تزايدت معدلات البدانة في الأطفال بشكل ملحوظٍ في العقود الأخيرة، ففضلاً عن ما تقوم به شركات إنتاج الغذاء من تسويق متعاظمٍ لأطعمةٍ عالية السعرات لذيذة الطعم وسهلة الالتهام أمام شاشات الفيديو أو الكومبيوتر، فإن التمدد الأفقي للمدن الحديثة واعتماد الكائن البشري المتزايد على وسائل الانتقال المريحة، وكون المدرسة غالبًا أبعد من أن ينتقل إليها الأطفال سيرًا على الأقدام حتى أن نسبة من يذهبون للمدرسة سيرًا على أقدامهم لا تتعدى 10% كما تبينُ دراسةٌ أمريكية حديثة (Sheehan, 2002)، كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى زيادةٍ كبيرةٍ في معدلات البدانة في الأطفال.
وبينما يمكن أن تقبل البدانة -من تحت الضرس- في الكبار الراشدين ويستطيعون التعامل معها وتقبلها، نجد أن الأمر أصعب وأفدح بكثير في المراهقين والمراهقات والواقع الملموس هو أن السن التي يبدأ عندها الانشغال الملح بشكل ووزن الجسد في تناقص مستمر في كل بقاع الدنيا، وهو ما يحمل خطرا كبيرا يصل إلى حد تأخير البلوغ بسبب الحمية الدائمة إن لم يؤد إلى اضطرابات الأكل النفسية.
وتبين الإحصاءات الغربية أن ما بين10%و15%من الأطفال والمراهقين الأمريكيين يعانون من البدانة، وفي نفس الوقت فإن عدد من يبذلون جهدًا بدنيا لمدة عشرين دقيقة ثلاثة مرات أو أكثر كل أسبوع يقل عن 25%من الأطفال والمراهقين أي أقل من واحد في كل أربعة (NASPE,2001)، وقد زادت معدلات انتشار البدانة بين المراهقين في الغرب بما يزيد عن 75 % خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين (Troiano et al., 1995)، ومن يتأمل حال هؤلاء في نفس الوقت الذي نعيش فيه عصر الصورة النموذج يدرك إلى أي حدٍّ يقع الأطفال ومن هم في سن المراهقة بين فلقي الرحى، فمن ناحية نقدم لهم غذاء مغريا ومتاحا ونقلل من حاجتهم لبذل مجهود بدني، ومن الناحية الأخرى نطارد عيونهم ووعيهم بصورة جسد مثالي لا يستطيعون الوصول إليه كما بينا من قبل في مقال أكذوبةُ الوزن المثالي Ideal Weight.
وأما في البلدان العربية فهناكَ عدةُ دراساتٍ أجريت في مصر على الطلاب في مراحل التعليم المختلفة بما فيها الجامعات، منها دراستان أجريتا على طالبات الجامعة المقيمات في المدن الجامعية إحداهنَّ في جامعة أسيوط (El-Fishawy & Yossef,1988) وبينت معدل انتشارٍ لزيادة الوزن بلغ 21,8% منهن 14% في مرحلة ما قبل البدانة و 7,8% بدينات بالفعل، وفي دراسةٍ أحدث (Farahat & Abou El-Fath, 2001) أجريت في جامعة المنوفية ظهرَ أعلى معدل انتشارٍ للوزن الزائد والبدانة في الدراسات العربية التي بين يديَّ حيثُ كانت نسبةُ زائدات الوزن 57,3% منهن 44,4% في مرحلة ما قبل البدانة و13,4% بدينات بالفعل؛
كما أوضحت الدراسةُ الأخيرةُ أن من بين العوامل المحددةِ لزيادة الوزن والبدانة بين الطالبات عدم ممارسة الطالبات للرياضة وانتشار الأمية والسمنة بين أمهات الطالبات وكذلك زيادةُ السن فقد كانت نسبةُ زائدات الوزن أعلى كلما كان عمر البنت أكبر وهوَ ما تؤيدهُ نتائجُ دراسةٍ مصريةٍ أخرى (Fahmy et al.,2000) أجريت على طلبةِ المدارس الإعدادية، وكذلك تؤيدهُ النتائجُ الأولية لدراسةٍ أخرى (Abdo , 2003) شملت طلبة المرحلة الثانوية إضافةً إلى الإعدادية فكانت معدلات الوزن الزائد (منسب كتلة الجسد أعلى من 25 كجم/متر مربع) في الدراسة الأخيرة ففي الفئة العمرية 11-14 عاماً كانت النسبة المئوية لزائدي الوزن 36,7% وارتفعت إلى40,3% في الفئة العمرية 15-17عامًا وإلى 62% قي الفئة العمرية 17-20 عاماً.
وهناك مشاكل عديدة تواجه المتصدين لظاهرة البدانة في الأطفال، فكما أشرنا في مقالنا السابق هل هناكَ تعريفٌ طبيٌّ موضوعيٌّ للبدانة؟ فليس هناكَ تعريف موضوعي محددٌ ومتفق عليه للبدانة في الكبار، إلا أن الأمور تزيدُ تعقيدًا عندما يتعلق الأمر بفترة الطفولة والمراهقة وكلتاهما فترة نمو وتغير، ولهذا السبب نجدُ أن الباحثين المختلفين استخدموا معايير مختلفة وتعريفات مختلفة من دراسة لدراسة، فمثلاً اعتبر بعض الباحثين تعبير زائد الوزن Overweight على الطفل أو المراهق الذي يزيدُ وزنه عن المتوقع بالنسبة لطوله بنسبة 20%، وتعبير بدين Obese إذا زاد الوزن بنسبة 50% وتعبير بدين بصورة مرضية Morbidly Obese إذا بلغت الزيادة ما بين 80%و 100% بالنسبة للطول أيضًا إلا أن كون الوزن والطول يتغيران باستمرار في مرحلة الطفولة والمراهقة يجعل من استخدام مثل هذه الطريقة أسلوبا اعتباطيا ومضللاً في أحيان كثيرة (Freemark, et al.,2002).
ومرةً أخرى لجأ الباحثون إلى الاتفاق فيما بينهم على أن معادلة منسب كتلة الجسد Body Mass Index رغم عدم دقتها هيَ أفضل الطرق المتاحة لتحديد البدانة، وتحسب من خلال قسمة الوزن بالكيلوجرام على مربع الطول بالمتر، وكانَ آخر ما تم الاتفاق عليه بين الباحثين هو أن زيادة منسب كتلة الجسد عن 30 كجم/المتر المربع عند أي عمر يعني البدانة (Goran ,1998)، إلا أن من المهم أن ندرك أن الاتفاق ما يزال على قيمٍ اعتباطية فنحنُ إذا تابعنا متوسط منسب كتلة الجسد من الولادة وحتى عمر العشرين سنجد أن المتوسط يتغير من 13 كجم/المتر المربع عند الولادة إلى 17 كجم/المتر المربع عند عمر السنة ليقل إلى 15.5 كجم/المتر المربع عند عمر ست سنوات ثم يزيدُ مرةً أخرى إلى 21 كجم/المتر المربع عند بلوغ العشرين من العمر (Cole et al.,1995).
وهناك محاولات تجري لاستخدام طريقةٍ أخرى لتحديد النقط التي يعتبرُ عندها طفلٌ ما أو مراهقٌ ما بدينا بحيثُ يكونُ هناكَ ارتباطٌ واتساقٌ أكثر مع العمر والجنس وهي الطرق المئينية Percentile، والتي تعتمد على مقارنة الأفراد من نفس العمر والجنس بعضهم ببعض حسب متغير الوزن (Power et al.,1997)، فمثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية يعتبرُ المراهق الواقع في المئين الخامس والثمانين (أي أنهُ أكثرُ وزنا من 84% وأقل وزنا من15 % من الآخرين في مثل عمره) زائد الوزن Overweight بالنسبة لأقرانه، وتمتد فئة زائدي الوزن حتى المئين الخامس والتسعين والذي يعتبر المراهق الذي يصل وزنه إليه بدينًا (Power et al.,1997)، إلا أن القياسات الأمريكية لا يمكنُ اعتبارها معبرةً عن الأجناس الأخرى بالطبع.
وأما ما ألمسه منذ عدة سنوات خلال عملي كطبيب نفسي فليس فقط زيادة معدلات البدانة بين الأطفال والمراهقين، فرغم أن هذه مشكلة كبيرة إلا أن ما ألمس أثره النفسي أكثر من البدانة في حد ذاتها هو الرفض المتنامي للبدانة ففي الوقت الذي يتغير الجسد وينمو بتسارع إيذانا بالبلوغ والدخول في المراهقة، يصبح الطفل عرضة لسخرية أقرانه، وقد بينت عدةُ دراساتٍ أهمية الانشغال بالوزن والأكل وشكل الجسد لدى الأقران في مرحلة المراهقة (Taylor et al.,1998)، كما ظهرت سخرية الأقران فيما يتعلق بالوزن أو صورة الجسد كعاملٍ مرسبٍ للاهتمام بالأكل والوزن وصورة الجسد والحمية المنحفة وربما اضطرابات الأكل (Fabian & Thompson ,1989) و(Rabe-Jablonska,1997) كما ظهرت أهمية التغير في آراء الأقران حول المراهقة وكذلك تغير وضعها وسط مجموعة الأقران (Rabe-Jablonska,1997).
وبالرغم من أن التعرضَ للسخرية لم يحظَ بما حظيَ به الضرار الجنسي في الطفولة إلا أن هناكَ العديد من الروايات على ألسنة حالات اضطرابات الأكل تبينُ الأهمية الفاصلة للتعرضِ لتعليقات ساخرة تتعلقُ بالجسد أو الوزن، خاصةً عندما تجيءُ التعليقات من الأولاد (Hill & Pallin ,1995)، إلا أن مثلَ هذه الأحداث التي تحول انتباه البنت إلى شكل جسدها وإلى الاهتمام بالحفاظ عليه لا تستطيعُ بمفردها أن تشكلَ اضطراب الأكل، لكنها في ظل المنظومة المعرفية السائدة قد تدخل البنت في دائرة الحمية وهيَ باب الدخول لاضطرابات الأكل بوجهٍ عام كما أن مثل هذه التعليقات الساخرة تمثل تهديدًا مباشرًا لتقدير الذات لدى المراهقةِ أو المراهق وهذا ما يجعلهُ أضعفَ في مواجهة التهيئة للاضطرابات النفسية في المراهقة بشكلٍ عامٍ وليسَ فقط لاضطرابات الأكل.
ومن المهم أيضًا الإشارةُ إلى أن وجودَ ارتباطٍ بين حدثٍ حياتي مؤلم وبدايةُ أي اضطرابٍ نفسي إنما يعني مآلاً أفضلَ بكثيرٍ من الحالات التي لا يوجدُ فيها مثل هذا الارتباط (North et al.,1997)، وكل هذه النقاط غيرُ مدروسةٍ في البيئة العربية، إلا أنني قابلت في السنة الأخيرة ما يزيد على عشرة حالات (منهم أربع ذكور)، وكان سبب العرض على الطبيب النفسي هو إحالة الحالة غالبا من طبيب الأمراض الباطنية لأن الطفل أو المراهق قد أحجم عن الأكل بصورة تكاد تكونُ كاملة منذ فترة، وبالفحص والتحليل النفسي المعرفي يتبين أن الموقف الحاسم الذي اتخذ بعده القرار بالكف عن الأكل هو التعرض لسخرية أحد الأقران، وأحد أهم النقاط في علاج هؤلاء هو علاج الخوف المفرط من الأكل الذي يبدونه، وكذلك محاولة تصحيح المفاهيم المغلوطة الشائعة عن تقسيم الطعام إلى جيد (لا يسمن)، وسيء (غني بالسعرات)، وأيضًا الطرق الشائعة لتقليل الوزن بين الناس دون دراية بأخطارها، ومن أمثلة تلك الطرق في بنات مدارسنا ما ذكرناه في مقال: الحمية المنحفة في الأطفال والمراهقين.
المراجع العلمية:
1-Sheehan, M.O. (2002) : Cars drive up the costs of urban sprawl: "In addition to eating up more human time and motor fuel, car-centric cities require greater expenditures on transportation and other infrastructure--expenses that chip away at a region's economic potential." (Ecology). Weider Publications http://www.findarticles.com/cf_0/PI/search
2- NASPE (National Association for Sport and Physical Activity,2001) : Shape of the Nation Report: Status of Physical Education in the USA,2001.
3- Troiano RP, Flegal KM, Kuczmarski RJ, et al. (1995) : Overweight prevalence and trends for children and adolescents: the National Health and Nutrition Examination Surveys, 1963 to 1991. Arch Pediatr Adolesc Med. 1995;149:1085-1091
4-El-Fishawy , F. and Yossef , M. (1988) : A Comprehensive Study on Nutritional Status in Assuit University Students Living in Dormitory. Technical Bulletin ;19.
5-Farahat ,T., and Abou El-Fath , O. (2001) : Obesity and it’s Impact on the Quality of Life Among Menoufiya University Female Students Living in Dormitory. Egyptian Journal of Community Medicine , Vol.19 No.3 , P : 9-20.
6-Fahmy, H.H., Koura, S.K., El-Tokhy, H.M. & Hagag, S.A. (2000) : Overwieght & Obesity among Preparatory School Children in Zagazig City : Prevalence & Risk Factors. Zagazig University Medical Journal , V 6(4),P: 584- 598.
7-Abdo , M. N. (2003) : A Study of some Adolescent Health Problems in Sharkia Governorate. Unpublished M.D.Thesis , Zagazig Medical School
8-Freemark ,M. , Schwarz, S., Konop, R. et al., (2002) : Obesity from Pediatrics eMedicine Journal, March 15 2002, Volume 3, Number 3
9- Goran MI (1998) : Measurement issues related to studies of childhood obesity: assessment of body composition, body fat distribution, physical activity, and food intake. Pediatr 1998; 101: 505-517
10-Cole TJ, Freeman JV, Preece MA. (1995) : Body mass index reference curves for the UK, 1990. Arch Dis Child 1995;73:25-9.
11- Power C, Lake JK, Cole TJ. (1997) : Measurement and long-term health risks of child and adolescent fatness. Int J Obesity 1997;21:507-26.
12- Taylor , C.B. Sharpe , T. , Shisslak , C. etal (1998) : Factors Associated with Weight Concerns in Adolescent Girls. Internat J Eating Dis. 1998; Volume 24 Page : 31-42.
13-Fabian, L.J. & Thompson, J. K. (1989) : Body Image & Eating Disturbances in Young Females. Internat J Eating Dis. V.8,P :63-74.
14-Rabe-Jablonska , J. (1997) : Body Image Disturbance in Anorexia Nervosa. Polish Journal of Psychiatry. V. 31 ,P: 397-408.
15-Hill , A. J. and Pallin , V. (1995) : Low Self-Esteem and Weight Control : Related Issues in 8 year old Girls but not Boys. International Journal of Obesity. Volume 17, Supplement 2 , Page 128.
16-North , C. ,Gowers , S. and Byram , V. (1997): Family Functioning and Life Events in the Outcome of Anorexia Nervosa. British Journal of Psychiatry , Volume 171 , Page : 545-549.
واقرأ أيضًا من على مجانين:
زيادة الوزن والرهاب الاجتماعي / الجوع والشهية ومعاملُ الشبع / أكذوبةٌٌ اسمها (الريجيم) الحميةُ المنحفة / أكذوبةٌ اسمها أغذيةُ الحمية المنحفة