ما إن تولّدت الأنوار في كبد السماء، وشرعت بالتّوغّل إلى أرجاء غرفتي الضيقة في الصباح الباكر، كي تدغدغ الأنام بفوتوناتها السحرية، حتى تنبّهتُ شاكياً من ساعاتٍ ضاعت على سرير الليل.
استيقظتُ ومعي شوقي إلى الباري عزّ وجلّ يحرّك كياني نحو المغسلة، كي أنفض عن كاهلي النعاس، وأدلّك عضلات وجهي وعينيّ لأنبّههم للاستعداد للمثول أمام الله سبحانه.
فتحتُ الطريق للماء، فسال من شريان الحائط متشوّقاً للقائي. زغرد الماء منهمراً بمرحباتٍ وتحيات، سلّمتُ عليه باليد وأخذت أرميه على صفحات الوجه والخدّين. قبّلته بالشفتين، وفارقته وأنا أنثره إلى الجاذبية فتأخذه إلى أديم الأرض عبر شرايين أخرى كبيرة، تبدأ من المغسلة وتنتهي إلى ما شاء الله.
نظرتُ إلى موضع انحدار الماء من ساعدي، وإذا بي أرى إحدى مخلوقات الله وقد استيقظت قبلي، ولربما لم تنم بعد، بل عملت طوال الليل على نقل بعض الفتات المنثور بالصدفة في المكان غير المحدد له.
يا لها من عاملة لا تسأم، تحاول جاهدة الصعود من المغسلة، ومعها حملها الذي أثقل ظهرها، ولربما يكون النعاس أيضاً قد أرهق إرادتها الصلبة التي لا تنكسر أمام الصعاب.
توقفتُ للحظة محاولاً أن لا أزعجها بطوفان الماء المنسكب على يدي، فوجهي، فساعدي... تمنيتُ لو أن عندي مغسلة أخرى ألجأ إليها للوضوء، فأترك لهذه المخلوقة المطيعة الوقت لكي تقوم بمهمتها بدون إزعاج ولا ضرر.
لكن أنّى لي هذا، وكان الشوق للقاء الباري سبحانه والوقوف بين يديه يشدّني للإسراع والانتهاء من الاستعدادات الروتينية، والهرولة إلى بساط الصلاة ومكان الموعد.
لربما تأخّرت نملتي المسكينة في المغسلة هي أيضاً، وقد كانت حاجتها الأولى أن تتوضّأ، فوجدت رزقاً مكتوبٌ على جبينها أن تحمله إلى صغار الجُبّ، فحملته وانطلقت.
لعل أولادها الصغار يتضورون جوعاً فأخّرت صلاتها حتى تفرغ من عبادة الباري بخدمة الآخرين قربة لوجهه الكريم.
لعلها... هي أيضاً كانت جائعة، فأرادت أن تأكل قليلاً مما تتقوّى به لتستطيع الوصول إلى المنزل بعد أن شربت وتوضّأت...
لعلها... ولكني لا أفهم لغة النمل لأسألها عن غرضها، وقد تكون قد قالت لي: "يا أيها العبد ارفع ماءك عني فقد يغرقني وأنت لا تشعر".
لم أسمع استغاثتها عندما أصابها وابل من الماء المصبوب... تمنيت أن لا أصيبها بفضلات قطراتي...
شاهدتُ النقطة الأخيرة الجارفة، وقد حملت على أمواجها نملتي الصغيرة وحِمْلها أيضاً. فوقع قلبي يستدركها من الموت المحتّم بالتمني. لم أفعل أي شيء لإنقاذها، تمنيت فقط، وأنا أطلب من الباري سبحانه أن يبيّض وجهي يوم تبيضّ فيه الوجوه، وأن لا يسوّد لي وجهي يوم تسودّ فيه الوجوه. طلبتُ منه أيضاً أن يعطيني كتابي في يميني، يثبّتني على ديني، ويهديني إلى الصراط المستقيم.
طلبت...
وأسرعتُ أسابق الصبح قبل أن يتنفس فيقطع عليّ موعدي ولقائي الصباحي المجيد.
استقبلتُ القبلة، واستغفرت الله لتلك النملة الشهيدة، فقد تكون وصلت قبلي إلى الجنة. لم تدرك المسكينة أنه لم يكن عليها أن تقطع طريق وضوئي بتواجدها ولو كان مناسباً ولكن في المكان غير المناسب. ولم تدرك أيضاً أني لا أسمع صراخ النمل ولا أفهم حقوقهم.
رحمها الله
وكم أرجو أن يترحّم عليّ مَن سوف يمطرني بوابل الماء من فوق المغسلة ذات صباح، وأنا متمنياً الانتقال شهيداً وشاهداً إلى نعيم الله.
عرنابا في 02-06-2009
ويتبع >>>>: نملة في المغسلة مشاركة
اقرأ أيضاً:
لقد أكل الحملان الذئب!!! / ماء... مّــاء... مّـــاء... كهربــاء