لعبة الكرة واللعب بالأوطان (سيكولوجيا نفسية اجتماعية)
عندما يشاهد الغرب هذا الذي يحدث بيننا بسبب مقابلة رياضية هي أبعد ما تكون عن الرياضة، سيرتاح كثيرا ويصرح منظروه أن لا خوف من العرب أبدا -على الأقل لحد الآن-، فما زالت فيروسات العصبية والفكر القطيعي والعاطفية... وأدواء أخرى، كلها مازالت سارية المفعول..
ولعلهم سينامون على الجانب الأيمن ويرددون كلام القرآن "........وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً" (الأحزاب:25)، كلام جاء أصلا في حق مؤمنين حقيقيين، فأين هم الآن؟
ماذا تريد الدول العربية من هذا التاريخ أن يسجل عليها؟ بل للصواب ماذا يريد حكامها الذين هم الشعب والوطن والممتلكات والآمال والتطلعات...؟ نعم هذه الاتوقراطية وما أوصلتنا إليه؛ الشعوب رهائن حكامها. وما يريدون سوى مزيدا من الاستمرار، لا أقل ولا أكثر.
إلهاء الشعوب في أمور جانبية لكسب الوقت ولتجاهل الأزمات الحقيقية هي من السياسات الموصى بها للحكام تجاه شعوبها منذ القدم.
حكام الجزائر قبل أن يحشروا أنوفهم في مخدر الجماهير –كرة القدم- افتعلوا نزاعا مع جارهم المغرب وأيدوا انفصالا ضده مساهمين في محاولة تجزيء شعب عربي جار مسلم؛ فيما الدول كافة تسعى للوحدة والتكتلات هم يؤيدون الانفصال بداعي التحرر-الأمر يستمر حوالي ثلاثة عقود-
لا يتعجب المصريون ولا يندهشوا أن يلقوا كل هذا العنف والاعتداء من طرف جمهور مشحون، لا يعرف عن الرياضة شيئا بله عن أخلاقها، ولا يعرف سبب مجيئه إلى مباراة كرة القدم-الطائرات العسكرية كانت جاهزة في مهمة لشحن الجماهير والذهاب بها كأنها في مهمة حربية ضد العدو---هيهات هيهات...
ثم كان المشهد الإعلامي صارخا بكل ألوان الإثارة والتهييج والتحريض والنذالة الصحفية الممثلة في التحقير والازدراء والتصنيف وكأننا في حرب حقيقية تريد هزم العدو نفسانيا والقضاء عليه قضاء تاما..
ما معنى أن ينعت بلد ببلد المليون راقصة، وأن يتم تخوينه وتصنيفه جنبا إلى جنب مع الصهاينة المعتدين.. لقد ظهر انحطاط الإعلام وتنازله عن قيمه المهنية بل ومبادئ أمته المتمثلة في روابط الوحدة العربية الإسلامية.
بعد ذلك كانت الاحتفالات تليق باستقلال دولة أو تحرير لأرض مقدسة. صحفيو البلد المنتصر كانوا في حالة من الهستيريا والانتشاء والجنون حدا لا يوصف ويقارن...
للجانب المصري نصيب أيضا من تهويل اللعبة وتضخيم أهميتها. الساسة والإعلاميون كانوا متألقين وفي الواجهة.
بعد اضطرابات الشغب في الخرطوم في إقصائيات من نهائيات كأس العالم زاد الأمر تفاقما، وأهدر الإعلام آلاف الساعات في التباكي والتنديد والتحقير وإعلان الولاء لقادة البلاد الذين نصروا المشجعين!
ما بين الفرحة المفرطة إلى حد الهستيريا والأسى على فقدان مقعد في إقصائيات كأس العالم، يلوح لنا مقياس الحالة الاجتماعية العربية هابطا إلى الأسفل، الشخصية العربية في مأزق: الحكام يلعبون لعبة الغوغاء، وبعض النخب من فنانين ومثقفين وإعلاميين يراهنون على اللعبة دائما قصد مزيد من الظهور والحضور؛ فيما أمثالهم من الفنانين السوريين في زيارة إلى غزة المحاصرة تضامنا مع أهلها، وشتان بين الفريقين!
للتفسير، لنقل أن الطبيعة تكره الفراغ لتقريب الصورة من القراء، والمعنى أن الجماهير المقهورة المخنوقة وجدت لها متنفسا في هذه الكرة للتعبير عن ضيقها وحنقها وغضبها وخيبتها، ففي الانتصار والتأهل، إنجاز خيالي رمزي قد يعوض ولو مؤقتا عن هزم العدو واستعادة الأرض والعرض، فيما العدو الافتراضي موجود، الجمهور المصري أو الجزائري -عدو هذا الطرف أو ذاك- للتنفيس وإخراج شحنة الغضب والخيبات المتتالية.
وللأسف والحسرة البالغة، بعض النخب المفترضة لعبت الدور جيدا، وكأنها كانت هي أيضا تبحث عن دور لها على مسرح الحياة، كلُُّ تماهي بحاكمه وكال له المديح والثناء وكأنه حقق إنجازا تاريخيا غير مسبوق؛ وكل هذا يدخل في علم النفس باسم التبرير والتحويل والإسقاط وإيجاد الأعذار والتفسيرات.
وكل الأسف أيضا على النخب الصامتة التي تخاف إغضاب الآخر.المسؤولية تاريخية لا تقبل لا المهادنة ولا التسويف.
لعل مواطن الخلل الآن بادية للعيان في النسيج الاجتماعي العربي، وليست مجرد هذه اللغة التي بها تمت الاستعاضة عن الأولويات في حياة المجتمعات العربية وحدها الإنذار الوحيد، فبرغم أن الذي يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأننا أمة مصنوعة صنعت صنعا، حقيقية بمعنى الكلمة، فهناك من حاول إيجاد الثغرات وإيقاظ النعرات لزعزعة هذا الكيان الإنساني الموحد الفريد،، بدئا من محاولة تمزيق اللغة الجامدة عبر إيجاد بدائل ولهجات منافسة، إلى إثارة الرغبات الانفصالية وتشتيت البلد الواحد؛ وما حدث بين البلدين مصر والجزائر يعد بمثابة إنذار يعد بالأسوأ الذي قد يأتي؛
إنذار بأن هذه الأمة الكبرى قد يكون أبناؤها مصدرا لهشاشتها وخلخلتها من الداخل، وأنه قد آن الأوان للعلماء وللمفكرين أن يبنوا مخططات لردود أفعال فعالة وطويلة الأمد، فالمعركة ليست بالقصيرة ولا بالمؤقتة، والفكر وحده وبناء العقل العربي هو السبيل للخروج من هذا النفق المظلم....
واقرأ أيضاً:
هزمنا جميعا قبل أن تبدأ المباراة/ مصر كلها الآن ترقص كيف الجزائر؟/ قبل أن يختلط الحابل بالنابل مشاركة/ مصر كلها الآن محبطة كيف الجزائر؟/ لا مصر ولا الجزائر يستحقان...