شيخوخة الضمير
دلالات النتائج
قد ينظر البعض إلى تلك النتائج على أنها مزعجة ومخيفة ومزلزلة وصادمة، وأنها تشير بالأرقام إلى انهيار منظومة القيم في المجتمع وأن أي مجتمع يفقد ضميره يصبح معرضا للانهيار إن آجلا أو عاجلا. وقد يرى البعض الآخر (من المهونين الحكوميين) أننا نتعامل مع بشر وليس مع ملائكة وأن النتائج واقعية في كونها تصف أناس لديهم خليط من القيم السلبية والإيجابية حتى على الرغم من سيادة القيم السلبية وارتفاع وتيرتها.
وقد يقول فريق ثالث بأننا لسنا بدعا من الناس فالفساد قد انتشرت معدلاته ومؤشراته عالميا، وأننا لو طبقنا هذا الاستبيان على مجتمعات أخرى لربما وجدنا نتائج متقاربة، وأننا لكي نجزم بأننا في أزمة يجب أن نقارن تلك النتائج بمجتمعات أخرى لنرى بشكل علمي أين نحن من بقية العالم. هذا سجال نظري قد يحدث وقد يؤدي إلى تمييع القضية وصرف الأنظار عن نتائج تلك الدراسة الهامة لصالح ترسيخ الأمر الواقع والرضا بما هو كائن.
وهنا يجب أن نعود مرة أخرى إلى قراءة الواقع المصري من جوانبه المرئية رأي العين والتي لا تحتاج لدراسات وأبحاث وأرقام وإنما تحتاج لعيون مفتوحة وعقول واعية وقلوب نظيفة لتدرك حجم المعاناة لدى المواطن المصري بسبب الفقر الذي يعيش تحت خطه 44% من المصريين، وذلك التعليم الذي لا ينكر أحد تدهوره، وتلك الخدمات الصحية التي تتراجع يوما بعد يوم، وذلك الوضع السياسي الفريد الذي تجمد مكانه ورفض التغيير.
والأمر لا يحتاج لعمل دراسات مقارنة مع المجتمعات الأخرى بل قد يحتاج فقط لزيارة أي دولة عربية أو أجنبية ليرى الفروق واضحة بين جودة الحياة ومعدلات التنمية وتطور التعليم والصحة.
ومهما اختلفنا في قراءتنا للدراسة إلا أنها تعكس في النهاية خللا في الضمير العام، قد يسميه البعض ثقوبا في الضمير أو يسميه البعض الآخر تهتكا في الضمير أو يسميه فريق ثالث أزمة في الضمير العام، وكل من هذه الدرجات والتسميات تشكل عامل خطورة في حياة أي مجتمع تستدعي الاستنفار والمواجهة قبل فوات الأوان.
كيف يتكون الضمير (الفردي والعام):
لا يعرف أحد أين يوجد الضمير في الإنسان، أهو في دماغه أم عقله أم قلبه أم روحه؟، بل لا يعرف أحد تعريف دقيق له غير أنه: ما تضمره في نفسك ويصعب الوقوف عليه، فهو شيء خفي أشبه برادار يلتقط الإشارات ويصنفها أهي من جانب الخير أم من جانب الشر، أي أنه استعداد نفسي لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار والتفرقة بينها، واستحسان الحسن واستقباح القبيح.
وعلى الرغم من خفاء الضمير واختفائه، إلا أنه قوة إدراكية عظمى في النفس البشرية، تتفحص الأقوال والأفكار والأعمال وتصل إلى جوهرها بعد تجاوز الألوان البراقة والأشكال الخادعة، وقد يحاول الإنسان في ظروف ما أن يخدع ضميره بمبررات أو إيهامات أو إيحاءات كاذبة، وقد ينجح هذا لبعض الوقت، ولكن الضمير ينهض من سقطته ويخرج من كهف عميق في النفس ليعلن الحقيقة ويمارس الوخز المستمر لصاحبه ليوقظه من غفلته ويخرجه من خداعه لنفسه أو لغيره، وهنا قد يضيق الإنسان ذرعا بالضمير، فيحاول قتله نهائيا بالتمادي في الخداع والتقلب في الملذات والولوغ في الموبقات، وقد يموت الضمير فعلا، ولكن يموت معه القلب وتضيع معه بوصلة الاهتداء فيجرى الإنسان بلا وعى أو هدى خلف كل ناعق.
وربما يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قصد الإشارة إلى تلك القدرة الفطرية في داخل النفس والتي تستطيع بشكل غامض التفرقة بين الخير والشر حين تتضارب الفتاوى والأقوال، فقال صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك"، ذلك الميزان الخفي العفي القابع في أعماق النفس يوقظها ويوخزها ويهديها وسط الخطوط المتقاطعة والمتشابكة.
ولكي نعرف كيف يتكون الضمير العام علينا أن نعرف كيف يتكون الضمير الفردي الخاص، ذلك الضمير الذي يبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة ويكون مجرد تقليد للأب والأم في سلوكهما فيتبنى الطفل أوامرهما ويتجنب نواهيهما ويعرف من خلال ذلك ما هو مسموح وما هو ممنوع وما هو مستحسن وما هو مستقبح.
ثم يأتي وقت في الطفولة المتأخرة يستدمج فيه الطفل النظام الأخلاقي للوالدين (أو من يقوم مقامهما) ويصبح هذا النظام جزءا من تكوينه النفسي الذي يضبط سلوكه حتى في غياب الأبوين أو المربين عموما. ولكي ينجح الطفل في استدماج النظام الأخلاقي للوالدين والمربين لابد وأن يكون لديه قدر من الحب والاحترام لهما، وإن لم يوجد هذا القدر فإن احتمالات رفضه لنظامهم الأخلاقي ستكون كبيرة.
وفي المراحل التالية من المراهقة والرشد تتم مراجعة الضمير الموروث المستدمج لإدخال تعديلات عليه أو تغييره أو استبدال بعض عناصره، وإن كانت الكثير من العناصر المستدمجة في طبقات النفس الأعمق تظل رابضة وفاعلة حتى دون وعي صاحبها. إذن فالأسرة هي منبت الضمير، والعلاقة بالوالدين تشكل أهم المؤثرات في تكوينه، وتعكس هذه الحقيقة نقوشا وكتابات وجدت في الآثار القديمة أوردها جيمس هنري بريستيد في كتابه "فجر الضمير" (إني لا أقول كذبا لأني كنت إنسانا محبوبا من والده ممدوحا من والدته حسن السلوك مع أخيه ودودا لأخته)، وأكدتها الأديان.
وعلى المستوى الأوسع في المجتمع يوجد ما يسمى بالضمير العام، وهو مفهوم واسع يتشكل من مجموع الضمائر الفردية، ومن عصارة التراث الديني والثقافي، ومن الدستور والقانون السائدين، ومن الأعراف والتقاليد الاجتماعية، ومن الخبرات الحياتية للمجتمع. هذا الضمير هو ميثاق غير مكتوب ولكنه مدرك بشكل عام، وهو الذي يحدد المستملح والمستقبح من السلوك، والمقبول والمرفوض، والعيب والخطأ والصح، ودواعي الفخر ودواعي الخجل، ومعايير النجاح والبطولة ومعايير الفشل والنذالة.
والضمير العام ليس ملائكيا مطلقا وإنما يغلب عليه المعايير الإيجابية للسلوك لأنه ينتمي إلى الأنا الأعلى في التركيبة النفسية (طبقا للمدرسة التحليلية) وينتمي لذات الوالد (طبقاً لمدرسة التحليل التفاعلاتي لإريك برن) وينتمي للذات المثالية (طبقا لرؤية كارين هورني).
فالضمير العام يميل لأن يكون أخلاقيا ويميل لأن يكون مثاليا، وهو المسئول عن رعاية الثوابت في المجتمعات البشرية ورعاية القيم التي تحافظ على استمرار الحياة الآمنة المستقرة. ولذلك فإن المجتمعات البشرية تسعى للمحافظة عليه ليكون صمام أمان ضد مستويات أدنى في البشر وفي المجتمعات تسعى لأن تزيح هذا الضمير لتفسح المجال أمام نزوات ورغبات أنانية وشريرة وعدوانية.
وكما يشكل الأبوين مرجعية الضمير عند الطفل الصغير فإن النخبة في المجتمع تشكل مرجعية ذلك الضمير، ونعني هنا بالنخبة علماء الدين والمفكرين وقادة الرأي وفقهاء الدستور والقانون والمصلحين الاجتماعيين. وهؤلاء جميعا هم بمثابة حراس الضمير العام، ولذلك إذا خبا صوتهم وتراجع تأثيرهم فإن الضمير العام يضعف شيئا فشيئا إلى أن يتضعضع ويضمر وربما يموت.
والقادة السياسيون والعسكريون ورجال الأمن لا يحسبون من حراس الضمير، فقد تحكمهم مصالح وأهواء تجعلهم يتمسكون بقيم براجماتية غير متوائمة مع الضمير العام، وهم إذ يفعلون ذلك لا يعلنون أنهم يتصادمون مع الضمير العام بل يتحايلون على ذلك وربما أظهروا ولاءهم واحترامهم ورعايتهم للضمير العام ولكنهم في سلوكهم الواقعي يعملون ضده. ولهذا حين تتضخم السلطة السياسية أو السلطة الأمنية في أي مجتمع وتتراجع السلطات الأخرى والقوى الأخرى في المجتمع فإن الضمير العام يتراجع وينكمش أو يتلوث لإرضاء احتياجات السلطة المتسلطة.
ونحن هنا نفرق بين سلطة تنظم شئون المجتمع ولا يستغنى عنها في أي تجمع بشري وبين سلطة تتسلط على المجتمع وتتحكم فيه لمصالح ذاتية، فالأولى تهتم برعاية الضمير العام وتحافظ على روافده وتدعمه من خلال الدستور والقانون واحترام المؤسسة الدينية وتقدير رجال الفكر والقضاء، أما الثانية فهي ترى في الضمير العام عائقا أمام استمرارها ولهذا تقوض أركانه وتجفف منابعه فتعمد إلى احتواء المؤسسة الدينية واختراق المؤسسة التشريعية والسيطرة عليها، والتحكم في المؤسسة القضائية، وربما تسعى بوعي أو بدون وعي إلى توسيع الثقوب في الضمير العام لكي تستطيع أن تمرر خططها ومشروعاتها وأن تحتفظ بمكانها ومكانتها فتفسد المجتمع في الوقت الذي تدّعي فيه الإصلاح.
المناخ السياسي وأزمة الضمير العام
لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الذي لعبه المناخ السياسي السائد بعد ثورة يوليو والذي تمحور حول الاستبداد في تلك التغيرات التي حدثت في الخريطة القيمية للمجتمع، إذ أفرزت الحكومات التسلطية حالة من الخوف والجبن لدى الناس ودفعتهم للنفاق والمداهنة والكذب واضطرتهم للرشوة والمحسوبية كي يواجهوا الظروف المعيشية الصعبة التي وضعتهم فيها.
كما أن النخبة السياسية في العقود الستة الأخيرة لم تكن قدوة للناس إذ مارست البطش والتزوير والتلفيق والكذب، ولم تعط الشعب الإحساس بالكرامة أو القيمة وتركته يحاول التقاط لقمة عيشه في ظروف غاية في الصعوبة وعلمته التنازل عن كرامته وحريته في مقابل أن يعيش هو وأبنائه بعيدا عن البطش والقهر.
وكانت معايير الانتقاء للوظائف القيادية تمر عبر مؤسسات أمنية تعلي من قيمة الموالاة والثقة ولا تعطي أهمية كبيرة لنظافة الضمير أو معايير الجدارة والعلم والأداء، ولهذا تم تجريف المواقع القيادية من العناصر التي تصلح قدوة للمجتمع، وأصبحت الرسالة الواصلة للناس تقول بأن الوصول من نصيب الموالين والمصفقين والمزورين والمستسلمين والموافقين دائما، وأن قيم العمل والصدق والأمانة والمثابرة والإخلاص كلها لا تساوي توصية من مسئول أو ارتماءً في أحضان حزب أو مؤسسة سيادية.
وقد حدث جمود في الحالة السياسية امتد أكثر من ربع قرن لم تتغير فيه الوجوه أو السياسات فحدثت حالة من الشيخوخة السياسية، تصلبت فيها الشرايين وتيبست المفاصل وضعفت وتضعضعت الأعضاء وانتشرت العلل والأمراض وتسللت الميكروبات والفيروسات ونتج عنها الكثير من التداعيات السلبية وخاصة على المستوى القيمي، حيث يئس الناس من تبادل السلطة فراحوا يوفقون أوضاعهم حسب مزاج السلطة الأبدية القائمة وحاولوا أن يتكيفوا مع متطلباتها، وهنا كانوا مضطرين لإعادة صياغة منظوماتهم القيمية لتتناسب مع المناخ السائد وكانت النتيجة هي ما نراه في هذا التقرير من تشوهات نفسية واجتماعية. وهذا يتماشى مع القوانين الطبيعية من حيث أن الماء الراكد يفسد ويتعفن في حين يحتفظ الماء الجاري بنقائه وصفائه وتجدده، وربما هذا هو السبب في أن النظم الديموقراطية (الحقيقية) تضع حدودا زمنية للسلطة حتى تتفادى مثل هذه النتائج السلبية فتتجدد الوجوه والأفكار والخطط والسياسات وتندفع دماء جديدة من وقت لآخر وتتجدد معها شرايين الحياة.
دور التربية والتعليم في نتائج التقرير
ليس من الصعب على أي مراقب موضوعي إرجاع تلك النتائج السلبية التي تمخض عنها التقرير إلى الأحوال المتردية للمدارس والجامعات والتعليم عموما في مصر، إذ أن هذه المؤسسات لم تعد تمارس دورا تربويا حقيقيا ولا دورا تعليميا مفيدا، بل على العكس فإن ما يدور بين أروقة المدارس والجامعات وما وصل إليه أخلاق المعلمين والأساتذة قد يكون عاملا مؤثرا في الاتجاه السلبي ويفسر لنا كثيرا من نتائج الدراسة.
فلم تعد المدارس والجامعات تؤكد على الصدق كقيمة أو العمل الجاد أو المثابرة أو الأمانة، بل إن هذه المؤسسات قد تكون في بعض جوانبها مرتعا للغش والتزوير والوساطة والتوصيات والصعود بلا جهد وتلفيق النتائج وتسطيح المعلومات وتجهيل العقول وملأها بالتفاهات، وإلغاء ملكات التفكير وحشو الرؤؤس بما لا يفيد وإعطاء شهادات لا تفيد في سوق العمل.
ولا نستغرب عزوف التلاميذ عن المدارس والطلاب عن الجامعات وتوجههم إلى الدروس الخصوصية في البدرومات وفوق الأسطح لكي يكتسبوا مهارات اقتناص الدرجات بعيدا عن روح العلم وروح التربية، ثم تواطؤ أولياء الأمور في هذه المؤامرة التي يتفرج عليها أولي الأمر منذ سنوات ويقفون عاجزين عن عمل شيء يعيد التربية ويعيد التعليم إلى ما يجب أن يكونا عليه.
لقد افتقدنا ثقافة التعلم وأصبح همنا اقتناص الدرجات، ومن هنا صار للغش الفردي والجماعي سوقا رائجة واكتسب قدرا من المشروعية جعلت كثيرين من الطلاب وأولياء الأمور ونسبة غير قليلة من المشرفين على العملية التعليمية يتقبلونه ويقرونه بل ويشجعونه.
التدين الرسمي والتدين الشكلي
قد تصيبنا الدهشة حين نرى المؤسسات الدينية الرسمية لدينا ولها أسماء عريقة وتاريخ أعرق، ونرى هذا العدد من علماء الدين الرسميين وخطباء المساجد، ونرى هذا العدد الكبير من دعاة الفضائيات الهواة والمحترفون ونرى هذا العدد من اللحى والحجاب والنقاب، وهذا العدد من البرامج الدينية والندوات والمحاضرات واللقاءات، ومع ذلك نصدم بهذا الخلل الهائل في الضمير العام. بعض المحللين يقولون بأن هذه المؤسسات والنشاطات الدينية قد قامت بدورها ولكن طوفان الفساد كان هائلا وكان أقوى منها، ويقول أصحاب هذا الرأي بأنه لولا موجات التدين لانهار المجتمع منذ زمن، أي أن النشاطات الدينية الرسمية وغير الرسمية قد شكلت وقاية للمجتمع من الانهيار الكامل.
ويرى فريق آخر أن المؤسسات الدينية الرسمية لم تعد تحظى بثقة الناس، وأن النشاطات الدينية غير الرسمية كانت معنية بشكل التدين دون جوهره، وأن حساباتها كانت تستوفى بعدد من يطلقون لحاهم أو يرتدون الحجاب أو النقاب، أما جوهر الإيمان وروح الدين فلم يفلحوا في ترسيخه في النفوس.
والرسالة الدينية القادمة من المصادر والتوجهات المختلفة تكاد تتفق على الاهتمام بالعقائد والعبادات، أما المعاملات والأخلاقيات والسلوكيات فلا تحظى بنفس القدر من الاهتمام بل نرى سلوكيات الدعاة الدينيين -في أغلبهم على الأقل– منافيا للقواعد السوية في السلوك. وبدلا من القيم المطلقة الراسخة القادمة من روح الدين وجوهره نرى الآن لدى نسبة قليلة من المتدينين نوع من الأخلاق النفعية السطحية القادمة من أطماع النفس والتي تتلون بصبغة دينية زائفة لتحقق مكاسب دنيوية من خلال اللعب على عنصر الثقة فيما هو ديني.
وقد أدى هذا الموقف إلى فقد الثقة في الرموز الدينية وفي المتدينين وبهذا افتقد الناس مصدرا مهما من مصادر القدوة في حياتهم، وربما يبرر هذا لهم سقوطهم في مستنقع الانتهازية الأخلاقية طالما أنهم رأوا الرموز الدينية (بعضها أو كثير منها) قد سقط فيها.
وثمة أزمة خطيرة حدثت حين فقدت المؤسسات الدينية الرسمية جاذبيتها أو مصداقيتها لدى الناس فأعطوها ظهورهم وتوجهوا نحو الدعاة الجدد خارج الإطار الرسمي فتلقوا منهم رسائل متضاربة بعضها قد ينتمي إلى صحيح الدين وبعضها الآخر يعكس توجهات شخصية أو طائفية أو فئوية، وهنا تشرذم الناس ليلتفوا حول دكاكين دعوية مختلفة ومتضاربة ومتصارعة وكل منها يدّعي امتلاكه للحقيقة المطلقة.
التناقض بين الأقوال والأفعال
كانت هناك تناقضات كثيرة بين الأرقام، وهذا يعكس الاضطرابات القيمية الناتجة عن رسائل متعاكسة يتلقاها الناس، فمثلا تأتي رسائل من مصادر دينية تحرم الكذب، بينما تأتي رسائل من مصادر حياتية براجماتية تبرر الكذب بل وتزينه، والصورة في مجملها تعكس فجوة كبيرة بين القيم المعلنة والقيم السائدة في المجتمع المصري، وبمعنى آخر إذا راجعنا الكثير من الأرقام في هذه الدراسة وقارناها بما نراه في حياتنا اليومية لأدركنا بوضوح الكثير من التناقض بين ما أعلنه الناس في إجاباتهم وبين ما يمارسونه، ولو أن الاستبيان المطبق به معايير للكذب والتناقض (كما هو الحال في اختبارات نفسية مثل اختبار الشخصية متعدد الأوجه) لظهر هذا الأمر بوضوح يدعو إلى التأمل والعجب.
وهذا أمر آخر في الشخصية المصرية حيث تعلمت من عصور الاستبداد الطويلة أن تقول ما يرضي أصحاب السلطة وأن تفعل هي ما تريد خلسة. وهناك ما يسمى بإجابات المرغوبية الاجتماعية حيث يقول الناس ما يعتقدون أن الرأي العام يحب أن يسمعه، والمرغوبية الاجتماعية هنا لن تكون طول الوقت في صف التعبيرات البراقة اجتماعيا كالصدق والأمانة والشفافية والوضوح وإنما قد تكون في الجانب الآخر تأسيا بصحف المعارضة التي تنتقد الأوضاع ليلا ونهارا ويبدو محرروها أنهم أبطال أو مصلحون اجتماعيون، وهذا يجعل بعض المفحوصين يتكلمون نفس اللغة الانتقادية تأسيا برموز المعارضة الصحفية، ويبقى في النهاية السلوك اليومي الملاحظ هو الحاكم على السلوك، ولهذا نتمنى أن تستكمل هذه الدراسة بدراسة أخرى لا تعتمد على الآراء بل تعتمد على الملاحظة الإحصائية المنضبطة للسلوك.
توصيات الدراسة
انتهت الدراسة إلى رؤية متكاملة لصياغة الأطر الحاكمة للسلوك في مصر، كان البند الأول فيها هو التغيير الشامل والعام الذي لا يعتمد على الترقيع أو التدخل في أمور معينة دون الأخرى، وأن يكون مرتبطاً بإعادة صياغة النظام الاجتماعي العام، وشددت الدراسة على أهمية ربط القيم بالقانون والدستور وتوضيح العلاقة بينهما، وطالبت بتفسير نصوص القانون والدستور بشكل يؤكد على الضرر الاجتماعي الناتج عن الانحراف عنها والإعلان عن محددات للسلوك تطبق على الجميع وتراقب من السلطات العليا والدنيا، حتى يتحول القانون إلى قيمة سلوكية وممارسة يومية.
ودعت الدراسة إلى اكتشاف قادة التغيير بين أبناء الشعب، من خلال اكتشاف النماذج الفاضلة وتحفيزها ونشر قيمها على الناس للتواصل إلى حالة اتفاق عام حول القيم الفاضلة والبعد عن الفساد، مؤكدة أن هؤلاء القادة هم من يجب أن يتميزوا ويتقدموا الصفوف.
كما طالبت الدراسة قادة المجتمع الذين يمتلكون اليوم سلطة أن يقدموا نماذج مضيئة على احترام القانون، والتأكيد على مبادئ الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد وشجبه بالفعل لا بالقول فقط.
ووجهت الدراسة نداءً إلى كل أجهزة الدولة من القضاء والشرطة والإعلام وأجهزة الخدمات المختلفة، بأن تكون مستقلة وحيادية وألا تعطى انطباعاً بالتحيز، وألا تعمل على تدعيم ذلك الشعور لدى المواطنين عن طريق تغيير سلوكياتهم وعبر الشفافية في إعلان الموازنات والتعامل العادل مع الجمهور في الأماكن العامة والخدمات والعدالة والشفافية في توزيع فرص الوظائف بعد الإعلان عنها وعدم المساس بفئات معينة واتهامها بالانحراف وفساد الأخلاق في وسائل الإعلام.
هذه التوصيات كانت وافية بالقدر المعقول وربما لا تحتاج إلى إضافة بقدر ما تحتاج إلى تنبيه وتحذير بأن لا تمر مرور الكرام –كما يحدث في أشياء كثيرة في حياتنا– بل تظل نشطة وحية ومحرضة لكثير من الجهود البحثية والإصلاحية بهدف إصلاح الضمير المصري العام.
واقرأ أيضا:
شوية مصريين ماتوا في حادثة وشويه أصيبوا! / الانتماء الهستيري