شاع في تلك الأيام نشوز المرأة، وأصبحنا نسمع كثيراً عن الخلافات الزوجية التي تدفع المرأة للخروج عن طاعة زوجها وعدم الانصياع لأوامره. وزاد الأمرَ تعقيداً دخولُ أطراف في تلك النزاعات من الإعلام وخلافه تدافع عن ذلك النشوز بشكل يعطيه الشرعية ويجعله واقعاً ومبرراً، مما يدفع المزيد من النساء إلى النشوز تحت مسمّى المجتمع الذكوري وغيره من المسميات التي تسعى لزيادة الفجوة بين الرجل والمرأة ووقوفهما وجهاً لوجه بدلاً من جنب إلى جنب. ولذلك قرّرت أن أهدي تلك السطور للرجال على لسان تلك النساء التي نشزت ولماذا وصلت إلى ذلك، ربما يصغي لحديثنا الرجال ويهبّوا لإنقاذ سرب الفراشات المتهافت على ضوء النار بحثاً عن السعادة والحرية فيصطدم بوهج النيران المتأججة تحرق أحلامه.
محكمة الضمير:
وقفت الزوجة المتهمة من قبل زوجها بالنشوز والذي لجأ للقضاء لإسقاط حقوقها الشرعية مستغلاً كل وسائل الإقناع التي تفيد أنذ زوجته لا تطيعه ولا تلبّي احتياجاته وتخرج دون إذنه وغيره من الادعاءات المعروفة والتي تقدّم للمحكمة. طلب القاضي أن تدافع الزوجة وتبدي أسباب ذلك النشوز، فتكلمت الزوجة بوجه صارم وبكلمات رزينة واثقة محاولة باستماتة كتم تلك الدمعات التي تعوّدت أن تنهمر في المواقف الصعبة وقالت: سيدي القاضي،
أنا فتاة من أسرة متوسطة، تربيت على احترام الرجل وأعرف قدره، وتعلّمت كيف أحب بيتي وأحافظ عليه من أمي التي كانت توصيني بذلك دائماً. لم أكن أعرف شيئاً اسمه مجتمع ذكوري ولا غيره، أعرف فقط بيتي وأولادي. كنت أحلم بالسعادة ترفرف على ذلك البيت الذي دخلته، وبذلت قصارى جهدي لتحقيق حلمي ولكني أفقت من ذلك الحلم على صوت زوجي الصارخ الذي يملأ البيت بالأوامر والطلبات من أول دقيقة يدخله، صدمت بتلك الإهانات التي تخرج من فمه كالسيل عندما أخطئ في شيء، رأيته جافّاً في تعامله لا يقدّر ضعفاً ولا يغفر زلةً، دائم العتاب والتوبيخ والانتقاد، كلمة (لا) هي السائدة بينما كلمة نعم لا يعرفها قاموسه.
كل شيء جميل كنت أحبّه يرفض أن أقوم به بحجة البيت والأولاد وأنا كنت لا أدّخر جهداً في إدارة بيتي قدر إمكانياتي وقدراتي، كتمت مشاعري وتنازلت عن حلمي، وكنت أتقدّم لمصالحته كل مرة يسيء هو لي فيها، فكان يرى في اعتذاري وتأسّفي أمراً مشروعاً وواجباً حتميّاً. كنت أخفي مشاكلي وآلامي بين جنبي، وكان هو مطمئن لذلك ويعلم أنني حتى لو اشتكيت فلن أعود بشيء، فنحن أسرة مسالمة لا نجيد المشاكل والدفاع عن حقّنا.
مضت بنا الأيام كسنوات السجن لا يهوّن عليّ شيء سوى بسمات أطفالي وصراخهم، ولكني وجدت نفسي أنسحب من دنياي ببطء، أدور في فلكه هو فقط، كما يريد- ويالا سوء ذلك الفلك- ضاع الحب الذي كان نبتاً صغيراً، دهسه بقدمه الثقيلة وتسلّطه الظالم، وبدأت تتسلل بذور الكراهية إلى قلبي وسرعان ما وجدت الأرض الخصبة المجهزة لاستقبالها، وكان بارعاً في رعايتها وإمدادها بكل الوسائل التي جعلتها شجرة وارفة مثمرة بثمرات الغلّ والغضب، وانفجر البركان الذي كنت أحاول جاهدة إخماده مغرقاً تلك الشجرة في النيران التي تهوى شربها.
ارتفع صوتي الذي تعود على الانزواء بعد كل مناقشة أو مشكلة، وامتدت يدي تصدّ يده التي تعرف جيداً طريقها إلى جسدي، وخرجت الألفاظ النابية التي أفرزتها الشجرة منطلقة في ذلك الوجه الذي سئمت النظر إليه، وتمرّد الخادم المطيع على سيده، وفتحت له الباب ليعلن تلك الثورة بكل وسائل التعبير المعروفة وغير المعروفة، أهملت طعامه وشرابه ونظافة بيته، لم يعد يزعجني صراخه مطالباً بحقوقه، فتحت الباب وخرجت دون إذنه، ذهبت لزيارة أصدقائي وأحبابي الذين منعني منهم لسنين، وعندما عدت وجدته قد أغلق الباب بالقفل حتى لا أدخل وأذاع خبر عصياني المدني على جميع أفراد العائلة.
لم أبالي وتركت له الجمل بما حمل مستمتعة بنفسي التي نجوت بها، تدخّل الأهل للإصلاح ولكن ما الفائدة، هو بارع في الدفاع عن نفسه، وزاد موقفه صلابة تمردّي ونشوزي الذي يطالبني الجميع بإصلاحه، ولكن لا أحد أبداً يعلم السر وراء نشوزي سوى الله. كان من الممكن أن أعود وأستمر في حياتي السابقة، ولكن كان ذلك سيحدث أن شعرت بأمل في إصلاحه وتنازله عن تسلّطه ولكن هيهات، لقد ذهب إلى المحكمة ليطلّقني وليتهمني بالنشوز حتى يؤدّبني كما تعوّد وهو على يقين أنني لن أجد مأوى وسأعود ورجلي فوق رقبتي ولكن هيهات، فالعيش خادمة في مسجد أو دار للأيتام خيرٌ بكثير من العودة لجحيم بيته.. لقد أوجزت لكم قصتي في بضع سطور أخفيت فيها الكثير من الألم تاركة لكم الحكم، راجية من كل رجل أن ينقذ زوجته من جحيم النشوز.
اعترافات زوجة ناشز
أمّا تلك الزوجة فقد سجّلت اعترافها بعدما ترك لها زوجها البيت واختفى ولا يعرف أحد مكانه. كتبت تناشده العودة مصرّحة لأول مرة بسبب نشوزها. فقالت:
كنت فتاة مدللة؛ تعوّدت أن آخذ ولا أعطي، ألوم ولا ألام، أطلب ولا ألبّي لأحد طلباً، وكانت أمي تشجّعني وتزيد من تمردي وتراه قمة الدلال والأدب للرجل، وكانت تفعل ذلك مع أبي الذي تعوّدت أن أراه صامتاً لا يتكلّم تاركاً إدارة كل شيء لأمي.
اقتنعت أن هكذا تكون البيوت! رزقني الله بزوج صالح؛ شاب مهذب من أسرة راقية ومحترمة، وانهمرت لأول مرة دمعة من الدموع المتحجرة في مقلتيها اللتين زحفت عليهما نظرة الانكسار الجديدة التي لم تعرف مطلقاً طريقها إليهما. وتابعت قائلة: كان رائعاً في كل شيء، لا يدّخر جهداً في سعادتي وإغداق كل الخير على بيته وعلى أهلي، ولكني كنت دائماً أبحث عن المشاكل وأشعل البيت حريقاً لأتفه الأسباب مستغلّة ضعفه الذي اكتشفته وعدم قدرته على أن يرفع صوته أو يتلفّظ بلفظ قبيح، تفننت في جلب المشاكل وطالبته بما لا يتحمل من نفقة وغيره، تذمّرت لزيارته لأسرته واهتمامه بهم، وكنت أرى أنّه ليس من حقه أن يهتم بأحد سواي...
أشعلت نيران الكراهية لأهله بيدي، وبتعنتي وردودي المتستفزة كسرت كل جسور التواصل معهم وكنت سعيدة بذلك وكنت على يقين أنه لن يتركني أبداً ولن يستطيع العيش دوني، تماديت في إهاناتي وتطاولت عليه بالكلمات فوجدته لا يتغيّر في معاملته لي، بل بالعكس يلتمس العذر لي ويصالحني ويقدم لي الهدايا لتطيّب خاطري، لم يكن يمنعني من أي شيء أحب فعله، ولو صادف مرة وقال (لا) أنظر إليه نظرة وأصرخ بأعلى صوتي فيسارع ملبيّاً طلبي.. تملّك الكبر من قلبي، واستأسدت عليه وأهملت كل واجباتي نحوه والتي كان يؤدّيها بنفسه، حتى خدمة أطفالي تركتهم له منشغلة بصديقاتي وتفاهاتي، وكان لا يتذمر، حتى ونحن فى وسط الناس كنت آمره أن يذهب بالطفل للحمام وأن يبدّل له ملابسه إن اتسخت وأوبخه إن تباطأ في شيء وكان لا يلومني... وفجأة رحل وتركني! ليته رفع صوته ليلجم صوتي الذي علا عليه، ويا ليت يده امتدت لتصفع ذلك المارد داخلي على وجهه ليفيق من تسلّطه ولكنه ذهب. أعترف أنني كنت ناشزاً ولكن ضغفه هو سبب نشوزي، تخاذله أمامي وتركه ساحة المعركة في كل مناقشة هو الذي جرّأني عليه... عدم صدّه لتمردي وجنوني هو الدافع لنشوزي، عدم سؤالي أين ذهبت؟ وماذا أفعل؟ جعلني أظنّ أنّه حقّاً مشروعاً لي..
أنا أطالب كل زوج أن يصدّ تمرد زوجته بحكمة ولا يترك موقعه كرجل، فالمرأة حقّاً تعشق الرجل القوي الذي يصدّ جنونها وتمرّدها كما تعشق الرجل الذي يحنو عليها ويحتويها، ولكن زوجي كان ضعيفاً... ليته يعود وسأصلح من نفسي ولكنه رحل في صمت كما عاش في صمت...
هذا هو رأي النساء اللائي نشزن، فهل يصرّح لنا الرجال بأسبابهم التي أوصلت زوجاتهم لذلك النشوز؟
واقرأ أيضا:
قصّةُ دمعة / أمة الوسط لا تعرف الوسط / هاجر (أم الخير) المصرية / غزة صمود وأمل