على مدى ثلاثة عقود ونيف مضت على منحي درجة الدكتوراه في الطب النفساني (1996م)، كان الانتماء إلى APA الجمعية الأمريكية لطب النفس بالنسبة للزملاء أمنية وللأساتذة بمثابة جوهرة على التاج، وكان لي موقف يخالف الجميع فلا يوما تمنيتها ولا ارتأيتها هدفا يعني الكثير، ولم أنشغل كثيرا بالأمر، أنا نشأت ككل جيلي على أن أمريكا عدو وظهير لكل عدو، ولم أكن أفهم كيف أفصل الأمرين، كما لم تكن تغريني على مدى عقود ثلاثة فكرة السفر إلى أمريكا... ولو حتى لحضور المؤتمر العلمي السنوي الحاشد الذي تعقده هذه الجمعية.....
رغم أني لم أكن كذلك في مطلع شبابي بل فكرت عندما كنت خريجا جديدا في الحصول على المعادلة التي تؤهلني للعمل في أمريكا، واشتريت الكتب المشهورة التي يذاكرها راغبو الحصول على المعادلة الأمريكية لكنني انشغلت بدراستي في الطب النفساني ولم أكمل... حتى حصلت على درجة الدكتوراه سنة أبريل 1996 وبعدها بشهور كنت محظوظا في واحدة من الندوات العلمية للتعريف بعقَّار كلوزابين إذ حصلت على جائزة هي التذكرة لحضور ملتقى الـ APA السنوي المنعقد سنتها 1997 في سان دييجو.. تصرفت بشكل طبيعي وقدمت على التأشيرة لدخول أمريكا وأجريت المقابلة ومنحت التأشيرة، ثم كموظف بكلية الطب جامعة الزقازيق وفي ذلك الوقت كان للجامعة رئيس متعنت رفض منحي إجازة أسبوع، لم أحزن لأنني كنت سأضطر إلى اقتراض ثمن الإقامة والطعام ولم أكن أستطيع توفير التكلفة إلا بهذا الشكل.... مضت السنوات بعد ذلك حتى بلغت تاريخه ولم أفكر في طلب دخول أمريكا... وبالتأكيد كان لما حدث منذ حرب الخليج الأولى ثم حرب أفغانستان ثم الحرب على العراق ما جعلني أزداد بغضا لسياسة ذلك البلد أو الدولة الأمريكية، وربما عامل آخر أتهم نفسي به أنني لا أستريح بشكل أو بآخر في التعامل مع الغربيين، وكان من المشهور عني أني حين أدعى إلى سفر لحضور ملتقى علمي أعتذر وأقول لو بلد عربي أوافق، ثم كان بعد ثورة يناير 2011 أن وافقت فجأة على سفرة إلى النمسا، وهناك لاحظ أستاذي د. محمد غانم متعه الله بالصحة والعطاء أني لا خبرة لي ببلاد الغرب فسألني هل هي أول مرة تزور فيها أوروبا فقلت نعم إلا قبرص زرتها مرة، قال لماذا لا تسافر قلت أفضل الدول العربية فقال لي "خايب"، لكن ربما كان لما رفعته ثورة يناير من على قلوبنا من غضب أثرا في بداية السفر غربا وشرقا حتى قطعته كورونا وما تلاها من أزمات.... سافرت إذن إلى عدد من الدول الأوروبية وإلى جنوب شرق آسيا وروسيا ورغم ذلك كله لم أطمح في الذهاب إلى أمريكا.
صبيحة الخميس سادس أيام طوفان الأقصى قرأت على مجموعة نشطاء أطباء النفس Active Psychiatrists والتي أسسها على واتساب أستاذنا الجليل وليد سرحان ما كتبه أ.د سعدون أحمد من العراق متسائلا:
هل الجمعية الأمريكية للطب النفسي جمعية علمية أم جمعية سياسية إسرائيلية تساند الإرهاب الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل؟ هل الأموال التي تجمع من المشتركين بالجمعية الطبية النفسية الأمريكية باتت تقدم كمساعدات ودعم لما تسميه المتضررين في إسرائيل؟
ما هو الرد المناسب من قبل جمعيات الطب النفسي العربية؟ ثم أرفق ترجمة البيان المؤسف:
بيان الجمعية الأمريكية للطب النفسي حول الهجمات الإرهابية في إسرائيل
واشنطن العاصمة – تدين الجمعية الأمريكية للطب النفسي الهجمات الإرهابية الأخيرة في إسرائيل. لا ينبغي للمدنيين الأبرياء أن يتحملوا أبدًا أعمال العنف والفوضى التي حدثت في نهاية الأسبوع الماضي. ترسل APA دعمها لجميع المتضررين في إسرائيل وحول العالم. إننا نحزن على أولئك الذين فقدوا وندعو إلى العودة الفورية لجميع الرهائن إلى عائلاتهم. إن حجم هذا العمل الإرهابي والضرر الذي يسببه لا يمكن فهمه.
إن معاداة السامية وجميع أشكال التحيز والكراهية غير مقبولة، ونحن نقف إلى جانب الشعب اليهودي، الآن وكما هو الحال دائمًا. ويجب أن تنتهي الأعمال الوحشية التي ترتكبها حماس. ويحدونا أمل قوي في أن نتمكن ذات يوم من رؤية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين ونهاية للعنف في الشرق الأوسط.
لأولئك الذين تأثروا بشكل مباشر، وأولئك الذين تأثروا بشدة في جميع أنحاء العالم، اعلموا أن هذه الأحداث المروعة قد تؤثر على صحتكم العقلية.
11 أكتوبر 2023 وهذا ارتباط البيان على موقعهم.
إن بيانا كهذا يبدو وكأنه يتجاهل ما يحدث للفلسطينيين العزل الأبرياء، ولكن الأمر أفدح حقيقة مما يبدو، فمُصدر البيان ليس يتجاهل لكنه واقعيا لا يرى الفلسطينيين ولا ما يحدث لهم بالتالي لأن سيكولوجية الصهيوني المغتصب قائمة على قناعة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض وهي ما تجعله كذلك واعيا وغير واعِ، رؤية الفلسطيني والوعي بوجوده تعني أنه مهدد بوجود صاحب الأرض، فالذي لا يرى الفلسطيني هو الصهيوني أي أن الأصابع التي نقرت حروف البيان هي حروف صهيونية، لذلك تجدهم يرون الفظائع تحدث للشعب اليهودي ولا يرون ما يحدث للشعب الفلسطيني ببساطة لأنهم لا يرونه... إذن يا دكتور سعدون الـ APA جمعية سياسية صهيونية تساند الإرهاب الإسرائيلي لأنها لا ترى الفلسطيني.
لم يكن صادما لي وإن كان صادما لكثيرين أن يصدر بيان عن الجمعية الأمريكية للطب النفسي بخصوص ما يجري في غزة وفلسطين وقد انحاز بشكل سافر إلى الطرف الإسرائيلي الذي لا تخفى جرائمه الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني على ذي عين طوال عقود متتالية. الجمعية المذكورة هي جمعية علمية يفترض فيها الحياد والعلمية والموضوعية وليست جمعية تنحاز إلى الصهيونية كما يشي البيان، إذ المتوقع دائما من الهيئات العلمية والمنظمات الإنسانية الدولية (منظمات المجتمع المدني) هو الوقوف على الحياد والإلمام بكل الحقائق على الأرض، قبل أن تصدر بيانا تتحيز فيه بعنصرية بالغة، وإنا لنربأ بجمعية بحجم الجمعية الأمريكية للطب النفسي أن تكون ضحية إعلام مضلل أو أفكار مسمومة.
تواصلت مع رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي الحالي وهو أ.د ممتاز عبد الوهاب وطلب مني أن أكتب نصا لبيان تصدره الجمعية، وتواصلت أنا مع ابن عبد الله الذي رافقني في دخول غزة المنتصرة أوائل 2009 مع الفريق الظاهر في الصورة أدناه عقب عدوان إسرائيل الأول على غزة ديسمبر 2008 وأصدرنا أيامها التقرير النفسي العربي الأول من غزة، وتواصلت كذلك مع د. محمد المهدي، لنشترك جميعا في صياغة بيان مناسب لما يحدث وللرد على بيان الـ APA غير المسؤول.
أعود بعد ذلك لأسترجع حادثة مهمة لقصة قديمة لي مع الـ APA كانت القصة بعدما اتصلت بي معدة برامج من السي إن إن CNN أواخر 2014 أو أوائل 2015 وقالت إنهم يعدون تقريرا أو تحقيقا عن الجنسية المثلية في مصر وأنها عرفت أني أعالج بعض هذه الحالات وتود أن تعقد لقاء معي.... واتفقنا على الموعد وكان مكان التصوير عيادتي في القاهرة وفاجأني يومها أن المذيع الذي حاورني كان موسوسا فكان يطلب من المصور إعادة التسجيل مرة أخرى ليغير من تعبيرات وجهه بناء على ردودي وتكرر ذلك 4 مرات.. المهم قلت ما عندي وأكدت قبولي لعلاج المثليين المنسجمين مع مثليتهم من أي أعراض نفسانية يعانون منها دون مساس بتوجههم الجنسي! لأن هذا دور الطبيب النفساني، لكن حالة الآسف أن يكون شاذا والذي يريد التغيير أساعده فيما يطلب المساعدة فيه، وعرضت بعض نتائج عملي مع هؤلاء.... واستغرق الأمر ساعتين كاملتين من التوقف عن العمل المعتاد في العيادة، رغم أن الحوار الذي لا أمتلك منه نسخة لم يكن يزيد عن 10 دقائق.... المهم أن بعد أسبوع اتصلت بي المعدة تعتذر عن عرض اللقاء لأن الـ APA اعترضت وأبدت استنكارها لما أقول ولممارستي هذا النوع من العلاج... شكرا وأنا أيضًا حقيقة أستنكر كثيرا من آراء وأفعال الـ APA... ولحسن الحظ فإن التقرير منشور حتى اليوم على صفحات CNN تحت هذا العنوان Living in fear: Egypt’s gay community.
ما أسعدني أن -خلال ساعات من تواصلي مع رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي ومن ذكرتهم أعلاه- وصلني تقرير اتحاد الأطباء النفسانيين العرب بتوقيع الأمين العام أ.د مصطفى شاهين وقد اعتبر بيانَ الـ APA إساءة بكل معنى الكلمة للمهنية وللطب النفسي وللإنسانية بانحيازه الأعمى لجانب لا يخفى طغيانه على أحد.
وبذلك يصبح البيان الصادر عن اتحاد الأطباء النفسانيين العرب هو ثاني بيانات الجمعيات العربية للطب النفسي التي تستنكر بيان الـ APA المشين حيث كانت الجمعية الأردنية سباقة بإصدار أول بيان استنكار لبيان الجمعية الأمريكية APA، وسوف ننشر تلك البيانات تباعا.
واقرأ أيضًا:
حكايات من غزة / من سبت الغفران إلى سبت الطوفان
التعليق: أعلن براءتي واستنكاري لما ورد في هذا البيان لما يحتويه من نزعة عنصرية ومغالطات علمية من جهة تنتمي للعلم والعلماء، وأرفض أن يكون العلماء هم من يروجون لاغتصاب الأرض ونهب الأوطان وإبادة الشعوب، وهم من يقلبون الحقائق وينكرون الحقوق، ويحرمون أصحاب الحق من الدفاع عن أراضيهم المنهوبة بل ويتهمونهم بالإرهاب لمجرد دفاعهم عن وطنهم، والتغافل عن تعرضهم لكل وسائل الإرهاب ممن اغتصب أراضيهم وشتت أسرهم بالرغم من استمرارهم في ذلك حتى أثناء مثل ذلك البيان الظالم. البيان عارُُعلى جبين منظمة علمية تدعي العدل والمصداقية