في لحظات الألم والصعوبة النفسية، قد نعتقد أن معاناتنا تأتي من الأحداث الخارجية أو من الآخرين. لكن في الحقيقة، كثيرًا ما يكون المصدر أعمق: يأتي من طريقة تفكيرنا وعمل عقولنا. كيف يمكن أن تصبح عقولنا، التي هي أداة تطورنا، مصدرًا للمعاناة؟ كيف يمكن للتفكير أن يتحول إلى سجن نفسي يحاصرنا في دائرة مفرغة من القلق والاكتئاب؟
حينها، يصبح التفكير عبئًا.
الاجترار هو نوع من التفكير الدائري المتكرر. قد يبدأ الإنسان في تحليل مواقف الماضي أو القلق بشأن المستقبل بشكل مفرط، مما يجعله عالقًا في دائرة من الأفكار السلبية. وحين يتجاوز الاجترار حدوده الطبيعية، ويتصاعد التفكير السلبي المتكرر، يجد الفرد نفسه في حالة ذهنية مغلقة لا تسهم في التقدم أو التغيير. فبدلاً من التخفيف من المعاناة، يصبح التفكير عبئًا، وتتحول محاولة الفهم أو التنظيم إلى دوامة من الأفكار التي تعيد إنتاج الألم النفسي. وقد يبدأ هذا النمط كنوع من التأمل في الذات أو مراجعة التجارب، لكنه سريعًا ما ينزلق إلى تكرار مفرط، تتناقص معه القدرة على الفعل وتتزايد مشاعر العجز والانفصال عن المحيط. في هذه اللحظة، لا يكون التفكير أداة للفهم أو التقدم، بل يصبح عائقًا أمام الانخراط في الحياة.
الاجترار: دوامة العقل
هذه الدوامة الذهنية التي نعيشها هي ما يعرف بـ "التفكير السلبي المتكرر" (Repetitive Negative Thinking - RNT)، الذي يشمل نوعين رئيسين من التفكير المفرط:
• القلق المستمر حول المستقبل (Future-focused worry)
• الاجترار المرتبط بالماضي (Past-focused rumination)
الاجترار: تأملات غير مثمرة
عندما نشعر بالحزن أو الاكتئاب، قد نعتقد أن التفكير العميق في مشاعرنا وأسبابها سيساعدنا على الشفاء. قد نتساءل: "لماذا أشعر هكذا؟" أو "ما هو سبب هذا الألم؟" "لماذا لا أستطيع التخلص من هذا الشعور؟" "هل سأظل هكذا للأبد؟" ومع مرور الوقت، تبدأ تلك التساؤلات تصبح حلقة مفرغة، حيث نعيد التفكير بنفس الأفكار، دون أن نصل إلى إجابات. هذا النوع من التفكير، الذي يُسمى "الاجترار"، يطيل فترة الحزن ويزيد من مشاعر الاكتئاب والقلق ويخفض الإنتاجية ويعطل الأدوار ويقلل من قدرتنا على حل مشكلاتنا، أو اتخاذ قرارات فعّالة.
وعندما يزيد الاجترار قد يبدأ الشخص بالانعزال، ويغرق العقل في التفكير المفرط، ويتجه الانتباه إلى الداخل بشكل مبالغ فيه، مما يزيد العزلة ويقلل القدرة على التفاعل مع العالم المحيط. ومن انفتاحه على ما يحدث حوله.. وحينها يمكن أن نقول أننا نلجأ إلى استراتيجية مضللة كانت تهدف إلى تنظيم المشاعر، بينما هي تؤدي إلى استنزاف نفسي عميق.
الفرق بين الاجترار والأفكار التلقائية:
عند الحديث عن الاجترار، من الضروري التمييز بينه وبين الأفكار التلقائية، وهي تلك الأفكار التي تطرأ فجأة على الذهن استجابةً لموقف معين أو نتيجة لاستدعاء تلقائي من الذاكرة.
وفقًا للنظريات المعرفية التقليدية، تُعد الأفكار التلقائية عنصرًا مركزيًا في فهم الاضطرابات النفسية، إذ يُنظر إلى محتواها السلبي باعتباره مؤثرًا مباشرًا على الحالة الانفعالية والمزاجية للفرد. في المقابل، يُفهم الاجترار على أنه استجابة لاحقة لهذه الأفكار، ويتسم بطابع تكراري وتحليلي مستمر.
الفكرة التلقائية أو المحفزة تشبه شرارة تظهر فجأة وتختفي سريعًا. وهي ليست بالضرورة فكرة خاطئة أو غير منطقية، بل تظهر تلقائيًا دون تخطيط مسبق. قد تتعلق بحدث سابق، أو شعور آني مثل التعب أو الحزن أو الإحساس بالنقص، أو تكون فكرة سريعة حول الذات أو المستقبل.
أما الاجترار، فهو ما يحدث عندما يتوقف الفرد عند هذه الشرارة ويبدأ في إشعال نار من التفكير المطوّل حولها. فيبدأ بطرح أسئلة مثل: "لماذا أشعر هكذا؟ لماذا لا أمتلك طاقة؟ لماذا الآخرون أكثر سعادة مني؟"، ليدخل في دوامة من التفكير المفرط والتحليل غير المنتج، دون التوصّل إلى إجابات حقيقية.
الأفكار التلقائية السلبية:
• عفوية: تظهر فجأة استجابة لموقف أو شعور سلبي.
• مؤقتة: عادة ما تكون سريعة الزوال ولا تدوم طويلًا.
• مباشرة: تعبّر عن حكم سلبي مختصر، مثل: "أنا فاشل"، "لن أنجح أبدًا".
• غير مخططة: تحدث كاستجابات تلقائية غير واعية.
الاجترار:
• مستمر: يتسم بالتفكير المطوّل والمكرر في نفس الموضوع أو المشكلة.
• تحليلي: يتضمن تأملًا زائدًا في الأسباب والعواقب، مثل: "لماذا فشلت؟"، "ماذا كان يجب أن أفعل؟".
• دائري: يعود العقل إلى نفس الأفكار دون الوصول إلى حلول، مما يعزز من الشعور بالضيق.
• استجابة ذهنية مستمرة: يبدأ كرد فعل على فكرة أو شعور سلبي، لكنه يتحول إلى نمط ذهني مزمن.
الاجترار وتداعياته النفسية
الاجترار لا يؤدي فقط إلى القلق والمشاعر السلبية، بل قد يطيل الحالة المزاجية السائدة ويزيد من احتمالية تطور الديسفوريا (Dysphoria) إلى اكتئاب (Depression). كما يمكن أن يزيد من القلق العادي إلى القلق المرضي (Anxiety). ولذلك، يعتبر الاجترار من الأسباب المهمة التي تؤدي إلى الاكتئاب ويزيد من حدته ويرتبط أيضًا بزيادة مشاعر القلق، واليأس، والضيق النفسي، وحتى الأفكار الانتحارية.
تشير بعض الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يجترون كثيرًا قد لا يستجيبون جيدًا لبعض أنواع العلاج، مثل الأدوية أو العلاج المعرفي السلوكي، وقد يحتاجون إلى طرق علاجية خاصة تُساعدهم على الخروج من دائرة التفكير السلبي المتكرر.
الاجترار عبر الاضطرابات النفسية
الاجترار كعملية تفكير مستمرة يظهر جليا في أغلب الاضطرابات النفسية، فمثلا تخيل شخصًا يعاني من القلق، غارقًا في توقعات وسيناريوهات كارثية لا تنتهي. أو شخصًا مكتئبًا، مثقلًا بالحزن، يجترّ مشاعره محاولًا فهمها أو حتى تعميقها كنوع من الهروب. بل حتى في الوسواس القهري، قد يبدأ الشخص بتحليل أفكاره القهرية وشعوره بالمسؤولية المتضخمة تجاه توارد الأفكار غير المنطقية وخاصة التي لا تتسق مع قيمه، أو الاجترار حول أفكار الشك مثل: ربما فعلت شيئًا خاطئًا ولا أذكره "وفي محاولة لتبديد الشك، يبدأ الشخص في مراجعة ذاكرته (فعل قهري) أو تحليل الموقف بشكل متكرر للتحقق من صحة تلك المخاوف، مما يزيد من القلق واللجوء للفعل القهري.
والاجترار بهذا الشكل يُعد نمطًا معرفيًا شائعًا يظهر عبر طيف واسع من الاضطرابات النفسية، ولذلك يُنظر إليه بوصفه سمة معرفية عابرة للتشخيص.
واقرأ أيضاً:
الأبعاد السيكولوجية لأسرة الطفل الذاتوي (التوحدي) / العلاج بالحكمة: استهداف الحكمة في تدخلات العلاج النفسي-4