الاستقاءة (التقيؤ المتعمد أو طلبُ القيء) Self Induced Vomiting
الاستقاءةُ لغةً هي طلبُ القيء، أو الاستخراجُ المتعمد لما في الجوف، وقد فضلتُ استخدام هذا اللفظ على استخدام التقيؤ المتعمد لترجمة Induced Vomiting ، لأن في اللغة العربية كلمةٌ واحدةٌ تؤدي الغرض، وفكرةُ الاستقاءة فكرةٌ قديمةٌ ربما قدم وجود البشر، ونجدُ أول وصفٍ لها في التاريخ البشري المدون في بردية إيبرس الفرعونية حيثُ كانَت الاستقاءةُ أحدَ طرق العلاج التي يصفها وينصحُ بها الأطباء أحيانًا وقد بينت البردية المذكورة فوائد الاستقاءة العديدة بناءً على المفهوم الشائع -حتى في تلك الأيام البعيدة- والذي يرى أن كل الأمراض مصدرها الأساسي هو الطعام، وجاءَ في كتاب الطب السرياني أن علاج الانغماس الحيواني في الأكل من حين لآخر يكونُ بالاستقاءة، كما نصح أبو قراط بالاستقاءة مرتين متتاليتين كل شهر، وقال في كتابه عن طبيعة الإنسان أن على الطبيب أن يستوضح العلل جيدًا فإن رأى أنها بسبب الامتلاء فإن علاجها يكون بالتفريغ كما اشتهرَ عن الرومانين أنهم كانوا يفرطون في التهام الطعام ويتخلصون من آلام البطن التي تنتج بعد ذلك بالاستقاءة بل إن بعضهم كانوا ينتقلونَ من وليمةٍ إلى وليمةٍ أخرى بعد إفراغ ما في بطونهم لكي يتمكنوا من أكل أكبر كميةٍ ممكنةٍ من الطعام.
وفي الطب الإسلامي أيضًا نجدُ النصح بالاستقاءة ومما قاله ابن سيناء والرازي في القيء (بتصرف): أفضل القيء على الريق ويجب أن يستعمل في الشهر مرة أو مرتين، ويساعد على القيء وضع الإصبع في مؤخرة الفم، أو استخدام ريشة مبلولة بزيت، فإن لم يتقيأ سقي ماء حارًا وزيتًا أو يسقي العسل والماء الفاتر، ومما يعين على ذلك تسخين المعدة والأطراف فإن ذلك يحدث الغثيان وإذا أشتد فعل الدواء المقيئ وأخذ في العمل بسرعة فيجب أن يسكن المتقيء (المريض) ويستنشق الروائح الطيبة ويغمز أطرافه ويسقى شيئًا من الخل ويتناول بعده التفاح، واعلم أن الحركة تجعل القيء أكثر والسكون يجعله أقل، ويمكن أن تعرف القيء النافع من غير النافع بما يتبعه من الشهوة الجيدة والنبض والتنفس الجيدين وكذلك حال سائر القوى ويكون ابتداؤه غثيانًا؛
وإن كان الدواء قويًا فإنه يؤذي ويكون ومعه لذع شديد في المعدة وحرقة ثم يبتدئ بسيلان لعاب ثم يتبعه قيء بلغم كثير دفعات، ثم يتبعه قيئ شيء سيال صاف ويكون اللذع والوجع ثابتًا من غير أن يتعدى إلى أعراض أخرى غير الغثيان وكربه وربما استطلق البطن ثم يأخذ في الساعة الرابعة يسكن ويميل إلى الراحة، فإذا فرغ المتقيء من قيئه غسل فمه ووجهه بعد القيء بخل ممزوج بماء ليذهب الثقل الذي ربما يعرض للرأس ويلزم الراحة، وأما التمدد والوجع اللذان يعرضان تحت الشراسيف (أسفل صدره) فينفع منهما التكميد بالماء الحار والأدهان إن كان القيء شديدًا، وينبغي ألا يأكل بعد القيء ولا يشرب لمدة ساعتين أو نحوها ويتدرج بعدها بالأكل يبتدئ بالسوائل الفاترة، ويمتنع عن أكل كل غليظ عسر الهضم ولْيَخْتَرْ من الطعام ما هو جيّد الجوهر سريع الهضم.
ومن منافع القيء:
أولى ما يستعمل فيه القيء الأمراض المزمنة العسيرة؛ كالاستسقاء والصرع والمالنخوليا (الجنون) والجذام والنقرس وعرق النسا، وكان أبقراط وهو أشهر الأطباء في زمانه يأمر باستعمال القيء في الشهر يومين متواليين ليتدارك الثاني ما قصر وتعسر في الأول ويخرج ما يتحلب إلى المعدة، وأبقراط يضمن معه حفظ الصحة، والقيء يستفرغ البلغم والمرة وينقي المعدة والأمعاء من المرار والأنزيمات التي تنصبّ إليها وتفسد طعامه فإذا تقدمه القيء ورد طعامه على نقاء ويذهب نفور المعدة عن الدسومة وسقوط شهوتها الصحيحة واشتهاءها الحريف والحامض، ومن فوائده أنه يذهب الثقل العارض في الرأس ويجلو البصر ويدفع التخمة وينفع من ترهل البدن ومن القروح الكائنة في الكلي والمثانة وهو علاج قوي للجذام ولرداءة اللون والصرع واليرقان والرعشة والفالج وهو من العلاجات الجيّدة لأصحاب القوباء.
وعن محاذير القيء يقول ابن سينا:
ينبغي عصب العينين أو وضع اليد عليهما حال التقيؤ، ويجب أن لا تتقيأ المرأة الحامل والطفل ولا الشيخ الكبير، كما نبهَ ابنُ سينا إلى أن عادةَ بعض الناس المتمثلة في إن يفرطوا في الأكل ثم يتقيئون هي عادةٌ سيئةٌ تؤدي إلى مرضٍ مزمن فقد قال ابن سينا: ومن الناس من يحب أن يمتلئ طعامًا لنهمه ثم لا يحتمله ويتقيأ، وذلك يعجّل هرمه، ويوقعه في أمراض رديئة، ويجعل القيء له عادة، وهذه تعتبرُ -حسبَ بحثي- أولُ إشارة في التاريخ البشري إلى النهام العصبي وإن لم يسمه ابن سينا.
القيءُ والاستقاءةُ في الفقه الإسلامي
غالبًا يأتي الكلام عن الاستقاءة في كتب الفقه في باب الصّوم، عند الكلام عمّا يفسد الصّيام ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ، وهم يفرقون بين القيء والاستقاءة، على أساس أن القيءَ فعلٌ لا إرادي (فإن ذرعه القيء أي: غلبه وسبقه أي خرج بلا اختيار منه) فهو يختلف عن الاستقاءة الّتي بها طلبٌ واستدعاء، وهم يستدلون على ذلك بقول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: «من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض» [أخرجه الترمذي والنسائي في سننهما]، وفي روايةٍ أخرى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقضِ» [رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من استقاء فقاء فليقضِ».. فقد دلَّ هذا الحديث على أن الصوم يفسد بالقيء، وهناك فرق بين من استقاء وبين من ذرعه القيء، فالإنسان له حالتان:
الحالة الأولى: أن يستدعي القيء، وذلك بإدخال إصبع أو نحو ذلك من الأفعال التي تحركه، فيقيء ما في بطنه، فإذا استقاء بمعنى أنه تعاطى الأسباب التي يستدعي بها القيء فإنه حينئذٍ يعتبر مفطرًا وعليه قضاء ذلك اليوم.
الحالة الثانية: بالنسبة لمن ذرعه القيء وغلبه سواء سمع ما يكره أو رأى ما يوجب اشمئزازه ونفرته فذرعه القيء فقاء فكل هؤلاء يعتبرون في حكم المعذورين، ولذلك لا يجب عليهم القضاء، وحكي الإجماع على هذه المسألة -أعني مسألة القيء- فقالوا بالتفريق بين من ذرعه القيء وغلبه وبين من تعاطى أسباب القيء، فإذا تعاطى وجب عليه القضاء وإذا غلبه القيء فلا قضاء عليه.
وترد الاستقاءةُ والقيءُ أيضًا في نواقض الوضوء في كتب الفقه الإسلامي، وإن كان اعتبار أيٍّ منهما ناقضًا للوضوء أمرٌ مختلفٌ عليه بين الفقهاء، والحقيقةُ أن الباحث في تاريخ سلوك الاستقاءة وتطور دوافعها يجدُ أن الفراعنة استخدموه كنوعٍ من أنواع العلاج للعديد من الأمراض، وعلى نهجهم سلك أبو قراط، وأما الرومان فقد استعملوه غالبًا لكي يسمح لهم بالمزيد من الاستمتاع بالأكل، وأما المسلمون فقد استخدموه كطريقة علاج لبعض الأمراض كما تقدم، وكذلك للخلاص من السحر المأكول أو المشروب، ولم ترد في التاريخ القديم كله حسبَ بحثي إشارةٌ إلى إمكانية استخدامه من قبَلِ البعض لدفع التخمة وترهل البدن قبل إشارة ابن سينا لذلك وإن كان قد أتبعَ تلك الإشارة بالتحذير من اتخاذ هذا السلوك عادةً لكي لا يتحول إلى مرضٍ مزمن، وبالرغم من ذلك فإن اللجوء للاستقاءةِ واتخاذها عادةً من أجل منع زيادة الوزن هو بدعةٌ من بدع القرن العشرين.
واستقصاءً لرأي الشرع الإسلامي الحنيف في مسألة من تستقيئُ بصورةٍ مزمنةٍ لتجنبِ البدانة فقد سألت في ذلك الأستاذ الدكتور على جمعة أستاذ أصول الفقه الإسلامي بجامعة الأزهر فكان رده عليَّ أن حكمَ الاستقاءة في الأصل هو الجواز، حتى أن ابن القيم ذكرها في طبه النبوي، فقلت لفضيلته أعرفُ أيضًا أن ابن سينا في قانونه نصح بالاستقاءة من حين لحين كما حذر من الإكثار منها لأنها قد تصبحُ عادةً خبيثةً، ولكنني أتكلمُ عن استقاءةٍ مزمنةٍ لغرضٍ آخر تسببُ أضرارًا جسديةً ونفسيةً لا شك فيها وتفتحُ بابَ الإسراف والشره في الأكل، وعدم احترام المأكول مع إهداره كليةً فيما عدا المتعةَ التي استمدت منه، وقد سمعت من مريضتين مسلمتين من بين مرضاي أنهن يشعرنَ بأن ما يفعلنه لا بد أن يكون حرامًا على الأقل لأن هناك من لا يجدن الطعام من المسلمين، فأجابني فضيلته وبعيدًا عن كل ذلك ما دام قد ثبتَ وقوعُ الضرر الطبي الجسدي أو النفسي فإن هذا النوعَ من الاستفاءة حرام.
الآثارُ الجسدية للاستقاءة المزمنة
رغم أن المريضة التي تستقيئُ عادةً ما تظنُّ أنها تفرغُ ما أكلته من معدتها قبل وصوله إلى الأمعاء، لكن الحقيقةَ أن ما يتمُّ استفراغه ليسَ فقط ما أكلته المريضة وإنما أيضًا ما أفرزته المعدةُ من العصارة المعدية، والتي تحتوي على كثير من المواد التي يحتاجها الجسد والتي ينتجُ عن فقدها المتكرر اختلالٌ كبيرٌ في توازنات الجسد وعمليات الاستقلاب، فاختلال الكهارل والعديد من المعادن الهامة بما يستتبعه من اختلال في وظائف الجسد كلها أمورٌ واردة، فقد يحدثُ اختلال في نسبة البوتاسيوم (نقص البوتاسمية Hypokalemia)، ونسبة الكلوريد (نقص كلور الدم Hypochloremia)، وكذلك الجفاف Dehydration، وربما اختلال نسبة الفوسفات في الجسد Hyperphosphatemia.
كما يمكنُ أن تنتجَ حالةٌ من القلويةِ الزائدةِ في الجسد تسمى القلاء الاستقلابي Metabolic Alkalosis، ويحدثُ في أكثر من ربع مريضات النهام (خاصةً اللاتي يعتمدن على الاستقاءة كسلوك معدلٍ) ارتفاع في نسبة الخمير النشوي (النشواز أوإنزيم الأميلاز) في الدم Serum Amylase، وسببُ ارتفاع هذا الإنزيم غير معروفٍ بصورة مؤكدةٍ وإن كانَ من المحتمل أن يكونَ ناتجا عن تأثير الحمض المعدي على الغدد اللعابية خاصةً الغدة النكفية، أو بسبب اختلال بروتينات الجسد أو التهام كميات كبيرةٍ من السكريات والنشويات أثناء نوبات الدقر وقد اعتبر البعض قياس نسبة هذا الإنزيم في الدم وسيلةً من وسائل تشخيص أو على الأقل متابعة مريضات النهام بعد العلاج على أساس أن المريضة يمكنُ أن تخفي انتكاس حالتها بعد العلاج فيتم اكتشاف الانتكاسة بقياس الإنزيم في دمها.
وفضلاً عن الشعور بالدوار وهبوط ضغط الدم بسبب اختلال الوظائف الحيوية للجسم فإن الاستقاءَة المتكررةَ لمحتويات المعدة الحمضية يمكنُ أن تؤديَ إلى مضاعفاتٍ في القناة الهضمية مثل التهابات الحلق والبلعوم وربما تهتكات في الجزء السفلي من البلعوم Mallory-Weiss Tears، وتضخم الغدة النكفية Parotidomegally، وتسوس الأسنان وفقد ميناء الأسنان Enamel Loss كما يظهر في الصورتين المقابلتين:
نوعٌ يعملُ بصورةٍ مباشرةٍ من خلال تهييج جدار المعدة: مثل شراب الإبيكاك Ipecac (وإن كان للإيبكاك أيضًا تأثيرٌ على الجهاز العصبي) وهو مستخلصٌ من أحد الأعشاب يزيد إفراز المخاط من الأنسجة المخاطية من خلال تهييجها ويستخدم منذ القرن 17 الميلادي في البرازيل، وما زال يستخدم لإحداث القيء ولعلاج السعال ولعلاج الأميبا ولطرد الطفيليات المعوية، وهناك كذلك سلفات الزنك أو النحاس أو كربونات النشادر أو حتى كميةٌ كبيرةٌ من الماء الدافئ والملح.
نوعٌ يعملُ بصورة غير مباشرة من خلال تأثيره على الجهاز العصبي المركزي حيثُ يحفز مركزَ القيء الدماغي، ومثله التقليدي هو الأبومورفين Apomorphine، ويعطى عن طريق الحقن في الدم.
والاستخدامُ الطبيُّ للمقيئات عادةً ما يكونُ لطرد مادةٍ سامةٍ تم ابتلاعها إما خطأ أو بغرض محاولة الانتحار، وإن لم تكن طريقةً صالحةً لكل أنواع السموم المبتلعة، إلا أن أكثر المشاكل تكمنُ في الحالة التي لا يحدثُ فيها القيء المطلوب لأن تأثير الجرعة التي ينتظرُ أن تسببَ القيء غالبًا ما يكونُ مزعجًا إن لم يكن خطيرًا في حالة عدم حدوث القيء، ومن آثارها الجانبية الإسهال الشديد، الغثيان والقيء المتواصل لمدة طويلة، آلام شديدةٌ بالمعدة، اضطرابُ ضربات القلب والشعور بالضعف والإرهاق، وتصلب العضلات خاصةً عضلات الرقبة والذراعين والرجلين، وهذه الآثار الجانبية يمكنُ أن تحدثَ من مجرد جرعةٍ واحدةٍ فما بالنا بالاستخدام المزمن للمقيئات وما قد ينتجُ عنه.
واقرأ أيضاً:
نهام عصبي واكتئاب: تواكب شائع / اضطراب نوبات الدقر (الأكل الشره) / اضطراب نوبات الدقر م / إذن هو النهام العصبي؟! م / تأرجح الوزن ونوبات الدقر (الأكل الشره)