منذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا يسعى البشر إلى تغيير الطعام لإرضاء الأذواق. تشير المصادر التاريخية إلى أن هذه العملية بدأت في أمريكا الوسطى حيث كان السكان يطبخون حبات الذرة في محلول من رماد الخشب أو الحجر الجيري لتخفيف الأصداف الخارجية الصعبة للذرة ويجعلها سهلة الطحن.
لكن القفزة الحقيقية لتصنيع الطعام بدأت مع اختراع البضائع المعلبة والبسترة في القرن التاسع عشر وبفضل هذه الابتكارات أصبح الطعام أكثر وفرة وأرخص ثمناً. استناداً إلى وثائق الأمم المتحدة زاد متوسط الإمدادات الغذائية المتاحة لشخص في العالم الغني أكثر من 20% منذ بداية الستينيات حتى بداية القرن الثالث من الألفية الثالثة ومعها ارتفع استهلاك السعرات الحرارية اليومي إلى 3500 سعرة حرارية. وصاحب ذلك ارتفاع معدلات البدانة ثلاثة أضعاف وما يعنيه ذلك أن واحدا من كل ثلاثة أشخاص يعانون من البدانة أو زيادة الوزن.
انتقل موضوع البدانة من مشكلة صحية عامة إلى سياسية والتركيز بالذات على المخاوف من طهي الوجبات الخفيفة الرخيصة واللذيذة في ذات الوقت والضارة أيضاً وما يتم استهدافه هذه الأيام هو الأطعمة فائقة المعالجة Ultra Processed Food UPFs (واختصارا ط.ف.م) وهو مصطلح ابتكره كارلوس مونتيرو العالم البرازيلي. التوصيات الصحية العامة في البرازيل وكندا وبيرو تنصح المواطنين بتجنب الأطعمة الفائقة المعالجة وكولمبيا فرضت ضريبة على الأطعمة والمشروبات فائقة المعالجة والبرلمان البريطاني يحقق في تأثير هذه الأطعمة على صحة البشر. أما روبرت كنيدي الابن المرشح لمنصب وزير الصحة في الإدارة الأمريكية القادمة فقد أطلق مصطلح السم على هذه الأطعمة.
الأطعمة الفائقة المعالجة ط.ف.م UPFs
لا يزال لغز الأطعمة فائقة المعالجة يثير النقاش علميا والسؤال المطروح دوما هو هل هذه الأطعمة غير صحية لأن محتواها الغذائي ضعيف أم لأن معالجة الطعام بحد ذاتها هي مصدر المخاطر؟
في مطلع القرن الواحد والعشرين لاحظ الدكتور مونتيرو أن استهلاك وشراء السكر والزيت انخفض في البرازيل، ولكن صاحب ذلك ارتفاع معدلات البدانة وأمراض الأيض، وتزامن ذلك مع ارتفاع شعبية الوجبات الخفيفة المعبأة والوجبات الجاهزة المثقلة بالسكر والدهون وغيرها من المواد المضافة. في عام 2009 استحدث الدكتور مونتيرو تصنيفاً جديدا يسمى بتنصيف NOVA للأطعمة كما يلي:
١- أطعمة مصنعة حد أدني مثل الفاكهة والحليب.
٢- مجموعة المكونات الأساسية مثل الزبدة والسكر.
٣- مجموعة الخضراوات المعلبة والخبز وقطع اللحوم.
٤- مجموعة فائقة المعالجة مثل المشروبات الغازية، الحبوب السكرية والبيزا المجمدة. كلما ارتفع عدد مكونات الطعام على الغلاف يمكن أن تستنج بأن هذا الطعام هو ط.ف.م UPFs. هذه الأطعمة مصنوعة من مكونات غير موجودة عادة في المطبخ المنزلي مثل الزيوت المهدرجة، شراب الذرة عالي الفركتوز، عوامل نكهة ومستحلبات. يتم صنع ط.ف.م عن طريق تحطيم الأطعمة الكاملة إلى مكونات مثل السكريات، وبروتينات، ونشويات، وألياف. يتم تعديلها كيميائيا وإعادة تجميعها مع إضافة ألوان اصطناعية ومحليات لكي تصبح أكثر جاذبية.
ارتفعت حصة ط.ف.م UPFs في الوجبات الغذائية عالميا منذ التسعينيات وأصبحت تمثل نصف كمية السعرات الحرارية في أمريكا وبريطانيا. تتزايد الأدلة على أن استهلاك هذه الأطعمة يؤدي إلى مشكال صحية مثل البدانة، السكري نوع 2، أمراض القلب والأوعية الدموية، أمراض خبيثة، ومشاكل الصحة العقلية. تحتوي هذه الأطعمة على تركيزات أعلى من الدهون والسكر والملح مقارنة ببقية الأطعمة المصنعة والتي يمكن أن تفسر آثارها السلبية، ولكن تحليلا إحصائيا من جامعة لندن استعرض 37 دارسة واستنتجت أنه حتى بعد ضبط كميات الدهون والسكر والملح كانت هذه الأطعمة مرتبطة بقوة بتدهور الصحة وهذا يشير إلى أن الضرر أكثر من مجرد تغذية سيئة.
رغم كل ما تم تسطيره أعلاه فإن هناك عوامل متعددة تلعب دورها في تدهور الصحة العامة مثل الدخل والتعليم والظروف الاجتماعية والدراسات الرصدية Observational لا تستطيع تقديم إجابات قاطعة وحتى مع إجراء تعديلات إحصائية فإن الاستنتاجات ليست جيدة على ما فيه الكفاية. الطريقة المثالية هي عمل تجارب عشوائية محكومة Randomised Control Trial RCT وإحدى هذه التجارب القليلة هي دراسة أمريكية مدتها أربعة أسابيع تلقى المشاركون فيها إما أطعمة فائقة المعالجة أو معالجة بشكل طفيف لمدة أسبوعين قبل تبديل النظام الغذائي لمدة أسبوعيين تاليين. كان لدى المشاركين في كلا النظامين نفس الكمية من السعرات الحرارية والعناصر الغذائية مثل السكريات والألياف والدهون وكان المشاركون أحراراً في تناول الطعام القليل أو الكثير. كانت نتائج هذه الدراسة لافتة للنظر حيث تناول المشاركون 500 سعرة حرارية أكثر في اليوم الواحد مع استعمال الطعام الفائق المعالجة واكتسبوا كغم واحد وزن إضافي على مدى أسبوعين وكان تناولهم للطعام أسرع بكثير. انعكست النتائج مع التحول إلى النظام الغذائي القليل المعالجة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا الإفراط في الطعام مع تناول طعام فائق المعالجة وإحدى النظريات هي أن المصنعين غالبا ما يجففون الطعام لتحسين الصلاحية وهذا يجعل الطعام أكثر كثافة من ناحية الطاقة. النظرية الأخرى هي أن الأطعمة فائقة المعالجة جذابة طعما ويصعب مقاومتها بسبب المزيج من الدهن والسكر والملح وتشجع الإنسان على الأكل بسرعة وبالتالي لا تستطيع الأمعاء الإشارة إلى الدماغ بسرعة كافية حول امتلاء الجهاز الهضمي (المعدة). خير مثال على ذلك هو رقائق البطاطس فنادرا ما يستطيع الإنسان تناول قطعة واحدة أو اثنتين.
نقاش عام
رغم كثرة الأدلة حول أضرار الأطعمة فائقة المعالجة، ولكن ما تزال هناك حاجة لدراسات أكثر. على سبيل المثال هناك دراسة تشير إلى أن الأطعمة فائقة المعالجة مثل المشروبات المحلاة واللحوم المصنعة مرتبطة بأمراض القلب، ولكن لا يوجد دليل على وجود مثل هذه العلاقة مع أطعمة فائقة المعالجة مثل حبوب الإفطار والخبز والزبادي. من جهة أخرى لا يكفي رفع الضرائب على مثل هذه الأطعمة للحد من استهلاكها فمثل هذه الخطوة أثبتت فشلها، ولكن هناك الحاجة لدراسات أفضل وتوعية صحية عامة.
المصدر
الإيكونومست 28 تشرين الثاني2024.
واقرأ أيضًا:
الدماغ والألم 2- العلاج / الفيتامينات والمكملات الغذائية والوقاية من السبه