- لماذا اخترتني لهذا الاختبار المميت؟
كان صوتي متحشرجا وخفيضا، وكان صوت فيروز أشجع وهي تغرد "كيفك قال عم بيقولوا صار عندك ولاد. أنا والله كنت مفكرتك براة البلاد".
صار عندك ولاد فعلا. استبدلت السيارة الرياضية بأخرى عائلية. آثار شوكولاتة. دُمي صغيرة وألعاب أخرى مبعثرة على المقاعد الخلفية. مد يده إلى زر الكاسيت وأخرس صوت فيروز المتلأليء فجأة، فانفجر بيننا صمت. التفت إلي مباغتا:
- أحبك.
- مجنون.
تقابلنا في السوبر ماركت منذ 5 دقائق. بعد سنوات طوال من الجفاء. الجفاء كلمة لا تصف مساريْنا المختلفين في الحياة التي اتفقنا ذات يوم على أن نتقاسمها. أنت قد تكون أنت لكن في ملابس فضفاضة تخفي زيادة في الوزن، وهوسا بمشاهدة كرة القدم لا لعبها، ورأسا حليقا يخفي صلعا أطاح -بقسوة -بالشعر الكستنائي المستلقي على الكتفين. مختلف قليلا، ربما عرفتك لأنك عرفتني!
- دائما.
حانقٌ على الأيام الماضية، وينتقم منها فيّ، وأنا مؤمنة بنفوذ الوقت، وسطوة الزمن التي يحب الرجال تحديها فيقترنون بالبهجة الشابة في عيون البنات الصغيرات، أو يكتفون بالرقص على حَلَبَات شهوات تروح وتجيء ولا تكتمل، أو يتصورون الماضي يُبعث حيا مزهوا بالفرح المختلس وقتما يريدون مثلما يفعل الآن! أبدا لا يغادرهم غرور ولا كلل. بدأت ابنتي في البكاء، فأخرجت ببرونة اللبن من حقيبتي وألقمتها إياها.
- قلت لي زمان، إنك سوف ترضعين أبنائك من ثدييك!!
- هل شكوت لك من قبل ماذا فعل الزمان بي؟! شق بطني نصفين وأخرج الأولاد، وعصر كالسيوم عظامي وشرب من دمي. لم يبق من جسدي شيء يُمنح.
أشحت بوجهي إلى نافذة السيارة. هل قال أبنائك؟! لقد قلت لن أرضع أبناءنا (أنا وهو) إلا من ثديي!
- قلت لي زمان إنك.....
- مازلت أحبك.
ظللتُ على عتبة الفهم دون أن أعي من كلامه شيئا. الحب؟! تلك الكلمة السحرية لا تشفع لنا وحدها، لا تغسلنا من إثمها الآن ولا إثم اعتناقها. تدخلنا جنة واحدة وجهنم شتى! نظرت إليه أحاول اختبار وعيه. أسوأ ما في الجنون بالنسبة لي، وربما أحلى ما فيه بالنسبة لمعشوقة غجرية هو غياب التوقّع. تطلعتُ إلى وجهه المتضرِّع، وأنا أكاد من خَطْفِ المباغتتة أضحك، فنظر في عيني وأطال. تجاهل ملامحي الضاحكة، وأطال النظر بصورة لم تعد مريحة بالنسبة لي. أخجلني. أجبرني على احترام نظرته وخنق ضحكتي. صمتنا كصمت في طقس عبادة. تطلّع إلى وجهي ذرة ذرة. أربكني. توارى الخجل في عيني خلف جفني الذين أسبلتهما. رفع ذقني بأنامله، ففتحتُ عيناي، فسكب عينيه بهما، وصب الماء على ما ظننته اندفن ومات وأنبت فيَّ الحريق، ورأيت لهبا يرقص في حدقتيه وينير وجهه، فجَفَلَتْ عيناي عن عينيه.
لمس فخذي الأيسر، فقالت فيروز: "بيطلع في بالي إرجع أنا وياك. إنت حلالي إرجع أنا وياك". صعدت أنامله برفق وأناة في المسافة من ركبتي وحتى أعلى فخذي. فنحَّى القبول الغضب. ألف صيف ورقصة.. ألف مباغتة أليفة، وألف حلم بلا سياج. قالت فيروز: "إنت الأساسي وبحبك بالأساس. رغم العيال والناس".
أناة الصياد المحترف أم أناة العاشق؟ أزحت كفه عن جسمي برفق، سقطنا في صمتنا وأحذيتنا على باب الجنة. طردنا شيطاننا وعلا صوت فيروز فوق لهاثنا: "رغم العيال والناس".
- هن كم امرأة؟
ندمت سريعا لأني فضحت جلدي العاري. وكأن لا أحد سيحبني إلا مرضى الإسهال العاطفي! أبغضه لأنه يود اختبار صلابتي بغروره.
- ولا امرأة.
أجاب باعتيادية طمست بعضا من ألمي. أوقف السيارة فجأة على بقعة من الكورنيش بدت مألوفة. تلفتّ حولي في خوف. وجدته يحمل عني طفلتي، يزيحني بذراعه، ويواري جسدي عن الأعين. كانت ذراعه قوية. آلمتني قليلا لكني غفرت لهما. نظر في عيني دون كلمة. أي رجل مجنون هذا الذي يهرق الحب بعد صدفة كهذه؟! عيناه حلوتان يا ربي. اطمأن قلبي قليلا فأدركتُ أننا كنا هنا ذات يوم.. جلسنا متقابلين كل على مقعده المنيع نتساءل عن الحكمة في خلق المسافات، وعذابات المسافات، ودموع عذابات المسافات. ثرثرنا فتعبنا، تعبنا فهرمنا ولم نؤت من الحكمة شيئا، وماتت الأسئلة في الصدور. عندما ماتت الأسئلة، لم يحيا اليقين، ولكن الصدور اتسعت، وابتسمنا بالتواطؤ وللتواطؤ. كنا هنا.. ذات يوم آخر.. محلقان فلم تترك أقدامنا الهاربة أثرا، لم تقل خطواتنا للرمل كلاما، ولم نأمن البحر حتى على سر.
بقلبين جديدين نرد ذات النهر. صمتنا قليلا. خطف قبلة من خدي! على الكورنيش! تركني على قارعة الطريق عريانة لتحديق العيون وبصاقها بلا شفقة. تتكلم بجسمك ككل الرجال. لو جئتني بلا شهوة، ربما كنت أفتح الباب!
ألمس أثره على خدي فيرتج قلبي كطبل شبق ممهدا لمشهد الذروة. تدمع عيناي، فأُطِّير دموعهما بسرعة قبل أن يراهما خشية أن يخبو فيه هوس الرائحة وشهوة الملمس؛ لكنها تخبو. أصرخ في وجهه فجأة:
- حتى النهر تغير. ألا ترى؟
- لا زمن في الحب ولا كرامة ولا ثورة.
انتزعت ابنتي منه، وركضت بها نحو الطريق. أتعثر في تنورتي وألعنها، تلك التي تحدد حركتي أو تمنعني من أن أصير مثله رجلا في عيون الناس. يلحق بي، فأجهش بالبكاء.
- تخافين؟!
أبكي وأنظر عبر دموعي إليه كيتيم بلا مأوى. يحيط كتفي بذراعيه. آلمتني ذراعاه وغفرت لهما، وربما سأغفر لألف مرة قادمة. مسح دمعي. همس:
- أنا آسف. آسف والله.
انتظرتها طويلا، ولم أدرك أبدا أني سأغفر له بموجب كلمتين تافهتين رماهما بتلقائية وبساطة. غفرت. رفعت ذراعيه عن كتفي، لكني ضغطت على أنامله بأناملي أو استمتعت بلمستي ليديه رغما عني، ومع ذلك أنا أخلع عنه اسم العاشق وجميع ألقابه لأنه ليس أهلا له وتمنيت أن أسلبه حتى خفقات قلبه. سحب يديه غاضبا، وابتعد بجسده عني خطوتين:
- لا تفرقين بين الشهوة وإعلان الحب!
أنا بكيت لأني حقا نسيت أشياء عني، وتسرب جزء مني كالرمل حين يخاتل الأصابع المنفرجة. كالرمل الذي لم ينتظم في هيئة أو شكل. سقطت على ركبتي وابنتي أحملها إلى ذراعي وأغرسها في صدري، فيعلو بكاءها أكثر. شعرت بألم رغم جميع محاولاته لدعمي. حملتها بيميني ومددت يدي الأخرى إلى يديه، فالتقطتها؛ لكني رميت كل ثقل جسمي وروحي عليهما. كاد أن يسقط إلى جانبي لكنه توازن من أجلنا أخيرا. مازلتُ إلى الأرض أقرب، وأرغب في ألا أغادرها. وقف برهة بلا فكرة يتأمل الناس حولنا في قلق. ربما يقولون عنا "زوجان يتشاجران من أجل مصروف البيت"، فيلقون نظرة عجلى على ألمي ويمضون. تمنيت أن يمضي كل الناس ويتركوني ذليلة ضعيفة في صحبته وعند قدميه. تجمدت في مكاني، فحمل ابنتي عني، وفتح باب السيارة ووضعها على المقعد الخلفي. خفت أن تسقط في تقلّبها، فتبعته ذابلة الخطوة نحوها. حملتها وغرستها في صدري كأنها دِرْعِي في مواجهته. رمقني في صمت أعلن إيقاف كل محاولاته وتحرير إرادتي أنا، وجلس خلف مقود السيارة وجلسنا بجانبه. انكمشت في المسافة من مقعدي إليه. كان يعرف وجهتي، ولست أدري كيف. تركت له القيادة كما كنت أفعل معه ومع كل رجل في حياتي.
ناول أكياس السوبر ماركت الكثيرة إلى حارس العمارة. استند إلى السيارة منتظرا اختفائي في المدخل المعتم. وددت أن أسبغ على وجوده وداعا يليق بما في قلبي من ألم، لكني لم أوت الجسارة وخشيتُ من فضول الحارس وعُري جلدي أمام كل الناس.
لن يغسلني الماء الدافيء أو يزيل كدري. أبكي وجهي في المرآة، وشعري القصير الذي يسقط على أرضية المطبخ ووسائدي وفي أطباق الأرز مُعْلِنًا تفتت جسمي شيئا فشيئا، وعيناي اللتان تشكوان قصر النظر والبصيرة، أنفي المتضخم بمخاط البكاء، ثدياي المراقان في فم رضيعة تتلمس الدنيا من خلالهما ولطالما كَرِهَتْ المرارة في حليبي، فتبتعد. أقترب وتبتعد. يقولون ابتهجي من أجل هذه الطفلة الذي قذفتِ به إلى الحياة بلا ذنب. "أنا لم أملك رفاهية الاختيار" أتمتم، وهذا دفاعي ولا أحد يصغي. أقترب، ويبتعد. أقتفي أثر أقدام الزمن على عنقي. أداعبه لكنه يظل كطير ذبيح بلا روح تحت لمستي، ولو كان الزمن رجلا لقتلته. أغمر جسمها الطري في الماء الدافيء فتبتسم لي ويفسد عقلي المندهش استجابتي لبسمتها الجميلة. أبحث في عقلي عن تاريخها معي وأحاول أن أحصي ابتساماتها لي منذ مولدها، فلا أستطيع.
أداري جلدي عن المرآة وأدسه تحت الغطاء. أسقط في نوم سهل مريح. تبكي ابنتي، فأستيقظ من النوم، وأحملها بين ذراعي وأغرسها في صدري. يتباطؤ تذمرها. تبحث شفتيها في صدري وعنقي. أنزع قميصي وألقمها حلمتي فتقبلها بلهفة. تمص مني وترد إلي بسمة أخرى. أبتسم وأقبل جبينها. تقبَلني كلي وتبتسم، وحين ينفتح فمها أرى قطرات لبنية بيضاء تسقط فتغسلنا معا. أندهش من البركان الذي انفجر داخل صدري بعد الفِطَام؛ لكني أسارع بالابتسام لها وأقبّل جبينها، وأستمع لانسياب اللبن الأبيض في كل مكان بجسدي. تورق يداي التي تمسحان على ظهرها اخضرارا، ويجول هو بخاطري مقبلا نحوي في ملابس فضفاضة تخفي زيادة في الوزن وهوسا بمشاهدة كرة القدم لا لعبها، ورأسا حليقا يخفي صلعا أطاح -بقسوة -بالشعر الكستنائي المستلقي على الكتفين. يبتسم، فأبتسم وأشعر أنني قادرة على منح العالم كله ابتسامات حلوة لا أراها لكني أشعر بمخاضها المتوهج داخلي، وأعرف بما يشبه اليقين بأني – رغم العيال والناس – أحبه، وأني سوف أستيقظ غدا لأعد قائمة السوبر ماركت حيث سأوزع على الناس الابتسامات وأشتري الرجل الذي أحببت.
واقرأ أيضًا:
حدوتة محسن فكري / الوصمة / لو خَرَجْتُ مِنّي / من يحرس الحرُاس ؟