه قوتا النفس والعقل، ولكل منهما سيادته في ميادينه التي يتمكن فيها ويهيمن، ويمكنهما أن ينفصلا ويستكينا في مواضعهما، وقد يتشابكا ويتصارعا ويمتلك بعضهما البعض فيستعبده ويذله.
فهناك بشر النفس تذل عقله وآخر يحصل فيه العكس، وآخر تتوازن فيه القوتان، ويمكن أن تكون العلاقة بأشكال وديناميكيات لا تحصى ولا تُعد.
وكلما انشغل العقل بما يرضيه ويجذبه ويطلقه، كلما ازداد تحررا من قوة النفس، والعكس صحيح أيضا.
ومن الواضح أن المعتقدات والانتماءات تستند على آليات نفسية، وتترسخ وتتوطن وتتعمق فيكون العقل بعيدا عنها، ولهذا لا يمكن المحاججة العقلية في أي معتقد، لأنه ارتباط نفسي مشحون بالعواطف والانفعالات الشديدة، فتجد ذوي المعتقدات يؤهلون أصحابهم للتأجج العاطفي الانفعالي، الذي لا يسمح لقوة العقل أن تتحرك.
فالقول بأن الانتماءات العقائدية بأنواعها عقلية نوع من البهتان والتضليل، فلا تناقش صاحب أي معتقد بما يؤمن به، لأنه قد تمترس نفسيا في بودقة معتقده، وتخندق في ترس سميك فولاذي المواصفات.
وبعض المجتمعات تهيمن فيها القوة النفسية على القوة العقلية، لأن العقل غير مسخر لما خُلق له، وهو التفكير والتدبير والابتكار والتقدير والمعرفة والتطوير، فالناس تعيش في فراغ ولا تجد أمامها مشاريع وتحديات تقنية وعلمية وابتكارية تحث على إعمال العقل، كما أن التعليم فيها جوهره تعطيل العقل وإلغاؤه، وتسويغ التبعية والإذعانية والقبول دون سؤال أو نقد وتمحيص، فالإنسان تابع وقابع ومرهون بإرادة غيره، ولا يمكنه أن يكون بعقل فاعل ومنير.
وفي هذه المجتمعات لا ينشغل العقل بالعلم، ويكون عبدا مطيعا للقوة النفسية الفاعلة في المجتمع، والقائدة لسلوكه على مختلف المستويات والتوجهات.
بينما في المجتمعات المتقدمة تكون القوة العقلية متصدرة وفاعلة في الواقع السلوكي، فتجد الناس منهمكة بإعمال عقولها وإطلاق ما فيها من الطاقات والقدرات، وتتسابق نحو الأقوى والأقدر من المبتكرات والإبداعات والاختراعات اللازمة لتطوير الحياة.
فتراهم يتوثبون نحو أهداف لا محدودة، وميادين ذات آفاق مطلقة تزيد الحياة جمالا وبهاءً، وقابلية على النماء والرقاء، فتنكمس القوة النفسية أو تنفصل عن القوة العقلية، وتبقى في مكامنها محكومة بما يتوجب عليها أن تقوم به وتؤكده في البشر الملتزم بإرادة عقله، والمنشغل بمعطياته المعززة لقيمته ودوره الإنساني المنير.
وعليه فلكي نبعد النفس، أو نقلل من دورها في تفاعلاتنا، علينا أن نشحذ عقولنا بما يشغلها ويبعدها عن التوحل بما لا ينفع الناس، وبهذا تكون المجتمعات المقتدرة المعطاء.
فأطلقوا قوتكم العقلية وأخمدوا قوة النفس السلبية!!
واقرأ أيضًا:
الأبطال والمجتمعات!! / الكراهية والسياسة؟!!