نجدُ في معظمِ مرضى اضطرابات الأكل النفسية إما خوفًا مرضيا من البدانة قد يكونُ مصحوبًا بتشوهٍ لإدراك صورة الجسد، أو بدانةً فعليةً يرى الشخصُ جسده بسببها مشوها أو قبيحًا أو على الأقل غير مرغوب فيه، وفي كلتا الحالتين يتسمُّ المريض بقلة تقديره لنفسه وقلة اقتناعه بصورة جسده، كما أن الاكتئاب بدرجاته المتفاوتة عادةً يكونُ موجودًا خاصةً في مريضات النهام العصبي Bulimia Nervosa ، إلى الحد الذي يجعلُ التشخيص التفريقيَّ بينَ اضطراب أكل أدى إلى اكتئاب أو اضطراب اكتئابٍ أدى إلى اضطراب أكلٍ تفريقًا صعبًا في الكثير من الأحيان.
ورغم أن التجويع المستمرَّ للذات غالبًا ما يكونُ مسئولا عن الكثير من أعراض اضطرابات الأكل (كالانشغال الزائد بالأكل ومحتوى كل صنفٍ من السعرات الحرارية، وتخزينِ الأكل، والبطءِ الشديد في تناول الطعام، والنزق، واضطراب النوم ونوبات الدقر وتقلبِ المزاج وبطء العمليات المعرفية)، بالرغم من ذلك فإن التجويع المستمرَّ للذات إنما يقومُ بوظيفةٍ نفسيةٍ مهمةٍ للمريض في أغلب الأحوال بحيثُ لا يكونُ التخلي عن ذلك التجويع أمرًا سهلاً، لأنهُ في كثيرٍ من الأحيان يمثلُ التحكمَ الوحيد الذي يشعرُ به المريض ويحسٌّ بنجاحه فيه، كما أن إدراك المرضى لأجسادهم إنما يتسمُّ بنوعٍ من الرفض وعدم الراحة، وفضلاً عن تشوه صورة الجسد المدركة لديهم، فإن كثيرين منهم يدركونَ أجسادهم وكأنها أجسادٌ غريبةٌ عنهم وتستلزمُ التحكم المستمرَّ الواعي.
ومن المشاعر التي كثيرًا ما نراها في مريضات الأكل نوعًا من نكران الذات المرضي، ونكران الذات المرضي يختلفُ عن نكران الذات المحمود كصفةٍ خلقية، فنكرانُ الذات الذي أقصدهُ هنا إنما يظهرُ في نكران الحالة الواعي وغير الواعي لمتطلبات جسدها، وعدم اكتراثها بما يظهرُ عليه من تأثيراتٍ بسببٍ سلوكياتها المرضية كالصوم المتواصل، والاستقاءة، وابتلاع المسهلات وغير ذلك، مما قد يؤثرُ سلبيا على نضارة الجسد ومظهر الجلد، وكأن تناقضًا كبيرًا يظهرُ في فهمنا للإمراضية النفسية لاضطرابات الأكل، حيثُ يظهرُ اهتمامُ الحالة بكم تزن وكيفَ تبدو اجتماعيا كعلامات على اهتمامها بمظهر جسدها في تناقضٍ حادٍ مع إهمالها لجسدها وحيويته ونضارته كعلامات على رفضها لذلك الجسد وكأنها تعاقبهُ كمذنب.
كما يلاحظُ نوع من الميل للوم الذات والشعور بالذنب بسبب مجهودات الآخرين لمساعدتها وكأن لسان حالها يقولُ أن ذلك الجسد الخائبَ لا يستحقُّ المساعدة، وهذا أيضًا نوعٌ من الانحراف المعرفي الذي جعل تقييمَ المرأةِ/الإنسان لذاتها معتمدًا بصورة تكادُ تكونُ كليةً على مظهر ذلك الجسد ومدى التزامه بمعايير اصطنعتها بعض العقول، نحنُ نتكلمُ إذن عن أحد نماذج الإفرازات الفكرية الغربية التي انتشرت في الهشيم الثقافي المتناثر حول العالم فأصبحت أكثرَ منه تأثيرًا في أصحاب ذلك الهشيم.
ومن المهم البحثُ عن الاكتئاب أيًّا كانَ شكله وشدته ومداه الزمني في حالات اضطرابات الأكل، لأن اضطراب الاكتئاب كثيرًا ما يكونُ هو الاضطرابُ الوجداني المواكب لاضطرابات الأكل النفسية في معظم الحالات خاصةً تلك التي يتعلقُ الأمرُ فيها بالانفلات متمثلاً في نوبات الدقر، كما نرى في اضطراب القشم القهري Compulsive Overeating وفي اضطراب نوبات الدقر Binge Eating Disorder، أو ما يتعلقُ الأمر فيها بالتذبذب بينَ الانفلات والتحكم الحصري أو التفريغي كما نرى في اضطرابِ القهم النهامي، أو اضطراباتِ النهام العصبي، والتي كثيرًا ما تشملُ بعض حالات القهم العصبي كما يتضحُ من التاريخ المرضي عند بحثه؛
وأنا أشير إلى الاكتئاب هنا نظرًا لأهمية هذه الإشارة وخطورتها، فأنا حينَ أضعُ اكتئاب المريضة مع الاندفاعية المتمثلة لا فقط في انفلاتها تجاه الأكل أحيانًا، وإنما أيضًا في العديد من مناحي السلوك، ذلك السلوك المتأرجحُ بين تقلبات المزاج التي كثيرًا ما تكونُ حادةً في حدوثها، مع الشعور المزمن بالضجر، وفقدان التحكم في سلوكيات الغضب إلى فقدان التأكد من الهوية الشخصية إلى آخر ذلك من سمات سلوكية عندما يتفاعلُ معها الاكتئاب تصبحُ في منتهى الخطورة بحق، أضعُ الاكتئاب لكي أقول أنني أخافُ على هذه الحالة من الانتحار، فبرغم أن محاولات الانتحار التي يقصد بها أن تكونَ محاولات فقط هيَ الأكثرُ حدوثًا في حالات النهام إلا أن خبرةَ أي طبيب نفسي قد علمته أنهُ لا بد من اتخاذ التهديد بالانتحار دائمًا مأخذَ الجد.
كذلك بينت دراسةٌ حديثةٌ وجود مستوى عالٍ من الغَيْرِيَّةِ Selflessness في مريضات اضطرابات الأكل حيثُ أنهن لا يشعرنَ بأحقية ذواتهن مقارنةً بذوات الآخرين، وينزعن إلى تلبية رغبات الآخرين باستثناء ذواتهن، وبينُ الباحثُ في تلك الدراسة وجود فارق بين الغيرية وعدم الإقبال على الحياة وبين الميل للانتحار، إلا أن من المهم أن يعمل المعالج على إنقاص مثل هذه المشاعر في الحالة ومحاولة عقد نوعٍ من التصالح بين الحالة وجسدها أو جسده.
كما أن واحدًا من أهم العوائق التي تقفُ حائلاً بينَ مريضات اضطرابات الأكل وبين المعالج، هو نزوع المريضات إلى عدم الثقة في المعالج أو المعالجين، ويظهرُ ذلك بصورة واضحة في مريضات القهم العصبي، فهن مريضات دائمًا ما ينكرنَ وجود أي مرض لديهن وكثيرًا ما يدفعن إلى العلاج دفعًا فيرفضن التعاون مع المعالج بالتالي وتبدو الواحدةُ منهن وكأنها تدخلُ معركةً لا عمليةً علاجية؛
وأما مريضات النهام العصبي فهن أكثرَ لجوءًا لطلب المساعدة الطبية بسبب وجود بعض الأعراض المزعجة لهن، لكن تدخل الطبيب الهادف إلى تصحيح الخلل الجسدي الغذائي غالبًا يواجهُ بالرفض لأن من شأنهِ في رأي الحالة أن يفسد عليها ما ترى أنها نجحت فيه من إنقاص وزنها أو الحفاظ عليه من البدانة، إذن فرد فعل مريضات الأكل عموما هو الرفض والمقاومة مبدئيا لأي محاولة للتدخل العلاجي، ويجبُ على من يتصدى لمحاولة العلاج أن يتحلى بالصبر وأن يؤكد للمريضة أن هدف التدخل ليس فقط جسدها وإطلاق العنان لذلك الجسد كما تظن، وإنما الهدف هو إصلاح نقاط الخلل العامة في حياتها وفي علاقاتها بالآخرين وبالحياة بما في ذلك علاقتها بالأكل.
وأحيل هنا إلى مناقشة لانعكاسات بعض أبعاد الخصائص المعرفية والوجدانية كما ظهرت على استشارات مجانين وليست كلها لمريضات أكل وإنما لمريضات اضطرابات الرجيم (الحمية المنحفة) النفسية: فتح حوارٍ نفسي: مع ذات السؤالين متابعة
والبقية الروابط تجدونها في أسفل صفحة مقالات البدانة والنحافة، وأنا في انتظار آرائكم وتعليقاتكم، ودمتم مجانين.
واقرأ أيضًا:
علاج اضطراب صورة الجسد / كيفَ تَـخْـتَـلُّ صورة الجسد؟ / الأكل الانفعالي Emotional Eating / ضوء الصباح، هل هو علاج ضد السمنة؟