شيخوخة الضمير
(قراءة في تقرير: الأطر الأخلاقية الحاكمة لسلوك المصريين)
فجر الضمير:
لم يكن جيمس هنري بريستيد (صاحب كتاب فجر الضمير) يتخيل أن المصري سينتقل هذه النقلة من صانع مبكر للضمير الإنساني (منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد) إلى ذلك الإنسان الذي عكس تركيبته القيمية تقرير صريح وشجاع وصادم (في آن) يصف الخريطة القيمية الأحدث في حياة المصري 2009 م. فقد عرف بريستيد أن المصري القديم كان لديه استشعارا خلقيا دقيقا ويقظا وحساسا يجعله يستحسن الحسن ويستقبح القبيح، وقد أورد هذه الصفة في كتابه على لسان شاعر مصري قديم فيما يعرف باسم "أغنية الضارب على العود" (فجر الضمير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999 م، صفحة 184-186)، فمثلا حين ينظر المصري القديم إلى أخطائه فيستنكرها في مقطع بعنوان "إن اسمي ممقوت":
انظر إن اسمي ممقوت، أكثر من رائحة الطير في أيام الصيف عندما تكون السماء حارة
انظر إن اسمي ممقوت أكثر من مقت مصايد السمك في يوم صيد تكون فيه السماء حارة
انظر إن اسمي ممقوت أكثر من رائحة الطيور فوق تل الصفصاف المملوء بالأوز
انظر إن اسمي ممقوت أكثر من رائحة الصيادين على شواطئ المستنقعات بعد الصيد
ثم حين يرى فساد الناس ويستنكره بنفس اليقظة والشجاعة يقول:
لمن أتكلم اليوم؟ فالرجل المهذب يهلك والصفيق الوجه يذهب في كل مكان
لمن أتكلم اليوم؟ فإن سمح الوجه قد صار بائسا وصار الخيّر لا يحفل به في أي مكان
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الذي كان يظن أنه يثير الغضب بأخلاقه الشريرة، يسر منه الناس جميعا رغم أن خطيئته فظيعة
لمن أتكلم اليوم. فإن الناس يسرقون، وكل إنسان يغتصب متاع جاره
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الخائن صار أمينا، ولكن الأخ الذي يأتي بها (يعني الأمانة) يصير عدوا
لمن أتكلم اليوم؟ لا يوجد رجل عادل
وقد تركت الأرض لأولئك الذين يرتكبون الظلم
توحي كلمات الشاعر المصري القديم باستنكار لتغير المنظومة القيمية للمصريين في العهد الإقطاعي 2000 سنة ق.م ، وتوحي بأنه كان ثمة منظومة قيمية أرقى عاشها الشاعر أو سمع أو قرأ عنها ويقيس عليها ما يراه في عهده الذي تحكم فيه أصحاب الثروة والسلطة (الإقطاعيون والحكام) في كل شيء فأفسدوا على الناس حياتهم وقيمهم.
وإذا عدنا من خلال كتاب فجر الضمير إلى ذلك القانون الأخلاقي قبل الفترة التي عاشها وعانى منها الشاعر سنجد فخرا واهتماما وتمسكا بالأخلاق الحسنة كالصدق والأمانة وحب الآخرين ورعاية الوالدين والإحسان إلى الجار والعناية بالضعيف والحفاظ على نظافة مياه النيل والعمل الجاد والصبر والرضى والعدل والمساواة والرحمة والتسامح.
من فجر الضمير إلى عصر التقرير:
لا يملك أي منصف إلا أن يشكر الذين ساهموا في صدور هذا التقرير الهام بهذه الدرجة من المصداقية والموضوعية على الرغم مما قد يواجهوه من متاعب بسبب صراحة التقرير وخطورته ودلالاته، وهذا أمر يحسب لوزارة التنمية الإدارية ووزيرها الشاب أحمد درويش وللفريق البحثي المتميز الذي قاده عالم أكاديمي محايد وموضوعي هو الأستاذ الدكتور أحمد زايد العميد السابق لكلية الآداب جامعة القاهرة وفريق البحث الذي عمل معه.
والبحث العلمي لأي ظاهرة يبدأ بالملاحظة الفردية أو الجماعية، وهذه الملاحظة تولد انطباعات معينة يتم اختبارها من خلال استخدام أدوات موضوعية للبحث تطبق على عينة ممن يراد دراسة الظاهرة فيهم، وحين يتم الحصول على أرقام يتم معالجتها إحصائيا للوقوف على مدى أهميتها ودلالاتها الإحصائية.
كل هذا قد تم وخرجت لنا بيانات وأرقام تحولت إلى معلومات عن سلوك المصريين وآرائهم واتجاهاتهم، وبقي جزء هام وهو التعامل مع تلك المعلومات والاستفادة منها في التخطيط السياسي والاجتماعي والثقافي والديني بهدف الارتقاء بهذا المجتمع وليس بهدف معايرته بنقائصه وآفاته أو التشفي في أحد بسبب تلك النتائج فالجميع يتحملون نتائج ما ظهر في هذا التقرير حكاما ومحكومين.
وتكمن أهمية هذا التقرير في التالي:
1 – أنه صدر عن هيئة حكومية هي وزارة التنمية الإدارية، وليس عن جهة معارضة يمكن أن يتهمها أحد بمحاولة تشويه الواقع لصالح قوى بعينها.
2 – أنه أول دراسة موضوعية –على حد علمي– ترصد التغيرات في قيم المصريين بهذا الشمول وبهذه الشجاعة
3 – أنه اخترق حاجز استطلاعات الرأي، تلك الاستطلاعات التي يصعب إجراءها لأسباب سياسية وأمنية عديدة.
4 – أنه غطى ثلاث محافظات مصرية وشمل 2000 شخص من مختلف المستويات، وهذا يعطيه مصداقية علمية معقولة ويسمح بتعميم نتائجه.
5 – أنه يعكس بالأرقام ما كان يبديه المفكرون والمصلحون من ملاحظات حول تغير سلوك المصريين في السنوات الأخيرة وتدهور ميزان القيم بدرجة ملفتة للنظر، وكان يرد عيهم أصحاب المصالح بأنهم يبالغون في التشاؤم وأن الشعب المصري مازال بخير وأن الرشوة والمحسوبية والجريمة والكذب هي آفات موجودة في كل المجتمعات منذ خلق الله البشر.
6 – أن هذا التقرير طبقا لما صرح به الأستاذ محمد ناصر فؤاد –المتحدث باسم وزير التنمية الإدارية- يمثل جميع أنماط المجتمع "الأمي والمتعلم، الريف والحضر والشباب من سن 18 سنة إلى 34 سنة" وتلك العينة خضعت للبحث العلمي المنهجي الوارد لنسبة خطأ 2% إلى 3% وهى النسبة المسموح بها في الأبحاث العلمية.
7 – أنه في حالة أخذه على محمل الجد – يجب أن يشكل ضوءا أحمر نتوقف عنده جميعا ونجري مراجعة شاملة لكل جوانب حياتنا ونبحث عن الأسباب التي أودت بنا إلى هذا المنحدر القيمي الخطير الذي يهدد حياتنا ومستقبلنا.
8 – أنه وضع رأي الناس في الاعتبار وهذا متغير إيجابي جديد في المسلك الرسمي الذي ظل سنوات طويلة لا يعطي لرأي الناس وزنا.
9 – أنه يعطي القدوة لبقية المجتمعات العربية حولنا أن تواجه ظواهرها وآفاتها الاجتماعية بنفس الشجاعة.
خريطة القيم لدى المصريين (طبقا لنتائج الدراسة مع الاختصار):
كانت الدراسة (تحت عنوان: الأطر الأخلاقية الحاكمة لسلوك المصريين) التي أصدرتها وزارة التنمية الإدارية بتاريخ 12\10\2009 م تتحسس قيم الوضوح والنزاهة والشفافية والصدق والفساد لدى المصريين كما تتحسس رأي الناس في الأداء الحكومي، وفيما يلي نستعرض بعض نتائجها:
كشفت الدراسة عن وجود إحساس مرتفع بالظلم داخل المجتمع المصري، وهو ما أكده ما يقرب من نصف العينة بنسبة ٤٩.٧٪ وصفوا أنفسهم أن «حقهم مهضوم»، كان أكثرهم من أهل الريف بنسبة ٥٠.٢٪، كما أوضحت النتائج أن هناك ٤٦.٤٪ من أفراد العينة تعرضوا للظلم، كان المسؤول عنه بنسبة ٣٢.٧٪ أحد المسؤولين الحكوميين.
وحول أسباب التغيير في المنظومة الأخلاقية في المجتمع المصري، رجح أغلب أفراد العينة أن المشكلات الاقتصادية التي تعيشها مصر الآن من الأسباب القوية لتغير أخلاق الناس، وأكد ٨٠.٥٪ من العينة أن الأزمة الاقتصادية أحد هذه الأسباب، بينما جاء ضعف الوازع الديني في المرتبة الثانية بنسبة ٢٦.٣٪، يليه التفكك الأسرى.
وأظهرت الدراسة أن ٤٩.٦٪ من العينة لا يثقون في الحكومة نتيجة عدم وفائها بالتزاماتها، وعدم اهتمامها بالفقراء وانحيازها إلى رجال الأعمال وعدم تصديها للفساد، بينما يرى ٦١٪ أن أفعال الحكومة لا تشجع على الثقة فيها، وأكد ٧٨٪ أن التصريحات الحكومية تتنافى مع القرارات والأفعال، ودللوا على ذلك بارتفاع نسبة الفقر والفشل في مواجهة البطالة وعدم مصداقية وسائل الإعلام الحكومية.
وكشف ٨٧.٤٪ من العينة عن سيطرة الواسطة والمحسوبية خلال السنوات الخمس الأخيرة وقال ٨٩.٧٪ إنهم لا يستطيعون قضاء مصالحهم بدون اللجوء إلى الواسطة، وأكد ٤٢.١٪ استخدامهم الواسطة لحل مشكلاتهم مع الأجهزة الحكومية وأن ٢٦.٤٪ دفعوا رشاوى لإنهاء مصالح حكومية، وأبدى ١٣.٩٪ قناعتهم بضرورة دفع رشاوى . ويرى ٥٥.٨٪ أن أكثر الأماكن التي تستخدم الواسطة هي أقسام الشرطة والمرور والضرائب، فيما جاءت الهيئة القضائية في المرتبة الأخيرة بنسبة ٥.١٪.
وعلى الرغم من كل النتائج السابقة وظلالها السلبية اتفق غالبية المشاركين في الدراسة على نقد الظلم والفساد، والتأكيد على الروابط الوطنية ورفض التمييز على أساس ديني ٩٢.٨٪.
كما أشارت الدراسة إلى رفض السلوكيات الخاطئة التي تمثل عدم الاتساق والتناقض.
وحددت الدراسة ٤ قيم أساسية لقياس مدى انتشار الشفافية في المجتمع المصري، جاءت قيمة المسؤولية في مقدمتها، تلتها قيم الوضوح والصدق والثقة، كما فرقت بين وجود تلك القيم لدى المواطنين، وضرورة وجودها لدى الحكومات والدول بشكل مباشر، أوضحت الدراسة أن توافر قيم الوضوح والصدق والثقة عند الشعوب يعطى أرضا خصبة لنموها وانتشارها، أو على الأقل المطالبة بها من قبل المواطنين.
أظهرت نتائج الدراسة اختفاء قيمة الوضوح لدى ٨٠٪ تقريبا من عينة البحث، وكانت أسرار الأسرة في مقدمة الأشياء التي لا يفصح عنها أبدا بنسبة ٩٣.٤٪، بينما احتلت أسرار العمل المرتبة الثانية بفارق كبير، وأكد ٣٣٪ من العينة حرصهم على عدم الإفصاح عن أسرار العمل.
وكشفت الدراسة عن اتجاه المصريين للغموض وعدم الإفصاح في الأمور المتعلقة بالمكسب والخسارة في عالم المال، كما أكد ٧٨٪ من عينة الدراسة عدم ميلهم للإفصاح عن عيوبهم أمام الآخرين، وهو ما اعتبرته الدراسة مؤشراً لعدم الثقة في الآخرين بسبب استغلالهم لجوانب النقص ضد مصلحة الشخص.
اللافت أن نسبة المصارحة كانت أعلى لدى الريفيين، بينما انخفضت بين الحضريين إلى ٢٠٪، كما ارتفعت في الذكور عن الإناث بفارق ١٠٪ تقريباً، وأكدت الدراسة أن القدرة على المصارحة والوضوح تنخفض بشكل عكسي مع ارتفاع مستوى التعليم، وبلغت أعلى معدلاتها بنسبة ٢٤٪ عند الأميين، وانخفضت إلى ١٩٪ عند الذين تلقوا تعليما أعلى من الثانوي.
ورغم تفضيل عينة البحث عدم الإفصاح بشكل عام إلا أن الدراسة كشفت تراجع هذا التفضيل في حالة طلب الجهات الحكومية للبيانات، وخصوصا عن الأسرة، وأبدى ٩٤٪ من العينة استعدادهم للإدلاء ببياناتهم كاملة، وهو ما عكس وجود حالة من التناقض بين تفضيل الإفصاح وتفضيل الغموض، فيما يتعلق بأسرار الأسرة، والخضوع لحالة الإفصاح الإجباري، إلا أن السرية المتعلقة بالوضع المالي ظلت محتفظة بمكانتها، وحصلت على أولوية عدم الإفصاح في حالة طلب الجهات الحكومية البيانات السرية المتعلقة بالأسرة.
وأشارت البيانات إلى ميل غالبية عينة الدراسة بنسبة ٧٣٪ إلى نصح زميل العمل في حالة إفشائه الأسرار، بينما يفضل ١٩٪ إبلاغ الرؤساء، وجاءت نسبة سكان الحضر أعلى في حالة إبلاغ الرئيس عن سكان الريف.
وعن رؤية المصريين حول مدى وضوح المسؤولين الحكوميين، أشارت عينة الدراسة إلى عدم الثقة في تصريحات المسؤولين الحكوميين، حيث أكد ٤٣٪ منهم أن المسؤولين لا يتحدثون بصراحة، كما رأى ١٥.٥٪ أنهم بعيدون تماماً عن الصراحة في أحاديثهم وتصريحاتهم.
وجاءت المعلومات الاقتصادية على رأس البيانات التي تخفيها الحكومة بنسبة ٥٢٪، يليها البيانات المتعلقة بالفساد بنسبة ٤٥٪، ثم البيانات المتعلقة بالأزمات والكوارث، كما كشفت الدراسة عن وجود بعض المعوقات الثقافية لدى المواطنين في التعامل مع الحكومة الإلكترونية، وأشارت البيانات إلى أن ما يقرب من ثلثي العينة يفضلون استخراج وثائقهم الرسمية بالتعامل المباشر الذي يعطى قدراً من الاطمئنان للمواطنين.
وأشارت الدراسة إلى ارتباط الارتفاع في المستوى التعليمي بتراجع مجموعة من القيم، أثبتت أن نسبة الذين يضطرون إلى الكذب بين المتعلمين، تصل إلى ٦٥٪، بينما تبلغ بين الأميين ٤١٪ (وهذا يضع علامة استفهام كبيرة حول نوعية التعليم الحالي وجدواه وآثاره السلبية)، كما ترتفع هذه النسبة حسب انخفاض فئة العمر، حيث تبلغ ٥٧٪ بين الشباب، وتنخفض إلى ٤٧٪ بين من هم أكبر من ٥٤ سنة.
وأرجعت الدراسة أسباب الاضطرار لعدم قول الحقيقة إلى تجنب المشاكل، أو سعياً للأمان، وأكد ذلك وجود ١٦٪ فقط من عينة الدراسة يتعاملون بصدق مع الآخرين، بينما يلجأ ٧١٪ منهم إلى الكذب.
كما برر أكثر من ثلثي العينة موقفهم السلبي من الصدق بأنه بسبب مشكلات ويكون ضارا أحيانا، وجاءت مشكلة فقدان العلاقات الاجتماعية مع الآخرين في مقدمة هذه المشكلات بنسبة ٨١٪، واعتبرت الدراسة ذلك إشارة إلى أن المجتمع لا يرحب بالصدق.
وعن قيمة المشاركة كشفت البيانات أن غالبية المصريين يرون أن الناس تتباعد عن بعضها وعن العمل الجماعي، وبلغت النسبة الأكبر ممن يؤكدون ذلك بين الريفيين بنسبة ٧٣٪، وبين الشباب بنسبة ٨٢٪، إلا أن المفارقة كانت أن ٧٦.٤٪ من عينية الدراسة أكدوا أنهم يفضلون العمل ضمن فريق.
وانتقدت عينة البحث طريقة عمل المسؤولين الحكوميين، فاعتبر ٦٨.٧٪ منهم أن كل مسؤول يعمل بمفرده، وأن المسؤولين لا يشكلون فريقا يعمل لتحقيق هدف متفق عليه، كما أوضحت الدراسة أن المصريين يقدرون العمل كفريق في حالة المطالبة بالحقوق، حيث يفضل ٧٠٪ المطالبة بحقوقهم مع آخرين لهم نفس الحق.
وفى محاولة لقياس حجم المشاركة من خلال العضوية في مؤسسات المجتمع، أظهرت الدراسة أن عضوية الأندية بين الحضريين تبلغ ٤ أضعاف العضوية بين الريفيين، أما عضوية الأحزاب فتزداد بين الريفيين، كما تنخفض بين الشباب بشكل ملحوظ ، وتصل بين الذكور ٦ أضعافها بين الإناث.
وعن رؤية المصريين للمشاركة الانتخابية جاءت نسبة ٨٠.٥٪ من عينة الدراسة، لتؤكد ضرورة مشاركة المواطنين في الانتخابات مقابل ١٣٪ فقط يرون أن المشاركة غير ضرورية، وهو ما اعتبرته الدراسة متناقضاً مع السلوك التصويتي في الانتخابات في مصر، واعتبرتها الدراسة نتيجة إيجابية للإصلاحات السياسية التي أجرتها الدولة في الفترة الأخيرة، وعلى رأسها اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب.
وفسر ٦٣٪ من الذين يرون أن هناك انخفاضاً في مشاركة المصريين في الانتخابات - موقفهم بسببين رئيسيين، أحدهما عدم مصداقية الحكومة وأرجع ٥٣.٤٪ عدم مشاركتهم إلى تزوير الانتخابات، بينما يرى ٩٪ هذا التراجع لضعف الأحزاب السياسية في مصر.
وفيما احتلت قيمة الثقة أهمية خاصة بين مجموعة القيم الحاكمة للشفافية، أكدت البيانات أن غالبية عينة الدراسة يرون أن الثقة انخفضت خلال السنوات الخمس الماضية، وأرجعوا أسباب ذلك إلى الاهتمام بالمصلحة الشخصية أو فقدان الضمير، أو غياب الصدق وانتشار النفاق وفقدان الوازع الديني.
واحتل الأقارب المرتبة الأولى بين الجماعات التي تتمتع بثقة المصريين بنسبة ٨٣٪، يليهم بفارق كبير الأصدقاء بنسبة ٢٧٪، ثم الجيران بنسبة ١٨.٤٪، كما جاء المسؤولون الحكوميون في مقدمة من يشك فيهم المصريون بنسبة ٤٨٪، يليهم السياسيون بنسبة ٣٣٪، وتناولت الدراسة إنجازات الحكومة، وجاءت الطرق والكباري والأنفاق كأهم الإنجازات التي تحققت في مصر خلال الـ١٠ سنوات الماضية، يليها إنشاء مستشفى سرطان الأطفال بنسبة ٣٧.٨٪ وتحسين البنية الصحية بنسبة ٢٦.١٪، و١٩٪ اعتبروا أن هناك تطويراً في التعليم كأحد الإنجازات، بينما رفض ١٧٪ من أفراد العينة وجود أي إنجازات.
وعلى غير الطبيعي، أثبتت الدراسة أن التعليم في مصر ساهم في دعم القيم السلبية المؤدية إلى الفساد في المجتمع، كان المتعلمون خاصة فئة الحاصلين على مؤهلات عليا، أكثر وضوحاً في التعبير عن انتشار المحسوبية بنسبة ٨٧.٥٪، مقابل ٧٧.٦٪ للأميين، وهو ما اعتبرته الدراسة مؤشراً على أن متغير التعليم أثر سلباً على مؤشرات التعامل مع الفساد في المجتمع.
أوضحت نتائج الدراسة أسباب التناقض بين القول والفعل في سلوك المصريين، وعلى رأسها انتشار الكذب والنفاق، يليه الخوف على المصلحة الشخصية، ثم الفهلوة والكسب السريع، فالخيانة وعكست هذه النتيجة وجود تصورات سلبية في المجتمع المصري بسبب انتشار التناقض بين القول والفعل في السلوكيات، وحصل رجال السياسة والشرطة الذين وصفتهم الدراسة بأنهم أكثر الأفراد نفوذاً في المجتمع والأكثر تأثيراً على حياة الناس، على المرتبة الأولى في التناقض بين القول والفعل، كما تساءلت الدراسة عن احتلال رجال الدين للمرتبة الثالثة في التناقض، في الوقت الذي يفترض فيه أن التدين والإيمان من أكثر الفضائل التي أكد أفراد العينة توافرها في المصريين، وفسرت العينة هذه النتيجة بأن تدين رجال الدين شكلي ومظهري بنسبة ٨٤.٩٪.
وأظهرت الدراسة أن أسباب تفضيل المصريين لاختيار العمل الحكومي ترجع إلى الحصول على راتب كبير يعلى من مكانة الشخص بنسبة ٤٣.٥٪، ويخلق وضعاً محترماً بين الناس بنسبة ٣١.١٪، ووزعت النسب الباقية بين مواعيد العمل المناسبة والإجازات الكثيرة والتكسب منه.
كما أجمع أكثر من نصف العينة على أن أولى المشكلات التي تواجههم في التعامل مع القطاع الحكومي هي الروتين وتعقد الإجراءات البيروقراطية، تليها مشكلة عدم إنجاز معاملاتهم، وسوء معاملة الموظفين، ودفع رسوم غير منطقية، وجاء غياب الموظفين عن العمل في المرتبة الأخيرة.
وعن الفئات الأكثر جدية في المجتمع احتل موظفو الحكومة المرتبة الأخيرة بنسبة ١٥.٩٪، بالتساوي تقريباً مع التجار، وعكست هذه النتيجة ـ حسب الدراسة ـ الصورة السيئة عن الموظف الحكومي في أذهان المصريين، نتيجة معاناتهم مع الجهاز الحكومي، واحتل العمل اليدوي المتمثل في الفلاحين المرتبة الأولى بين الفئات الأكثر جدية في العمل بنسبة ٨١٪، ثم الحرفيون ٦٢.١٪ والعمال ٥٤٪، مما يؤكد سيطرة قيم العمل اليدوي على العمل والإنجاز، رغم التطور الذي يحدث للمجتمع.
وأظهرت الدراسة استمرار انحياز المجتمع إلى الذكور، ويرى ٦٠٪ من العينة أن الذكور أكثر جدية من الإناث في العمل، بشكل يتسق مع نظرة المجتمع الشرقي للمرأة.
حاولت الدراسة في ختام بحثها أن تعرض نظرة عامة للقيم الحاكمة للفساد في المجتمع المصري، فأظهرت النتائج إدراك المصريين لانتشار المحسوبية وزيادتها، وعلى الرغم من ذلك فإنهم يقبلونها في الممارسة الفعلية طالما حققت بعض النفع الشخصي لهم، كما أوضح التحليل أن المصريين يميلون إلى تفضيل المصلحة الشخصية على المصلحة العامة بنسبة كبيرة على الرغم من رفضهم لبعض المواقف التي تواجههم بذلك، وظهر التناقض واضحاً في حديث العينة عن الإنجاز كقيمة مثالية وإيجابية، إلا أنهم أقرنوها بتحقيق بعض المنافع الشخصية.
كما أشارت البيانات إلى أن القيم الحاكمة للفساد بشكل عام تنتشر بشكل مرتفع جداً في المناطق الحضرية أكثر من الريفية، ووضعت الدراسة علامات استفهام حول تعامل المجتمع المصري بعدم اهتمام مع تحول قيمة الإنجاز إلى قيمة سلبية في ظل وجود وانتشار الواسطة والمحسوبية والظلم.
واهتمت الدراسة بإبراز نتيجة مهمة توصلت إليها، أظهرتها النتائج كانت ميل الشباب بشكل لافت إلى الفساد واعتبارهم أكثر فئات المجتمع استخداماً له، وجاءت العينات لتؤكد أن ٩٢.٧٪ من الشباب يلجئون للواسطة في إنهاء مصالحهم و٢٨٪ منهم يدفعون الرشاوى، و٥٣٪ منهم يفضلون المصلحة الخاصة على العامة.
وتبدو أهم الملاحظات التي أظهرتها الدراسة أن الرجال أكثر مقاومة للفساد من الإناث، وأن عينة البحث أكدت أن الرجال كانوا أكثر ميلاً لتغليب المصلحة العامة، بينما تراجعت نسب الإناث المشاركة في القضايا المجتمعية بنسبة ٤٧٪.
واختلفت رؤية الذكور والإناث فيما يتعلق بجدية العمل حيث ترى الإناث أنهن أكثر جدية من الرجال بنسبة ٣١٪ مقابل ٢٠.٥٪ للذكور.
يتبع.................... : شيخوخة الضمير: دلالات النتائج
واقرأ أيضا:
شوية مصريين ماتوا في حادثة وشويه أصيبوا! / الانتماء الهستيري