رغم كل الاختبارات التي تمكنت (إسرائيل) من اجتيازها على مدار الستين عاماً الماضية، إلا أنها فشلت في اختبار واحد حاسم، هو الاندماج مع الدول العربية المحيطة بها، والتعايش السلمي معها. ورغم مزاعمها بشأن رغبتها في تحقيق أمنها كغاية تأتي فوق أي اعتبار آخر، إلا أنها رفضت اتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق هذا الأمن. فكيف يُمكن تفسير هذا اللغز؟
ورغم أن (إسرائيل) نجحت في توقيع اتفاقيات سلام مع دولتين عربيتين، هما مصر والأردن، وإقامة علاقات غير واضحة المعالم مع دولة أخرى أو دولتين، إلا أنها لم تنجح في إقامة "السلام" مع الشعوب العربية. على العكس من ذلك، فمازالت (إسرائيل) تُمثل في نظر الجزء الأكبر من الرأي العام العربي، هدفاً للكراهية، ودولة منبوذة، تتعرض "شرعيتها" للتشكيك في الوقت الراهن أكثر من أي وقت سبق.
وثمة ثلاثة أسباب رئيسية لهذه الحالة التعيسة التي تجد (إسرائيل) نفسها فيها حالياً: معاملتها الوحشية للفلسطينيين، وإصرارها على تحقيق التفوق العسكري على دول الشرق الأوسط بأسرها، وتحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة الأميركية التي تتبع سياسات عدائية للعرب والمسلمين.
وكما هو معروف، فقد ترافقت ولادة (إسـرائيل) عام 1947-1948 مع عمليات طرد قسـريـة لنحو ثلاثـة أرباع مليون فلسـطيني من ديارهم وأراضيهم التاريخيـة. المذابح والجرائم الأخرى التي ارتُكبت في ذلك الوقت، والاسـتيلاء الواسـع النطاق على أراضي الفلسـطينيين، وتدمير مجتمع بأكملـه... كان يُمكن أن تُنسى كلها، وأن يتم التوصل إلى تسوية، لو اعترفت (إسرائيل) بمسؤوليتها عن خلق مشكلة اللاجئين، وسعت لتعويضهم، وسمحت لبعضهم بالعودة إلى ديارهم!
بيد أن الذي حدث بدلاً من ذلك، بدءاً من عام 1967 على وجه الخصوص، حيث احتلت (إسرائيل) الأجزاء المتبقية من فلسطين، هو أن (إسـرائيل) سـعت إلى محو فلسـطين العربيـة من الخريطـة تماماً، وسـعت ـوما تزال تسـعىـ إلى توطين مئات الآلاف من اليهود في الضفـة الغربيـة المحتلـة، والقدس الشـرقيـة التي كانت على الدوام مدينـة عربيـة، وهو ما أدى عملياً إلى اسـتبعاد أي إمكانيـة فعليـة لإنشـاء دولـة فلسـطينيـة قابلـة للحياة.
وكانت شهوة (إسرائيل) التي لا تشبع لضم الأراضي، مصحوبة بدرجة صادمة من اللامبالاة بحياة العرب. فـ (إسـرائيل) التي لم تكتفِ باحتلال وضم 78% من أرض فلسطين التاريخية، تُحاول الآن ضم مزيد من الأرض، لأنها كانت تؤمن بأن مشروعها الخاص ببناء الدولة اليهودية سوف يتعرض لخطر التقويض، وفقدان الشرعية، إذا ما قدمت أي "تنازل" في مجال حقوق الفلسطينيين، أو امتثلت لمطالب الحركة الوطنية الفلسطينية.
وكانت نتيجـة هذا العناد المسـتحكم، والقمع القاسـي ـفي انتهاك صارخ للقانون الدوليـ هي دفع الفلسـطينيين إلى "التطرف"، وتوصيلهم إلى حافـة "اليأس"، بحيث تُصبح الخيارات المتاحـة أمامهم هي القيام بانتفاضـة ثانيـة، أو شـن هجمات "انتحاريـة"، أو إطلاق صواريخ "القسَّـام"، أو اندلاع حركات المقاومـة الإسـلاميـة مثل حركتي "حماس" و"الجهاد"، واللتين كانت كل منهما نتيجـة حتمية للغزو والاحتلال الإسـرائيلي.
وهكذا وجدت إسرائيل نفسها أبعد ما تكون عن السلام والأمن، بل وأصبحت مُحاطة على حدودها بحركات مقاومة راسخة الجذور مُصممة على إجبارها على القبول بدرجة من الردع المتبادل، لم تنجح الدول العربية في تحقيقه من قبل.
منذ إنشائها سعت (إسرائيل) إلى الهيمنة على المنطقة بقوة السلاح، وكان هذا هو الأساس الذي بنى عليه (ديفيد بن غوريون) ـأول رئيس وزراء إسرائيليـ كيان الدولة العبرية. فتحت قيادته نجح "المجتمع" اليهودي في فلسطين، والذي لم يكن عدده يتجاوز 630 ألف نسمة معظمهم من يهود أوروبا، في تحويل نفسه إلى قوة عسكرية هي الأكبر في الشرق الأوسط، وقد كانت لدى كيان الدولة الجديدة القدرة على تحطيم الفلسطينيين، وهزيمة العالم العربي ـالضعيف والمقسم والسيئ التنظيمـ.
وثمة فكرة تجذرت بين قادة (إسـرائيل) وخلاصتها أنـه لكي تكون (إسـرائيل) قويـة يجب أن يكون العرب ضعفاء، وبناء على ذلك سعت (إسرائيل) إلى تقويض واحتواء وزعزعة استقرار جيرانها متى وأينما استطاعت. فقد سعت إلى عقد التحالفات مع الدول المحيطة بالعالم العربي، مثل تركيا وإيران الشاه وإثيوبيا... ضد العرب، كما ساندت الأكراد ضد بغداد، ومتمردي جنوب السودان ضد الخرطوم، وأخرجت مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وسعت من خلال الحروب المختلفة لاستقطاب لبنان إلى مدارها واستخدامه كورقة ضد سوريا، وسلَّحت إيران إبان حربها مع العراق التي استمرت خلال السنوات 1980- 1988.
ولم تقتصر انتصارات (إسـرائيل) على إقامـة علاقـة خاصـة ووثيقـة مع الولايات المتحدة ـوهي علاقـة يلعب فيها يهود أمريكا دوراً حيوياًـ وإنما امتدت أيضاً للتأثير على سـياسـة واشـنطن في الشـرق الأوسـط إلى الدرجـة التي أصبح فيها "الذيل الإسـرائيلي هو الذي يهز الكلب الأميركي" وليـس العكس! ومن المؤكد أن الغزو الأمريكي للعراق، تم بضغط من "المحافظين الجدد" الموالين (لإسرائيل)، والمتلهفين لإزالة أي تهديد محتمل ضدها. وهؤلاء "المحافظون الجُدد" هم من يقومون حالياً، بتحريض واشنطن على الحرب ضد طهران، بذريعة البرنامج النووي الإيراني.
يتطلب الأمر معجزة وتغيراً جذرياً للسياسة من جانب (إسرائيل) إذا ما أرادت أن تعيش في سلام مع المنطقة؛ إن تحقيق ذلك يتطلب منها الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في فلسطين وسوريا ولبنان، والقبول بتوازن القوة مع جيرانها بدلاً من السعي دوماً لتحقيق الهيمنة والسيطرة عليهم، والتوقف عن تحريض الولايات المتحدة والعالم الغربي بأسره ضد العرب والإسلام.
بحالتها الحاليـة، تبدو (إسـرائيل) وكأنها بحاجـة إلى سـتـة عقود أخرى لكي تُدرك أن أمن الشـرق الأوسـط غير قابل للتجزئـة، وأن أمنها لا يُمكن تحقيقـه على حسـاب أمن جيرانها.
المصدر: صحيفة السفير
بقلم: باتريك سيل
اقرأ أيضاً:
ماذا تخبئ لنا إسرائيل؟ / إسـرائيل لا تريد السـلام!!! / الصهيونية... مرتع الفساد / الأكثريـة اليهوديـة خطر على العرب