بدأ تواترُ الروايات التي تصفُ فقدانَ الشهية منذ وقتٍ يحددونه في التراث الغربي بما قبلَ العصور الوسطى، وهذه الحالات وإن كانت تبدو مثيرةً، إلا أن عدمَ وجود مفهومٍ محددٍ للقهم العصبي Anorexia Nervosa في ذلك الوقت يجعلُ اعتبارها حالات قهم عصبي أمرًا مشكوكًا فيه (Silverman ,1992)، ولقد حاولتُ الوصولَ إلى معطيات التراث العربي الإسلامي فلم أجد (بعد استثناء حالات الصوم المتواصل عند بعض الصوفية، والمنهي عنه أصلاً في أحاديث سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام) ما يشبهُ حالات القهم العصبي إلا ما كانَ قد وصفَ عن ابن خليفة المسلمينَ في مطلع القرن التاسع عشر حيثُ أخذَ الفتى في الامتناع عن الطعام والشراب حتى نقصَ وزنهُ كثيرًا، واعتقدَ طبيبُ الخليفة في بادئ الأمر أن هذه الأعراض ليست غير أعراضٍ ثانويةٍ لمرضٍ ما، ثم ما لبثَ الطبيبُ بعد ذلكَ أن شخصها بأنها حالةٌ نفسيةٌ، واتبع في علاجها أسلوبًا سلوكيًّا حيثُ كانَ يقدمُ للفتى مكافأةً كلما أقدمَ على تناول الطعام والشراب حتى تحسنت حالته، وأخذ وزنهُ في الازدياد (سيد أبو زيد، 1999).
وفي فرنسا في النصف الثاني من القرن 19الميلادي كتبَ مارسيه عام 1860 مقالةً مهمةً وصفَ فيها فقدان الشهية العصبيَّ موضحًا أنهُ ليسَ بالضرورةِ شكلاً من أشكال توهم المرض، وإنما تكونُ وراءَهُ غالبًا عواملُ نفسيةٌ، وسجل مارسيه ملاحظاته حول بعض الحالات لأشخاصٍ يعيشونَ عدةَ شهورٍ وربما أعوام على كميات ضئيلةٍ جدًّا من الطعام ويعانون من الهزال، وتنتهي بعضُ الحالات بالوفاة، كما ذكرَ أن بعضَ المريضات كنَّ يركزنَ بصورةٍ وسواسيةٍ على حالة ووظيفة المعدة، مما قادهُ إلى الاعتقاد بأنها حالةٌ من حالات العصاب Neurosis وكانَ يعتمدُ في علاجه لها على كلٍّ من الجانب النفسي والجانب الجسدي إلا أن الطبيبَ الإنجليزيَّ وليام جَلْ والفرنسيَّ شارك لاسيج يعتبران أول من قاما كلاًّ على حدةٍ وفي نفس الوقت تقريبًا في نهاية القرن19 الميلادي بوصف متلازمة القهم العصبي وتُرجعُ معظمُ المراجع السبقَ في نحت اسم أنوريكسيا نرفوزا Anorexia Nervosa للأول، وإن كانَ هناكَ من يشيرونَ إلى أنهُ في البدايةِ أعطاهُ اسما آخرَ هو عدمُ الهضم الهستيري Apepsia Hysterica للإشارةِ إلى السمات الهيستيرية الموجودة عندَ المريضة (Nasser , M. 1997)، وقد نحا الطبيبُ الفرنسيُّ نفس النحو من ناحية الربط بالهستيريا حيثُ سماهُ في مرحلةٍ مبكرةٍ من كتاباته في الموضوع بالقهم الهستيري (Lasegue, 1873).
وقد رأى كل منهما أن الاضطرابَ يصيبُ الإناث من الطبقات الاجتماعية العالية بصفةٍ خاصةٍ في مرحلة المراهقة، وأن العواملَ النفسيةَ والأسريةَ تبدو ذات صلةٍ بعِلِّيَّةِ هذا المرض الذي عادةً ما ينتهي بالموت، وعندَ هذه المرحلة كانَ اضطراب القهم العصبي قد أخذ وضعهُ كمرضٍ نفسي جديرٍ بالوضع على طاولة البحث العلمي، وفي عام 1859 نشرت مقالةٌ في المجلة الأمريكية للجنون American Journal of Insanity وصفَ فيها القهم العصابي بأنهُ مرحلةٌ من مراحل الجنون، ويحدثُ بسببِ عواملَ نفسية أو جسديةٍ تتعلقُ بالهضم، فأصحابُ هذا الاضطراب من وجهة نظر الكاتب، يمتنعونَ عن الطعام إما بسببِ الخوفِ من التسممِ أو الاعتقاد بأن امتناعهم عن الطعام مطلبٌ إلهيٌّ أو مطلبٌ لقوى خارجةٍ عن الطبيعة، وهم رغم ذلك كما رأى كاتب المقال لا يعانونَ لا من فصام ولا اضطرابٍ وهامي (ضلالي)!؛
والواضحُ بالطبع أن كاتبَ ذلك المقال خلطَ بينَ مفهوم الفكرة التسلطية ومفهوم الفكرة المهيمنة (أو المبالغ في تقديرها) Over-Valued Idea ومفهوم الفكرة الضلالية (الوهامية) في مقاله ذاك، ورأى الطبيبُ الفرنسي جانيه أن القهم العصبي إنما يرجعُ إلى مواجهة التطور الجنسي المصاحب للمراهقة والتغيرات التي تطرأُ على الجسد أثناء البلوغ، واعتبرَ أعراضه تعبيرًا خارجيا عن اضطراباتٍ نفسيةٍ وصعوبات انفعاليةٍ عديدةٍ، وأن رفض الطعام سببهُ وجود فكرةٍ حوازيةٍ (تسلطية) Obsessive Thought مؤداها الحفاظ على جسدٍ طفولي قليل الحجم وغير قابلٍ للنمو (سيد أبو زيد، 1999).
وهكذا كانت النظريات النفسية التي تحاول فهم أسباب القهم تتوالى، وإن كانَ ميلُ البعض إلى اعتباره مجرد سوءِ تغذيةٍ نفسي المنشأ أو ذي علاقةٍ بالهستريا قد أخر تطورَ المفاهيم بعضَ الشيء، كما أنهُ في مطلع القرن العشرين ظهرَ اتجاهٌ لاعتبار القهم العصبي ناتجًا عن خللٍ في إفرازات الغدة النخامية لسببٍ أو لآخرَ وتمَّ تشخيصُ الكثير من حالات ذلك الاضطرابِ النفسي كحالاتِ اضطراباتٍ هرمونية (والحقيقةُ أن اضطرابًا يحدثُ في الفص الخلفي من الغدة النخامية يسمى القصورَ النخاميَّ الشامل أو مرض سيموند Simmond's Disease تشبهُ صورةُ المريضة الخارجية فيه مريضةَ القهم العصبي بالفعل ويحدثُ فيه انقطاعٌ للطمث ونحولٌ فائق).
وكانَ هذا التفسير الفسيولوجي للقهم العصبي بمثابة الحجر الثقيل الذي أوقفَ البحثَ النفسيَّ في الموضوع طويلاً، إلى أن تم دحضُ النظرية تمامًا بعد ذلك بإثبات وجود تركيبةٍ معرفيةٍ معينةٍ في المريضة بالقهم العصبي إضافةً إلى عدم وجود ما يشيرُ إلى أي إصابةٍ في الغدة النخامية باستخدام الوسائل المتاحة حتى أواخر الخمسينات من القرن العشرين (Garner ,1993).
وظلَّ الرأي الشائع بين الأطباء النفسيين وغيرهم في الخمسينات والستينات من القرن العشرين أن القهم العصبي ليسَ أكثرَ من سوءِ تغذيةٍ نفسية المنْشَأ Psychogenic Malnutrition أيًّا كانَ الاضطراب النفسيُّ الموجود لدى المريضة (Halmi, 1983)، حتى أن دراسةً نشرت عام 1954 استنتجَ الباحثان فيها أنهُ: "لا يوجدُ عصابٌ معينٌ للقهم العصبي، ولا يوجدُ قهمٌ عصبيٌّ معين" (Kay & Leigh, 1954)، وفي نفس الوقت تقريبًا كان الأطباءُ النفسيونَ يعتبرونَ حالات القهم العصبي بوجهٍ عام مجردَ شكلٍ من أشكال اضطراباتٍ نفسيةٍ أخرى كالاكتئاب أو الهستريا أو الوسواس القهري أو الفصام.
وفي عام 1963 قسَّمَ كينج (King ,1963) متلازمة القهم العصبي إلى: قهم عصبي أولي وتكونُ فيه عمليةُ الأكل نفسها غير مرغوبٍ فيها من قبلِ المريضة، ويكونُ الامتناعُ عن الأكل بالتالي هدفًا ومكسبًا لها، ويتميزُ هذا النوعُ بسعْيٍ لا يلينُ للنحافة (Brush ,1965)، كما يكونُ الخوفُ الشديدُ من زيادة الوزن بل من الوصول إلى الوزن المثالي المناسب للطول والسن عرضًا مركزيا (Russell , 1970) فيه إلى الحد الذي جعل بعضَ الأطباء النفسيين في ذلك الوقت (Crisp ,1967) يطلقون عليه رهاب الوزن Weight Phobia، وقهم عصبي ثانوي ولا يوجدُ فيه رفضٌ أو كرهٌ للأكل في حد ذاته، ويكونُ الامتناعُ عن الأكل ثانويا لفكرةٍ ضلالية أو لاكتئاب شديد، والنوع الأولي بالطبع هوَ موضوعنا الآن.
ومن المهم أن يكونَ حاضرًا في ذهن القارئ أن الشهية للطعام لا تفقدها المريضة بالقهم العصبي بالرغم من تسمية الاضطراب بفقد الشهية العصبي (فهذا الاسم في الأصل اسمٌ خاطئ لكن ثباته لدى الناس في الغرب يمنع الراغبين في تغييره من تغييره)، ولعلَّ لذلكَ قامت مجموعة البحث التي قامت بترجمة التصنيف الدولي العاشر للأمراض النفسية (منظمة الصحة العالمية ، 1999) الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية 1992 إلى النسخة العربية (منظمة الصحة العالمية ، 1999)، باختيارٍ لفظٍ عربي آخرَ هو القهم والذي يعني قلةَ الأكل، لمرضٍ أو غيره فالقهِمُ كما جاءَ في لسان العرب (ابن منظور ، 630-711 هـ) هو قليلُ الأكل لمرضٍ أو غيره، وإن كانَت أيضًا قلةُ الشهية للأكل قد جاءت ضمن المعاني المدرجة في لسان العرب، إلا أن المعنى المقدمَ هوَ قلةُ الأكل، كما أن كلمةً واحدةً أفضلُ من كلمتين، وليسَ عندنا بالطبع من يعرفونَ شيئًا عن الأنوركسيا نرفوزا لكي نعجزَ عن تغيير الاسم.
ليسَ فقدُ الشهية للطعام إذن موجودًا في هذا الاضطراب مثلما يمكنُ أن يكونَ موجودًا في حالاتٍ نفسية أخرى كالاكتئاب الجسيم على سبيل المثال، وإنما جوهرُ اضطراب القهم العصبي هوَ توجهٌ مشوَّهٌ عنيدٌ لا سبيل لتغييره تجاه الغذاء بوجه عام، وتجاه ما تراهُ المريضةُ غذاءً دسمًا بوجهٍ خاص، إضافةً إلى توجهٍ مشوهٍ عنيد لا سبيل لتغييره تجاه شكل الجسد وتجاه البدانة والشحم، ولما كانَ نزولُ الحيض على الأنثى يحتاج إلى حد ما إلى توازنٍ معينٍ ووفرةٍ معينةٍ في جسد المرأة، فإن الذي يحدثُ عند من تقع فريسةً للقهم العصبي هو انقطاع الطمث لأن الحالة الصحية العامة لا تسمح به، ويمكنُ في الحالات التي يبدأ فيها الاضطراب مبكرًا أي قبل نزول الطمث لأول مرة أن تكونَ النتيجةُ هيَ عدم نزول الطمث بالمرة على البنت، وعند هذه المرحلة من الفهم يمكننا اعتبار النقاط التالية بمثابة شروط تشخيص اضطراب القهم العصبي في الطب النفسي حسب أفكار العقدين الأخيرين من القرن الماضي:
-1- توجهٌ مرضيٌّ مميزٌ تجاه الأكل والبدانة يتسمُ بالخوف المفرط من زيادة الوزن وبسعيٍ لا يلينُ إلى النحافة.
-2- فقدٌ مفرطٌ للوزن لا يقلُّ عن فقد 25 % من وزن الجسد قبل بداية الاضطراب، أو أن يكونَ الوزنُ أقلَّ من 75% من المتوسط المناسب للسن والطول حسب مقاييس المجتمع المعين.
-3- انقطاع الطمث في الإناث، وفقد الرغبة والقدرة الجنسية في الذكور.
وأما الفهم الحالي لاضطراب القهم العصبي فقد بيناه في مقالنا عن ذلك الاضطراب، كما تتضح معالمه أكثر بقراءة الروابط التالية:
ما هو القهم العصبي؟: لا فقدان الشهية/ اضطراب القهم النهامي/ ماذا لدى أطبائنا لعلاج القهم العصبي؟ متابعة
المراجع:
(1) ابن منظور(630-711 هـ) لسان العرب، عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي ج5 ، دار المعارف بالقاهرة،ص3766.
(2) سيد أبو زيد عبد الموجود (1999): اضطرابات الأكل لدى المراهقين والشباب وعلاقتها ببعض متغيرات الشخصية ، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية الآداب جامعة الزقازيق ، فرع بنها.
(3) منظمة الصحة العالمية (1999): المكتب الإقليمي لشرق المتوسط المراجعة العاشرة للتصنيف الدولي للأمراض ICD/10 تصنيف الاضطرابات النفسية والسلوكية ،النسخة العربية، الأوصاف السريرية (الإكلينيكية) والدلائل الإرشادية التشخيصية.
(4) Silverman , J. (1992) : Historical Development. In : Halmi, k. A (ed). Psychobiology of Anorexia Nervosa and Bulimia Nervosa. New York , APA Inc.
(5) Nasser , M. (1997) : Culture and Weight Consciousness . Routledge. London.
(6) Lasegue , C. (1873) : De I' anorexie Hysterique , Archives of General Medicine 385 , Reprinted in R.M. Kaufman and M. Hieman (eds) (1994) , Evolution of Psychosomatic Concepts : Anorexia Nervosa : A Paradigm , New York International University Press.
(7) Garner , D (1993): Pathogenesis of Anorexia Nervosa. Lancet , Volume , 341, (8861) : P. 1631.
(8) Halmi, k. A (1983) : Psychological Factors Affecting Physical Conditions. In Kaplan, Freedman & Sadock’s Comprehensive textbook of psychiatry III 3rd. edition vol.2,p.1882-1891. Williams & Wilkins Baltimore/ London 1983.
(9) Kay, D.W.K. and Leigh, D. (1954) : Journal of Mental Science , 100 , page :411.
(10) King , A. (1963) : British Journal of Psychiatry , 109 , Page 470.
(11) Brush , H. (1965) : The Psychiatric Differential Diagnosis of Anorexia Nervosa. In : Symposium on Anorexia Nervosa,Gottingen. Eds. Meyer , J.E. and Feldmann , H. Stuttgart , Thieme Verlag. Page , 70.
(12) Russell , G. F. M. (1970) : Anorexia Nervosa , It’s Identity as an Illness and it’s Treatment. In : Modern Trends in Psychological Medicine. 2nd Edition. Ed Price , J.H. London.
(13) Crisp , A.H. (1967) : Hospital Medicine , 1, Page 713.
واقرأ أيضًا:
علاج اضطراب صورة الجسد / كيفَ تَـخْـتَـلُّ صورة الجسد؟ / الأكل الانفعالي Emotional Eating / ضوء الصباح، هل هو علاج ضد السمنة؟