أعرف أشخاصاً يعرفون الحل تماماً، يرونه واضحاً كالشمس، يحللون مشاكلهم ببراعة، يضعون الخطط المحكمة للخروج من مآزقهم، ثم.. لا يفعلون شيئاً، يظلون في مكانهم، ويكررون الأخطاء نفسها، ويشتكون من الآلام نفسها، وكأن معرفة الصواب شيء وفعله شيء آخر تماماً، وبينهما هوة سحيقة اسمها الخوف!
الخوف من الصواب أغرب أنواع الخوف وأكثرها شيوعاً، فنحن نخاف من القرار الذي سينقذنا، لأنه سيغيرنا، والتغيير - حتى للأفضل - مرعب، فالخطأ المألوف أريح من الصواب المجهول، والألم المعتاد أأمن من السعادة الغامضة، نفضل الجحيم الذي نعرفه على الجنة التي لا نعرفها!
هناك راحة غريبة في البقاء حيث نحن، حتى لو كان المكان يؤلمنا، فالألم المألوف يصبح جزءاً من هويتنا، نعرف كيف نتعامل معه، متى يأتي، كيف سيؤلم، وكم يستمر، بينما الشفاء مجهول مخيف، فمن سأكون بدون ألمي؟ وكيف سأملأ الفراغ الذي سيتركه رحيله؟ وماذا لو اكتشفت أنني لا أستحق السعادة؟
نحن نتقن لعبة المماطلة مع أنفسنا، فنؤجل القرار الصحيح بحجج تبدو منطقية: «ليس الوقت المناسب»، «سأنتظر حتى أكون مستعداً»، «الظروف غير ملائمة»، لكن الحقيقة أننا نخاف، نخاف من النجاح أكثر من الفشل، لأن الفشل مألوف، أما النجاح فيحمل مسؤوليات جديدة لم نتدرب عليها!
العلاقات السامة مثال صارخ، كم من شخص يبقى في علاقة تستنزفه، وهو يعلم ذلك جيداً، يحلل ويفهم، ثم يدرك الضرر، لكنه يبقى، لأن الوحدة المحتملة أكثر رعباً من الأذى المؤكد، ولأن إعادة بناء الذات بعد الانفصال تبدو مهمة أصعب من تحمّل الألم اليومي المعتاد!
ماذا عن الوظائف التي تقتلنا ببطء؟
نشتكي منها كل يوم، نعد الساعات للخروج، ونحلم بالاستقالة، لكننا نعود كل صباح، ليس حباً في العذاب، بل خوفاً من الحرية، فالحرية تعني المسؤولية الكاملة عن اختياراتنا، والروتين القاتل أسهل من مواجهة هذه المسؤولية!
نحن أحياناً نتمسك بصورة خاطئة عن أنفسنا، لأن تصحيحها يتطلب اعترافاً مؤلماً بسنوات الوهم، نفضل الاستمرار في الخداع الذاتي على مواجهة الحقيقة، نخترع مبررات معقدة لتجنب الخطوة البسيطة الصحيحة، نحوّل الحبة لقبة كي نبرر جبننا!
الغريب أننا نحسد من اتخذوا قراراتهم الصعبة، نراهم وقد تحرروا من سلاسلهم، فنتمنى لو نملك شجاعتهم، لكننا لا ندرك أنهم لم يكونوا أشجع منا، فقط وصلوا لنقطة صار فيها الألم الحالي أكبر من الخوف من المجهول، أو ربما أدركوا أن الندم على المحاولة أهون من الندم على الجبن!
لا بد من إدراك أن معرفة الصواب دون فعله عذاب مضاعف، إذ نعذّب أنفسنا بالبقاء في الخطأ، ثم نعذّبها بالشعور بالذنب، لأننا نعرف الحل ولا نطبقه، دوامة من الألم الذي نصنعه بأيدينا، ونرفض الخروج منه!
لعل الخلاص من أزمتنا هذه يبدأ بالاعتراف، نعم، أنا أخاف من الصواب، أخاف من التغيير، أخاف من فقدان هويتي الحالية، حتى لو كانت تؤلمني، هذا الاعتراف ليس ضعفاً، بل بداية القوة، فالشجاعة ليست غياب الخوف، بل الفعل رغم وجوده، ولعل لحظة الشجاعة، التي نحتاجها لاتخاذ القرار الصحيح، أهون بكثير من سنوات الندم على الجبن، فالقفزة مخيفة، نعم، لكن البقاء في الحفرة أكثر رعباً!
واقرأ أيضًا:
راحة... تقتل الشغف! / المبالغون.. في الهدوء!
