أستيقظ من نومي... ألهث في دروب الحياة.. اجتماعات..أوراق.. مكالمات... مشاكل.. فوضى وطرق مزدحمة... إيقاع الحياة المتسارع يضغط علي أعصابي.. مشاعر القلق والتوتر لا تفارقني.. أشعر وكأنني أغرق في بحر من الهموم والضغوط المتلاحقة.. وقبل أن أفقد القدرة على السمع والإبصار... يأتيني صوته – صلي الله عليه وسلم - هاتفا عبر أربعة عشر قرنا من الزمان "أرحنا بها يا بلال"، ويثور التساؤل الحائر.. لماذا فقدت الصلاة قدرتها على بث الراحة والسلام بين جنبات نفوسنا المكدودة؟ وكيف يمكننا أن نستعيد الطاقة الكامنة في العبادات المختلفة بحيث تؤدى دورها في بعث الراحة والسكينة والسلام النفسي بداخلنا؟
قد يثور البعض محتجا بأن علينا أن نؤدي العبادات المختلفة طاعة لله وبدون النظر للفائدة المتحققة منها، ولكنني أحسب أن العبادات ما شرعت إلا لتضبط إيقاع حياتنا ولتضمن التوازن السوي بين جنبات نفوسنا وتملؤها بالراحة والسكينة والأمان وذلك من خلال التواصل مع خالقنا وبارينا والقوة المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه ( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب)، فنحن مأمورون أن نؤدي العبادات المختلفة على الوجه الأكمل، ونحن مأمورون أن نتدبر ونتفكر حتى نعيد للعبادات المختلفة وظيفتها المفقودة.
* الضغوط العصبية: التعريف والأنواع والآثار:
وقد يكون من المفيد – قبل أن نغوص في بحار العبادات المختلفة باحثين عن جوهرها و دررها- أن نتعرف على الضغوط العصبية.... معناها... أنواعها... وتأثيراتها... فإيقاع الحياة المتسارع يضعنا دوما تحت عجلة الضغوط المزمنة، وهذه الضغوط تؤثر تقريبا علي كل مكونات الإنسان، ويضاعف من خطورة هذه الضغوط المزمنة أن تأثيراتها تتسلل في الخفاء وتفعل فعلها بصورة تدريجية وغير ملحوظة بحيث لا يدرك الإنسان حجم ما أصابه من خسائر إلا في المراحل المتأخرة.
تحدث الضغوط تأثيراتها على جسم الإنسان من خلال متلازمة الاستجابة العامة للضغوط (General stress response syndrome)؛ فمن خلال استجابة العراك والفرار(Fight and flight response) يعد الجسم نفسه لمواجهة الخطر أو الهروب منه بإفراز هرمونات الأدرينالين والكورتيزول، والتي تزيد من طاقة الجسم، وهذه الاستجابة تعتبر ملائمة جدا للضغوط الوقتية قصيرة الأمد حيث تؤدى إلى حماية الجسم من الأخطار التي تحدق به، ولكن الخطورة تكمن في استمرار الضغوط مما يؤدى لتراكم هذه الهرمونات، وتزداد الخطورة إذا شعر الإنسان أنه لا يملك قرار المفاضلة بين المواجهة أو الهروب وأنه مجبر على أي من الخيارين، واستمرار التعرض للضغوط يؤدى إلى إفراز المزيد والمزيد من الهرمونات والتي لا تجد لها أي مخرج محدثة انفجارا داخليا للطاقة واختلاطا بين طاقة العقل وطاقة الجسد مما يحدث تشوشا وارتباكا شديد الخطورة.
ويمكن تقسيم مراحل استجابة الجسم عند التعرض للضغوط المختلفة إلى ثلاثة مراحل وهى:
1. مرحلة الإنذار وفيها يزداد معدل إفراز الهرمونات السالفة الذكر.
2. مرحلة المقاومة وفيها يحدث نفاذ للطاقة المتولدة في مرحلة الإنذار.
3. مرحلة التهالك والإجهاد والتي يمكن اعتبارها نتاجا للضغوط المستمرة، مما يؤدى إلى ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب وغير ذلك من الأمراض والمشاكل التي تنتج من التعرض المستمر للضغوط.
ويمكن تقسيم الضغوط المختلفة حسب مصادرها إلى ضغوط داخلية (وهى الضغوط الناتجة عن سمات الإنسان الشخصية) وضغوط خارجية (نتاج عوامل خارجية)، كما يمكن تقسيمها حسب استجابة الإنسان لها إلي ضغوط بناءة (تدفع لمزيد من العمل والإنجاز) وضغوط هدامة ومعوقة، وحسب فترة التعرض يمكننا تقسيم الضغوط إلى ضغوط وقتية ومتقطعة وضغوط مستمرة مزمنة.
وللضغوط آثارها الجسدية والعقلية والنفسية، وقائمة التأثيرات طويلة وممتدة ويصعب حصرها، فالآثار الجسدية تنتج عن تأثر كافة أجهزة الجسم، وينتج عنها أمراض القلب وقرح المعدة والقولون العصبي، بالإضافة لزيادة نسبة حدوث داء السكري ومضاعفاته، وكما تتأثر الخصوبة.... يتأثر جهاز المناعة محدثا ضعف عام بمناعة الجسم وزيادة معدل حدوث السرطانات المختلفة، والتأثيرات النفسية تشمل فيما تشمل الوسواس والفوبيا والاكتئاب واضطرابات النوم المختلفة، بينما تقع اضطرابات الذاكرة تحت الاختلال في الوظائف العقلية.
* كيف نتعامل مع الضغوط؟
وقد لا نستطيع في هذه العجالة أن نوضح كل الآثار السلبية لبقاء الإنسان لفترات طويلة تحت ضغوط مستمرة، ولكننا على الأقل نستطيع دق ناقوس الخطر محذرين من آثار هذه الضغوط علي صحة الإنسان الجسدية والنفسية والعقلية، ومطالبين بالبحث الدؤوب عن حل لهذه المشكلة التي تتفاقم كل يوم، وبما أنه قد يكون من المستحيل تغيير نمط وإيقاع الحياة المتسارع للغالبية العظمى ممن يعيشون في مجتمعاتنا الآن، ومع التسليم بفشل الطب الرسمي بعقاقيره وكيماوياته في التعامل مع هذه المعضلة.
اتجه العلم للبحث عن سبل جديدة للوقاية وللتخفيف من الآثار المدمرة للضغوط المزمنة مثل تدريبات الاسترخاء والتأمل والتخيل واليوجا وفلسفتها، وخضعت هذه الطرق المختلفة للبحث العلمي المنضبط لتحديد مدى فاعليتها وميكانيزمات عملها، والأبحاث المختلفة أكدت مدى فعالية هذه الوسائل في التقليل من هذه الضغوط وفي علاج آثارها المختلفة، وبالتالي أصبحت هذه الوسائل المختلفة تدرج في البرامج التي تستخدم للوقاية من الضغوط أو في علاج آثارها السلبية علي جسم الإنسان، والنظرة المتأملة تكشف عن تواجد هذه الوسائل بوفرة في عباداتنا المختلفة إذا أحسنا الفهم والأداء... فهل يمكن أن يكون الحل في أن يجد كل منا لنفسه واحة يصنعها لنفسه ويفر إليها من هجير صحراء الحياة؟
ويثور التساؤل: ما هي هذه الواحات التي يمكننا أن نقترحها نتاج فهمنا لوسائل علاج الضغوط المستخدمة في الغرب؟ وما هي الآليات التي تفعل بها فعلها السحري في تخفيف الضغوط؟
* واحة الإيمان:
من الملاحظ أن تأثيرات نفس الضغوط تختلف باختلاف الأشخاص الذين يتعرضون لهذه الضغوط، ومن هنا يمكننا أن نستنتج أن تأثيرات الضغوط لا تعتمد علي حجم ونوعية هذه الضغوط بقدر ما تعتمد على استقبال الإنسان لحجم التهديد، أي أن الاستجابة للضغوط لا يصنعها المثير ولكن تصنعها الطريقة التي تم بها استقبال هذه الضغوط، وبمعنى آخر يمكننا أن نقول أن الاستجابة للضغوط هي نوع من (الاستقبال والوعي)، فتفاعلنا مع الضغوط ينشط بناءا على استجابتنا العصبية وبناءا علي إدراكنا لحجم التهديد مقارنة بنظرتنا نحن للعالم من حولنا ومقارنة بإدراكنا لحجم تحكمنا نحن في الظروف المحيطة بنا.
ولقد أثبتت الدراسات انخفاض مستوى الضغوط ومستوى الاستجابة لها عند من يشعرون بقدرة أكبر من التحكم في الظروف المحيطة بهم، فهل هناك من هو أكثر تحكما من رجل يشعر أنه علي اتصال دائم ومستمر وأنه في معية القوة الوحيدة المتحكمة والمدبرة لشئون هذا الكون بما فيه وبمن فيه، وإذا كان العلماء والدارسون يعتبرون أن فلسفة اليوجا ونظرتها للعالم تعتبر من أهم المحاور التي تعطى لليوجا قيمتها وفعاليتها في التعامل مع الضغوط بما تتيحه من إعادة اكتشاف الإنسان لذاته ومعناه الإنساني وبما تمنحه له من شعور بالقوة العميقة والتحكم، فهل نعيد نحن اكتشاف فلسفة الإسلام التي تعطى للإنسان قيمته وقدراته المستمدة من كونه نفخة من روح الله.
*واحة الاسترخاء والتأمل والتفكر:
حيث يركز الإنسان تفكيره علي فكرة أو شئ ما، وذلك من أجل اكتساب القدرة علي المزيد من التحكم في القدرات العقلية، والتأمل بهذه الصورة يوفر للإنسان طاقته الجسدية والعقلية، ولقد درس هربرت بنسون في سبعينات القرن الماضي الاستجابة الفسيولوجية للتأمل ووجد أنه يحدث استجابة معاكسة لاستجابة العراك والفرار أو ما يعرف بـــ (Relaxation response) وفيه يحدث انخفاض في معدل ضربات القلب والتنفس واحتراق الأكسجين وتوتر العضلات، وتأثير التأمل في تخفيض هذه العمليات الحيوية يفوق تأثير النوم.. حيث تعطى 4 – 5 ساعات من النوم انخفاضا بمقدار 8 % في معدل حرق الأكسجين بينما يعطى التأمل انخفاضا بمقدار 10 – 17 % في غضون دقائق قليلة.
ولقد أثبت د. دين أورنيس في ثمانينات القرن الماضي فائدة هذه التدريبات في علاج مرضى القلب حيث حدث عند من يمارسون التأمل منهم انخفاضا ملحوظا في دهون الدم الضارة (LDL) والكوليسترول، كما حدث تراجع في التغيرات الحادثة في الشرايين التاجية، وحدث انخفاض في معدل ضغط الدم والمقاومة الطرفية الكلية (Total peripheral resistance)، كما أثبتت الدراسات انخفاضا ملحوظا في مستوى مؤكسدات الدهون (Oxygen free radicals) عند من يواظبون علي التأمل وهذا يعنى انخفاضا في نسبة "التَلَفِيَّات" الحادثة في الأنسجة نتيجة لعمليات الأكسدة الضارة والتي تحدث عبر سنوات العمر، وفي دراسة أجراها بنسون أثبت أن التأمل يكون أكثر فعالية فيمن يمارسونه كاستجابة لمعتقداتهم الدينية.
* واحة الذكر:
يمكن أن يتم التأمل بالتركيز والتفكر في شئ من مخلوقات الله (وردة أو شجرة مثلا) كما وضحنا في الفقرة السابقة، والطريقة الأخرى للتأمل تتم بالتركيز علي كلمة واحدة أو عدة كلمات (الله أو لا أله إلا الله أو غيرها من الكلمات) وترديدها في صمت بعمق وتدبر وتركيز... مع طرد صور الأفكار السيئة من العقل، وهذه الوسيلة تحدث نفس التأثيرات الفسيولوجية التي يحدثها النوع الأول، كما أنها تضيف بعدا آخر حيث يشعر المتأمل والذاكر أنه في معية الله الحكيم والمدبر.
*واحة التخيل:
يعتبر من أقوى وسائل تقليل الضغوط، وتزداد الفائدة منها لو اقترن استخدامها مع تمرينات الاسترخاء، وفي أثناء ممارسة هذه التدريبات علي الإنسان أن يتخيل تواجده في مكان يبعث في نفسه الراحة والسكينة.
* واحة الصلاة:
هذه هي الواحة الجامعة... ففيها كل ما سبق، فيها التأمل، وفيها الذكر، وفيها يمكن أن يتخيل الإنسان تواجده بجنة عرضها السماوات والأرض، وفي الصلاة يشعر الإنسان بتمام التحكم في الكون والبيئة من حوله، وفيلسوف الهند غاندي اعتبر الصلاة مفتاح الصباح ومزلاج المساء، فهي علامة الأمل للإنسان.. وهى تعنى أن هناك قوة أعظم واكثر حكمة هي التي ترشدنا في حياتنا، فلا سلام بدون منحة أو عطية من الله، ولا توجد منحة من الله بدون صلاة، والدراسات العلمية المختلفة أثبتت أن الصلوات تؤدى دورها بالفعل.. حيث لوحظ أن نسبة حدوث المضاعفات والوفيات في المرضى الذين يتعرضون لعلميات القلب المفتوح أقل 12 مرة في من يواظبون علي الصلاة مقارنة بغيرهم، وكذلك تقل نسبة الاكتئاب المرضى المصاحب لدخول المستشفي في المرضي الذين يواظبون علي الصلوات، وللصلاة نفس التأثير الذي يحدثه التأمل علي المصابين بأمراض القلب.
وبعد أن حاولنا استعراض بعضا مما يمكن أن تفعله العبادات المختلفة من تأثيرات إيجابية على الجسم والنفس، فهل نجعل رمضان هذا العام فرصة لإعادة اكتشاف منجم العبادات الذاخر بكل نفيس؟!!!
http://www.learningmeditation.com
http://1stholistic.com/Meditation/hol_meditation.htm
http://1stholistic.com/Prayer/default.htm
http://www.aliveandhealthy.com/meditation.html
http://www.mindtools.com/stress/RelaxationTechniques/IntroPage.htm
http://wso.williams.edu/orgs/peerh/stress/relax.html
اليوجا والطاقة الروحية في الإنسان للأستاذ محمد عبد الفتاح فهيم
* Barnes VA, Treiber FA, Turner JR, Davis H, Strong WB. Acute effects of transcendental meditation on hemodynamic functioning in middle-aged adults. Psychosom Med. 1999;61(4):525-531.
* deLeon D. The relaxation response in the treatment of chronic pain. In: Micozzi MS, Bacchus AN, eds. The Physician's Guide to Alternative Medicine. Atlanta, Ga: American Health Consultants; 1999:335-337.
* Kabat-Zinn J, Lipworth L, Burney R, Sellers W. Four-year follow-up of a meditation-based program for the self-regulation of chronic pain: treatment outcomes and compliance. Clin J Pain. 1987;2:159-173.
* Kabat-Zinn J, Massion AO, Kristeller J, et al. Effectiveness of a meditation-based stress reduction program in the treatment of anxiety disorders. Am J Psychiatry. 1992;149(7):936-943.
* Ornish D, Scherwitz LW, Billings JH, et al. Intensive lifestyle changes for reversal of coronary heart disease. JAMA. 1998;280(23):2001-2007.
* Schneider RH, Nidich SI, Salerno JW. Lower lipid peroxide levels in practitioners of the Transcendental Meditation program. Psychosom Med. 1998;60(1):38-41.
* Sultanoff BA, Zalaquett CP. Relaxation therapies. In: Novey DW, ed. Clinician's Complete Reference to Complementary and Alternative Medicine. St. Louis, Mo: Mosby; 2000:114-129.
Sahar Talaat (Assisstant professor of pathology, Kasr El Aini Faculty of medicine)
واقرأ أيضا:
الطب والأطباء والدواء مهزلة مشاركة1 / الخصاء العربي ولا أكثر شويه؟