خلافاً لما كنت أعتقده سابقاً، ومتابعة لما نشر في مجال البحث العلمي في إطار عملية الإبداع وخلافاً لما ينشر في بعض الدوريات والصحف السيارة، أرى أن ما يثار بشأن العلاقة بين الإبداع والجنون يحتاج إلى كثير من التأمل، المراجعة والمتابعة الحذرة. إن ثمة عمليات ذهنية بحتة إذا فحصناها بدقة أمكننا أن نجيب على ذلك السؤال المحير: ترى ما هي العلاقة بين الإبداع والجنون؟! وهل هناك أصلاً ـ بالفعل ـ ما يربط بينهما؟!
0إن العمليات الفكرية الإبداعية التي يستخدمها المبدع حينما يكون في تمام وعيه وعقله في إطار شعوره وملامسته للواقع (بمعنى أن المبدع لا يكون في حالة غير اليقظة، ولا يكون مغيباً أو داخلاً في شعور مماثل للنوم أو في أي حالة أخرى مخالفة أو مختلفة للشعور والوعي)، هذا لا يعني أن أنماطاً مختلفة وغير عادية من الإدراك تتم في هدوء، بشيء من الدقة نستطيع القول بأن تلك العمليات الذهنية تحول وتطوع أنماط التفكير المنطقي والعادي المتعارف عليه لدى غير المبدعين، ومن هنا جاز لنا القول بأنها أنماط (عبر منطقية TRANSLOGICAL) للتفكير، بمعنى أن عمليات الإبداع الفكرية تلك مرتبطة بشكل وثيق بكل من المنطق والوعي.
خلاصة القول المهمة في هذا الصدد أن تلك العمليات الإبداعية الذهنية ليست مرضية، أي ليست لها علاقة البتة بالجنون أو المرض العقلي، أي أنها ليست بذات صلة مطلقاً بأية دوافع مرضية. لكن على العكس فإن جذورها ممتدة بدرجات عليا من التكيف، صحية وصحيحة ومميزة في وظيفتها وطبيعتها السيكولوجية.
لكن ماذا يعني كل هذا فيما يخص العلاقة بين الإبداع والجنون؟! كل هذا يعني وبكثير من الوضوح أن مفاتيح الذهنية الإبداعية ليست لها علاقة البتة بالذهان (المرض العقلي)، أو الجنون إن العملية الإبداعية تلك ترتكز على عمليات ذهنية صحية تنبع عموماً ـ من عقول صحية وأذهان غير مريضة.
أما في تلك الحالات التي يعاني فيها المبدع من مرض عقلي (ذهان) فمن الصحيح القول والتقرير بأنه حينما يستخدم عمليات خاصة ومختصة في خضم عملية إبداعية، فإنه ـ في لحظات الإبداع ـ تلك، يكون سليماً ومعافى في تفكيره وإدراكه، كل من طريقتي التفكير (الإبداعي والذهاني) تكون غير عادية، غير تقليدية، فيما يخص الأمور السطحية منهما؛
بمعنى أن عمق العمق في كل منهما مختلف جِّد الاختلاف، ومن ثَم فإن هناك خط رفيع محدد يقيم حدود فاصلة بين أرقى أشكال التفكير وأكثرها صحة وغنى (الفكر الإبداعي)، وأكثر أشكال التفكير فقراً ومرضاً (العملية الذهانية ـ الجنون)،
وهنا فإن المبدع الذي يكون مجنوناً في نفس الوقت يمكنه بل وأنه بالفعل يتراوح ويتأرجح غدواً ورواحاً ما بين المساحتين المجنونة (المريضة عقلياً)، وتلك المبدعة، الفذة، المبتكرة، والخلاَقة وهنا فإن مشاعر مثل الغيرة، الحقد، الكره، الانتقام، وغيرها من تلك التي تشغل بال وفكر وسلوك (الفنان المجنون).
تكّون مضمون أعماله الفنية لكن العمليات التي تقولب وتشكل هيكل ويناء تلك الأفكار والمشاعر وتحولها إلى عملية إبداعية عظيمة، هي في الأساس عمليات صحية وصحيحة، وليست بأي حال من الأحوال مريضة أو معطوبة الفحوى.
هذه الحقيقة المؤكدة تفرض نفسها على مضمون العلاج النفسي الذهانيين (المجانين) وأيضاً على الأطفال، من أجل تحقيق قدر من الرعاية، ومن أجل تطوير الإبداع لديهم. هناك من يقول (لا تعالجوا المدمنون حتى يبدعوا أكثر) إن مثل هذا الطرح غير مقبول لا على المستوي العلمي ولا على المستوي الأخلاقي، نفس الأمر ينطبق على الأطفال المنعزلين والمنغمسين في ذواتهم والمضطربي السلوك. قد ينادي البعض بضرورة تركهم وشأنهم لأن سلوكهم ذاك سوف يولد إبداعاً وتطوراً!؟
الخلفية الأسرية والإبداع
تلعب البيئة الأسرية دوراً لا يستهان به إطلاقاً فيما يخص الإبداع والجنون. لكن مرة أخرى فإن هناك ذلك الخط والحد الواضح بين تفاعلات الأسرة التي ترعى (الجنون) والأسرة التي ترعى (الإبداع) في نفس الوقت ولنتخيل ونتصور أن ما يقوله أفراد الأسرتين وما يحسونه وما يشعرون به حقيقة سيدفع بالطفل لأن يكون حساساً للغاية لأية رسائل خفية، بينما في حالة (المجنون) غالباً ما يكون أحد الوالدين مضطرباً بينما في حالة (المبدع) غالباً ما يكون أحد (الوالدين) متمتعاً بصحة نفسية.
يلاحظ كذلك أن أسرة المبدع غالباً ما يكون فيها أحد الوالدين ذا طبيعة خَلاقة حتى لو لم تثمر هذه الطبيعة عملاً إبداعياً. فمثلاً كان والد موزارت موسيقياً لكنه لم يكن مؤلفاً موسيقياً عبقرياً مثلما أصبح ابنه، بينما كان والد أوجين أونيل ممثلاً ولم يكن كاتباً مسرحياً ذائع الصيت مثلما صار ابنه، وكان والد بيكاسو والد تربية فنية بينما كان والد اينشتاين غير قادر على استثمار اهتمامه في الرياضيات ولم يكن ناجحاً في مجال الكيمياء الإلكترونية؛
وهناك العديد من الأمثلة لكتاب وشعراء وعلماء كان أحد والديهم إما رجل أعمال أو بناء لكن في كل الأحوال كان قادراً على أن يكون راوياً وقاصاً، يقرض الشعر ويكتب الخواطر ويدون الملاحظات المبتكرة. بمعنى آخر فإن المبدع يسعى ليحقق أحلام وأمال وطموح والديه في الإبداع والتفوق والابتكار.
نعود مرة أخرى للسؤال المهم والملح. هل الإبداع مرادف للجنون؟! هل للعملية الإبداعية ـ في مستوي معين وظرف محدد تحاكي وتقترب من الحالة المرضية الذهنية المعروفة علمياً بـ (الذهان) Psychosis أو (الجنون) أو الهوس Mania. أم أن الظروف المحيطة بحياة المريض العقلي تهيؤه وتقدمه لبوابات يخرج منها إلى الإبداع؟! ترى هل لشخص عادي عاش في كنف أسرة متماسكة أن يأتي بأعمال مثل تلك التي كتبها (إدجار ألان بو) الذي تربى وترعرع في ظل أم مريضة شهد موتها البطيء بأم عينيه. الحقيقة أن كل المبدعين ليسوا مرضى نفسيين، وليس كل المرضي النفسيين مبدعين. وليس كل المبدعين فناً أو كتابة يتخلصون من عذاباتهم النفسية بإطلاق الطاقة أدباً وفناً وشعراً وعلماً.
من الملحوظ أن نسبة عالية من المبدعين كان الاضطراب النفسي سمة من سمات تاريخهم الشخصي ربما أكثر مما هو موجود في الأناس العاديين (غير المبدعين) ربما، ربما أن مزج الذكاء، الحساسية وتلك الشرارة الإبداعية الساحرة مع بذور جنون كامنة، يزيد من ومضها، ويزيد أيضاً من الإبداع وربما الأعراض النفسية. وهناك من هم حساسون أذكياء لا يملكون القدرة على الإبداع، لكن لديهم حاسة فائقة للتذوق الفني والعلمي، وقد يصابوا أو قد لا يصابوا باضطرابات نفسية.
عموماً يدور الجدل ولسوف يستمر لأن الأمر جَد شائك والقطع فيه ليس سهلاً خاصة أن من يلقي الضوء علي المبدع لأعماله التي تضعه في دائرة الاهتمام، لا يهتم إطلاقاً بما يملك في جنباته من طاقة إبداعية لا يتمكن من إطلاقها، ومن هنا فإن كل الآراء في هذا الصدد انطباعية وتحمل وجهات نظر وسندها العلمي المطلق والمتحكم ضعيف.
" ولعل خير ما يمكن أن نختم به هذا الجزء بعض من ملخص ما جاء به كتاب الدكتور عبد الستار إبراهيم (الحكمة الضائعة ـ الإبداع والاضطراب النفسي والمجتمع ـ سلسلة عالم المعرفة ـ 280 ـ أبريل 2002 )، مستندا إلى 80 مرجعا عربيا وأجنبيا:
- تثبت الدراسات المعاصرة في علم النفس أنه لا صحة للفرضية التي ترى أن المريض العقلي يتسم بالإبداع أو العكس.
- على الرغم مما يتسم به بعض المبدعين من غرابة في التصرفات والسلوك، وعلى الرغم من وجود حالات من القلق والاكتئاب لديهم،فإن اضطراباتهم هذه لا تصل إلى درجة التشوش الذهني، والاضطراب العقلي اللذين نحدهما عادة بين المرضى النفسيين والعقليين.
- دراسة السير الذاتية للمبدعين (خاصة الذين كانوا يوصفون بالاضطراب والتوتر)، بينت أن الإبداع وعمليات الخلق والإنتاج الفني والعلمي الذي قاموا به تم وهم في أحسن حالاتهم، أي في الفترات التي خلت حياتهم خلالها، نسبيا من الاضطراب والتوتر والمرض. أي أن المرض العقلي ـ النفسي والمرض البدني كليهما يقلل من فرص الإبداع والخلق على عكس ما ادعته النظرة القديمة. بعبارة أخرى، فإن المبدع ينتج أفضل أعماله، ويكون في أحسن حالاته الصحية بدنيا ونفسيا.
- دراسة حالات الانتحار بينت أن نسبته بين المبدعين كانت أقل من نسبته بين العاديين وفق إحصائيات منظمة الصحة الدولية، مما يدفع التصورات الدارجة بأن نسبة الانتحار أعلى بين المبدعين. وهذا يدل على أحد أخطاء التفكير بين المؤرخين والنقاد والمفكرين الذين كتبوا عن هذا الموضوع. " صفحتي 187 و 188.
المثقف والاكتئاب النفسي
نتوقف هنا عند قضية أخرى ألا وهي هل المثقف أكثر عرضة للاكتئاب النفسي، ولماذا ينتحر المثقف والشاعر! للإجابة عن هذا التساؤل وليس السؤال يجب أولا تعريف المثقف، لأن الخلط شديد بين المثقف الموظف والمثقف الحر، أو بين المثقف بدعوى قراءته لعدد من الكتب والدوريات وانشغاله بأمورها وعدم نفاذ الثقافة إلي وجدانه فيصبح أشبه بالربوت مثله مثل الممثل (الصناعي) الذي يؤدي الأدوار من (بَرة) ومثل المؤدي الذي (يغني) كلمات بعيدة في إحساسها عن المطرب الذي ينطقها ويعيشها بكل وجدانه. اكتئاب المثقف الموظف له أسبابه ودواعيه ويحتاج منا إلى وقفة.
اكتئاب المثقف الموظف
قد نفهم أن الاكتئاب هو للمثقف الموظف، وقد يعني أن اكتئاب المثقف موظف للتحايل والتسامي والإبداع، أو لاستخدام كافه الحيل الدفاعية من أجل التعايش مع الواقع. ومع أن الأمر ليس محض تلاعب باللغة، لكنه ـ قدر الإمكان ـ تعامل معها من أجل محاولة الوصول إلى المعنى المختبئ. بصور البعض أن اكتئـاب المثقفين يصيب أكثر من يمكن أن نطلق عليهم ( الموظفين المثقفين؟؟)، وهذا في حد ذاته قد يدعو إلى طرح مقابل يتصور أن المثقف المجتهد الحساس المبدع، هو الأولى والأحق بالاكتئاب دون سواه من ذوي الجلود السميكة، تلك التي لا تحس، ولا تهتم إلا بالنفاق بشتى صوره أولى الأمر، ومجاراة الواقع بكافة الأساليب. غير أن الأمر يبدو لنا أكثر تعقيدا من هذا.
سأحاول هنا قدر الإمكان سبر أغوار الاكتئاب ـ خاصة ـ لدى المثقف الموظف، أو لدى المثقف الحساس الذي يتمكن من توظيف معاناته إبداعا، ومن ثم تتشكل الرؤى، وتتضح أو تتعقد.
بداية لنا أن نفرق بين الاكتئاب العرضي المتمثل في حاله القرف، السأم، الإحباط، اللامبالاة، عدم الاهتمام، ومن ثم الانعزال والانطواء. وبين الاكتئاب المرضي الذي يسكن الخلايا معكرا صفو الكيميائيات المستقبلة في الجهاز العصبي الذي على أرضه تتوتر العلاقة بين المخ كعضو حساس مهم يستقبل من خلال الحواس الخمس كل ما يمكن تلقيه من خلال العينين، روعة وقبحا، خضرة وعبثا، أشكالا قميئة ولوحات رائعة، من خلال الإطلاع على صحف صفراء بحق، وعلى مقالات غثة بامتياز، وكتب بلا قيمة، وأيضا على التراث الإنساني والإبداع الوجودي الرائع، وينطبق هذا ـ أيضا ـ على حاسة السمع وما قد يدهمها من فزع وما يسري إليها من نغمات، وعلى التذوق واللمس الهابط والخشن، الحنون والرديء.
الاكتئاب كعرض قاس، لواقع قاس وفعل إنساني راق يدل على حساسية صاحبه ورقته، ضيقه وانزعاجه بالتلوث النفسي الأخلاقي، البيئي والحسي في المحيط الذي يحيط بصاحبه. وهو عرض إيجابي، بمعنى ان من فوائده إن صاحبه حينما ينطوي وينعزل ويدخل إلى سجن نفسه، محتضنا قيمه ورؤاه، ضاما ساقيه إلى صدره كالجنين، كأنما يتفادى بشكل أو بآخر غول الواقع الدامي، ويحمي نفسه من غائلة الانهيار التام.
ومن ثم فإن الاكتئاب قد يكون بمثابة صمام أمان يحمي صاحبه، مثقفا كان أم فنان، أو أي إنسان يمتلك حساسية وذكاءا، يحميه من الانحدار والتردي، يحميه من العقم وفقدان القدرة على الإبداع، وذلك بتعطيله جزئيا عن الاستمتاع، متيحا له الفرصة لترميم الأنا وتقويتها، من أجل مواجهة ذلك الواقع البشع، ومما يبدو أن ذلك الواقع لا يتغير، وهنا قد يكون الخلل بالهروب من النفس إلى دنيا أخرى تتحالف فيها الحيل الدفاعية من أجل البقاء، ولكن تظل الهامة مرفوعة، والابتسامة شبه موجودة، تتأجج القوى، وتستعر نيرانها، تحتدم مشاعرها حينما تتوحد مع قوى المكتئبين الآخرين، وحينما تلتقي القوى المحيطة لتناقش إحباطها، قد تخف حدة اكتئابها ويتوزع ذلك الحزن الخبيث على الناس، وربما بدا أكثر ضآلة، لكنه حتما لا يزول.
إن خطر ذلك" الصراع العصابي" يظل قائما، بمعنى أن المكتئب الحساس المبدع (وهو يختلف عن ذلك الذي قد يحس بالتعاسة لظروف اجتماعية خاصة، أو لإدراك مختلف لواقع معاش)، في ممارساته للنشاطات الفكرية الإنسانية المختلفة، يسعى للبهجة والفرحة، لكنه ـ في نفس الوقت ـ وعلى عكس ما يعتقده البعض ـ ينخفض لديه الإحساس العام بالأمان، وهذا ـ تحديدا ـ ما يصرح به بعض مرضى الاكتئاب المزمن، بعد أول إشارة للفرح، يخشون ذلك الإحســاس" الغريب" بالبهجة؛
كما عبر لي أحدهم أنه بعد 22 سنة من عذاب الكآبة يجد نفسه غير قادر على استيعاب تلك الفرحة أو السعادة، ومن ثم قد ينتابه عرض آخر (وكأنها مسألة استبدال الاكتئاب بالفرح) لكن على حساب الإحساس بالخوف، فينتابه ما يمكن الاصطلاح عليه بـ الخوف من الفرحة ـ أو Cheerophobia)، غير أن الذين يتمكنون من قدر أكبر من الحفاظ على كياناتهم، وخفض درجه ذلك الخوف، وذاك الإحساس بعدم الأمان، يوظفون تلك القدرة على التكيف الكامنة في أعماقهم، بشكل أو بآخر.
والتكيف هنا غير التحايل. غير أن الأمر برمته ليس مطلقا، لأن التكيف مع واقع فاسد عفن ليس صحيا، وحينما تفوق الالتباسات التصورات المحددة سلفا، تصبح تجربة العيش والتكيف والصراع، تعني، ربما، العيش على حد السكين، وتعني أيضا ـ الحفاظ ـ قدر الإمكان ـ على توازن وثبات الحالة الشعورية المركزية في نفس الإنسان.
إن التكيف أو توظيف المشاعر السلبية لا يعني تكيفا مع العالم الخارجي فحسب، ولا يعني التعامل معه ـ هكذا ـ كيفما اتفق لكنه يعني توطيد وتأكيد تلك العلاقة الجدلية بين القوى الكاملة والعميقة، وبين الدوافع السامية والانا الأعلى بما يمثله من الضمير والأخلاق. إن الألم النفسي الذي يؤدي بدورة إلى" فعل اكتئابي"، وهو ليس مطابقا لـ" رد الفعل الاكتئابي" كحالة شعورية.
أما المثقف الموظف، المنافق، الذي لا يهتم إلا بما يهم سادته، وهو إذا ما افترضنا أنه ـ مثقف ـ بالمعنى الحق للكلمة، أي انه ليس مجرد كاتب شاحب الموهبة، أو مجرد شبه مثقف عديم الرؤية، لا يتمكن من أن يكون موسوعي النظرة، وهو يدرك ذلك بطبعه وفطرته وثقافته المحدودة يدرك أنه يملك قلما رديئا، وأنه يستدعي ويستثمر نصف الحقيقة فتتشوه وتبدو كذبا، إنه ذلك المثقف الموظف لا يحدثنا أبدا عن النصف الغائب من تلك الحقيقة.
إن هؤلاء الكتبة الموظفين يستمدون قيمتهم من محاولة وضع الإطار للصورة. صورة المهم الثري، السياسي، صاحب الجاه والسلطان من خلال تفخيمه وتتويجه، وهم يدركون خلال عمليه التأطير تلك أن هؤلاء الذين يدافعون عنهم ـ هم بلا قضية ـ وهو مثلهم لهم وعيهم المحدود، وهنا يكمن كرههم للمثقف المبدع المرهف الحس، فينعتونه بأقذع الشتائم والصفات، بل ويسعون جاهدين للإيقاع به حتى يسجن أو ينفى، ويبتعد عن الحياة العامة فلا يؤثر فيها، وقد لا يكفيهم سجنه معنويا وحسيا، بمعنى خنقه داخل كبسولة الاكتئاب الحضاري الثقافي ـ إن صح التعبير ـ وإبعاده قدر الإمكان عن الساحة؛
بمعنى نفيه وخنق صوته، غير أن هذا يجعل الساحة خالية، مهجورة من الفرسان جدباء، يتهادى على صهوة حميرها رجال جوف، بلا معنى يبارزون الهواء دون نبع ماء ولا واحة خضراء ولا حتى دراسة تبدو في الأفق، تهتم بهم وهنا يعتريهم ما يمكن أن نصطلح عليه بـ" اكتئاب الموظف " ـ أي اكتئاب الكذب والتحايل الأصم المجدب الفارغ المحتوى، والمثقف الموظف هنا في مأساة، فهو يدرك بحسه الفقير أن ما حوله هو هيصة وسيرك.
وأن قبضته لا تملك سوى الريح، وأنه في علاقته مع من يتملقهم ويوظفونه، هو بلا معنى، خادم محترم، أنه ليس عبدا مملوكا يمكن أن يثور ويتحرر، لكنه خادم بمحض إرادته يهوى ويسكن بلاط السلطان، أياً كان ذلك السلطان:جاه،سلطة، مال، نفوذ.... وهو من خضم هذا الإحساس القاسي يعاني وينظر بعين الحسد إلى المثقف المبدع في تطوره ومحاولاته للانسجام والفقر فوق الأسوار في ثباته، واكتئابه الشريف الراقي والنظيف.
من كل هذا تنبع المأساة، وتتضخم وتتضمخ بعطر وسخ أحيانا، وزفر أحيانا أخرى، فقطبي الصراع المكتئبين يصبون في حقل سياسي واحد، غير قادر على التمييز وهم هؤلاء الموظفين الكتبة في اكتئابهم ذلك، يفرزهم المجتمع دوما، يروجون لفكر لا يقل شراسة عن فعل وفكر العنف الدموي المدمر الموجه للأبرياء وقليلي الحيلة. والذين لا يحملون أي تصور أو منهج سياسي غير استعارة الدين والتراث وتحميلها بما يمكن به استمالة الجماهير والقفز على السلطة.
إن تخلف المثقف الموظف واكتئابه يربى مع أجيال وأبناء ويبني من فتات نفسه المشتتة مؤسساته الكابية الكئيبة، متكئا في صراعه مع المثقف المبدع على سياسة فقيرة لا تتمكن من الإبداع والتطور تفتقر إلى التفكير العلمي المنهجي الصحيح، فتصبح الساحة الثقافية والفنية حلبة صراع غير شريف، قد تنبت من شقوقه زنبقة أو أكثر، لا غير.
إن المثقف الذي يجلس علي المقهى (محفلط مزفلط كثير الكلام) على حد تعبير أحمد فؤاد نجم ليس بالضرورة أكثر عرضة للاكتئاب من فلاح حساس متوتر من أجل المحصول. كذلك فإن المثقف الجالس على مكتب في جريدة أو مؤسسة يراجع ويطالع في ملل ليس بالضرورة أن يكون أكثر إكتئاباً من عامل مهموم بلقمة العيش وتزويج البنات. وأيضاً فإن المثقف ـ الحالة ـ العاشق، المبدع، الحر، العبثي ليس بالضرورة أن يكون أكثر عرضة للإكتئاب من بنت مراهقة هجرها ابن الجيران فجأة أو زوجة تركها زوجها وسافر إلي الخارج؛ففقدت الحضن والحب والظل والونس. إن كل الأمور في مجال الإصابة بالاضطراب النفسي تحديداً الإضطرابات الوجدانية لا يمكن قياسها باهتمام الفرد الإنسان ولا بنوعية عمله.
إن الإكتئاب مثله مثل فيروس الأنفلونزا يصيب الكهل والطفل، عالم النفس وعالم الدين، رجل الشارع وسيدة القصر ليس هناك من يصده وليس هناك ضمان لعدم غزوه، وليس هناك تصور لوجوده فهو قد يكون جاثماً على الصدر كالكلب كما قال تشرشل وقد يكون ساكناً البيت كالفيل ولا يراه أحد.
من ناحية أخرى فإن ما يسمي بتقلبات المزاج الدورية الثنائية المتراوحة بين الإكتئاب والانبساط أو في أشد صورها هوس الاكتئاب الدوري أو (اضطراب الوجدان ثنائي القطبين) يصيب من لديهم استعداد وراثي أساساً لحالتين من النشاط أو البهجة والكآبة والقتامة. من ناحية أخري. ليس بالضرورة أن تنتاب المثقف حالات وجدانية بعينها لكي يأتينا بثمراته لكن قد يكون على قدر كبير من الثبات مثلما الحال مع كاتبنا نجيب محفوظ غير أن كتاباته هندسية ومنظمة لا تحمل ذلك النزق الذي حملته أعمال وشخصية يوسف إدريس.
يكاد الأمر ينطبق على حال العلماء فنجد أن رجلاً مثل أحمد زويل تماثل جهده إبداعاً علمياً متوازناً مع نفسه وشخصيته ولا نجد أو نري اضطراباً بينما أن جون ناش الحائز أيضاً على جائزة نوبل في الرياضيات والمؤسس لنظريات غاية في الأهمية عن اقتصاد السوق والتعاملات المالية العالمية كان مصاباً بفصام العقل المعروف بــ (الشيزوفرينيا)، والذي صوره ببراعة فيلم (عقل جميل A Beautiful Mind).
خلاصة القول أن الحالة الإبداعية والحالة الثقافية ليس بالضرورة أن تكون مرتبطة بدورات مزاجية أو نوبات انفعالية كما أن الإبداع الأدبي والعلمي يرتبط بشؤون ومؤثرات بيئية بيولوجية اجتماعية وسياسية عامة.
وقد يكون أحد رجال القرية لابساً جلبابه وعمته،جالسا على مصطبته، أو على شط الترعة، أكثر في ثقافته المباشرة، وأغنى في حكمته من مثقف مزوّق معلقا على جبهته يافطة تقول أنه (والله العظيم) مثقف!! وأنه يرتاد (الجيون)، يحتسي الجعة ويأكل الترمس ويدمن السهر ويغوى النسوان، ولا ننسى أيضا أن أحدا لا يستطيع التنبؤ بانتشار المرض النفسي في أي مكان أو زمان، اكتئابا كان أو اضطرابات أخرى. وقديما قالوا أن أدغال أفريقيا ـ مثلا ـ تخلو من الأمراض النفسية، فكان الرد (ابن مستشفى نفسي ـ افتح عيادة نفسية ـ قدم خدمات ومشورات نفسية ـ ولسوف ترى)؟؟.
الاكتئاب مرة أخيرة هو ذلك الاضطراب الوجداني العميق، ليس قصرا على المثقفين، لقد طال الفلاحين في بيوتهم وحقولهم، وأماكن هجرتهم المحلية والخليجية.
في جنوب إنجلترا تحديدا لوحظ في دراسة لعالم الطب الني (سنسبري) أن الفلاحين الإنجليز (السعداء ـ المحسودين)، في بيوتهم (فللهم) الأنيقة الرائعة، أمام مزارعهم الأوروبية الخلابةـ دون سابق إنذار أو شطوى لطبيب الأسرة أو للطبيب النفسي ـ ينتحرون فجأة ـ بإطلاق الرصاص من فوهتي بنادقهم العتيقة الشهيرة، بإطلاق الرصاص مكتوما كالاكتئاب داخل أفواههم ليمر إلى المخ، يقضي عليهم مباشرة في مشاهد سينمائية تراجيدية ملطخة بالدماء.
خلاصة القول أن المثقفين ليسوا أكثر تعاسة، إنهم أكثر استمتاعا بالحياة ورصدا لها، وإذا لاحت لهم تشوهاتها أثرت فيهم سلبا، وهم قادرون على صدّ الكلب الجاثم على الوجه والصدر، والخروج من عباءة الاكتئاب، وفرش ملاءة البهجة والمتعة والإبداع الذي لا يرتبط بالجنون.
اقرأ أيضاً على مجانين:
الخــوف مــن الحميميــة..... لمــاذا؟! / الإدمـان... نحـو استراتيجيــة اجتماعيــة جديــدة / خيانـة المثقفين سيكولوجيـة خاصـة / هل الغبـاء مـرض وراثـي؟.