طبقاً للمعلومات المتاحة في وسائل الإعلام، نحاول تتبع التغيرات التي طرأت على هذه الشخصية حتى أهلتها لتقديم أقوى ضربة للمخابرات الأمريكية.
لقد نشأ همام خليل البلوي في أسرة أردنية من أصل فلسطيني، وعاش مع أسرته فترة في الكويت ثم غادروا الكويت إبان غزو العراق للكويت (بتوريط أمريكي وغباء صدامي)، وعادوا إلى الأردن، ولم يكن في حياته أي شيء مختلف عن أي شاب عربي، فهو يعيش في ظروف ميسورة، والده مدرس وإمام مسجد وله ستة أشقاء وثلاث شقيقات، متفوق دراسياً حيث حصل على 97% في الثانوية العامة مما أهله للحصول على منحة دراسية لدراسة الطب في تركيا، وهناك تعرف على زوجته التركية وأنجبا طفلتين، ويقال أنه كان متفوقاً دراسياً وأنه كان الأول في دفعته.
هذه هي الصورة البادية على السطح والتي يشترك فيها همام مع ملايين الشباب العرب الذين يعيشون في الأغلب أمام شاشات الانترنت وعلى أنغام الفيديو كليب للفضائيات العربية التي تحرص على ملء العقول بالتفاهة وإشعال الغرائز والرغبات وصرف الهمم عن أي عمل جاد يحقق نهضة الأمة، وتكتمل المنظومة التدميرية لطاقات الشباب العربي بإتاحة المخدرات بكل أنواعها ثم غرس قيم دينية مشوهة واستقطابية واغترابية وانسحابية وعدمية، فتكون النتيجة في النهاية حالة من اليأس المطبق يؤكده سلوك الحكام العرب المعزز للمصالح الأمريكية والصهيونية بشكل مباشر أو غير مباشر.
يواكب كل هذا عدوان أمريكي صهيوني مشترك (مع تخاذل عربي مشترك) يؤدي إلى تفكيك وتساقط الدول العربية والإسلامية دولة بعد أخرى في يد الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية.
هذه هي الصورة التي كانت قابعة في وعي همام البلوي -كما انعكس في كتاباته وفي وصيته- والتي انتزعته من أروقة المستشفيات وقاعات البحث العلمي المتميز (كطبيب يرعى الحياة ويدعمها) لتضعه في دهاليز الأجهزة الاستخبارية الأردنية والأمريكية من ناحية، وطالبان وتنظيم القاعدة من ناحية أخرى.
ومن الواضح أن همام كان يتمتع بقدرات عقلية فذة مكنته من التفوق الدراسي في مرحلة مبكرة من حياته ثم مكنته بعد ذلك من التعامل مع أطراف استخبارية متعددة دون أن يقع في خطأ يعرضه للخطر.
وبرغم كتاباته الجهادية على الانترنت وولائه لطالبان والقاعدة، إلا أنه نجح في أن يعطي انطباعات للمخابرات الأمريكية بأنه عميل مخلص لهم وللمخابرات الأردنية، وجعلهم يثقون به للدرجة التي تسمح له بالدخول إلى مقر المخابرات الأمريكية في أفغانستان دون تفتيش، وأن يصل إلى عقر دارهم وهو يلف حول جسده حزاماً ناسفاً دون أن تكشفه البوابات الإلكترونية والعيون المخابراتية المتفحصة لكل صغيرة وكبيرة.
إن هذه العملية الدقيقة لتؤكد على حقيقة ذكائه المرتفع للغاية كما تؤكد على ارتفاع مستوى تدريبه على العمل المخابراتي، وأن الأمر يبدو أنه استمر سنوات إذ ليس من المعقول أن يتم كل هذا في عام واحد كما يقال!.
وهمام يشعر بالغضب والرغبة في الثأر مما فعلته إسرائيل في قطاع غزة منذ عام وما قبله من مجازر وحشية في سائر فلسطين، ولديه غضب شديد من الوحشية والغطرسة الأمريكية في التعامل مع العالم العربي والإسلامي في أفغانستان والعراق والسودان واليمن وباكستان وغيرها.
تلك هي قاعدة الغضب التي حولت اهتمامات همام ذلك الشاب الوديع الهادئ –كما يبدو من صورة في مطلع شبابه– لكي يصبح أبو دجانة الخرساني ذي الفكر الجهادي، وأن يفكر في اختراق الأجهزة الاستخبارية ويعيش في دهاليزها الموحشة، ثم ينهي هذا المشوار الشاق والصعب بتفجير نفسه بحزام ناسف وسط ضباط المخابرات الأمريكيين فيقتل منهم ستة إضافة إلى ضابط مخابرات أردني (بحسب وسائل الإعلام).
وهكذا انتقل من مجال الطب الذي يرعى الحياة ويحسن جودتها إلى باحث عن الموت كحل لأزمة أمته التي يئس من حلها بالطرق المعهودة، كما يئس من أولي الأمر الذين يراهم يتساقطون في أحضان أمريكا وإسرائيل طوعاً أو كرهاً.
ولكي تتضح الصورة أكثر، علينا أن نكملها بحادث نضال حسن ذلك الطبيب النفسي برتبة مقدم في الجيش الأمريكي، الذي فتح النار على عسكريين في قاعدة فورت هوود الأمريكية ليقتل اثني عشر منهم، وهو أيضاً عربي من أصل فلسطيني، وبرغم مولده في أمريكا ونشأته وتعليمه فيها إلا أنه كان يشعر بالتحيز ضده نظراً لجذوره الشرق أوسطية، وأن هذا التمييز وصل إلى درجة آذته قام معها بتوكيل محامٍ لحل هذه المشكلة، وحاول أن ينهي خدمته العسكرية للتخلص من تلك المعاناة؛
وقد زاد الأمر خطورة أنه علم أنهم سينقلونه للعمل كطبيب نفسي يعالج الضباط والجنود الأمريكيين في أفغانستان أو العراق، وهنا تجمعت في وعيه كل صور القهر والإحباط والإحساس بالظلم، واستيقظت في وعيه القصص والحكايات التي كان يسمعها من الجنود العائدين من العراق وأفغانستان، فانفجر بركان الغضب والعنف بداخله في صورة قتل عشوائي جماعي لمن حوله، وهو ما زال حتى الآن ينتظر محاكمته.
هاتين القصتين تبينا كيف يمكن تحول أشخاص عاديين جداً في ظروف حياتهم وفي توجهاتهم الدراسية والمهنية (فكلاهما كان طبيباً، وكلاهما كان متوافقاً في حياته وعمله، ولم يبد عليهما علامات أي اضطراب في السلوك أو الشخصية، ولم يعرف عنهما ميول عنف سابقة) إلى قنابل موقوتة تنفجر في أي لحظة. وهاتان الحالتان وغيرهما تعكسان إلى أي مدى يعيش الشباب العربي حالة من القهر والإحساس بالظلم من الداخل والخارج، ويصبح بالتالي مهيئاً لتغيرات جذرية في حياته.
ويؤكد هذه الحقيقة نموذجان بارزان جداً هما الآن قادة تنظيم القاعدة الذي يرتعد منه الجميع؛ فأسامة بن لادن كان ابناً مدللاً نشأ في عائلة شديدة الثراء في السعودية، لكنه في ظروف مشابهة ترك حياة الترف والرفاهية واتجه للجهاد في أفغانستان، وحين خرج المستعمر الروسي اكتشف بن لادن أنه أصبح مطلوباً من المخابرات الأمريكية بعد أن أدى دوره، وأن هناك قوى دولية شريرة تلعب بمقدرات العرب والمسلمين، ومن هنا تحول إلى ما هو عليه الآن كزعيم لتنظيم القاعدة.
وشبيه به أيمن الظواهري الذي درس الطب وكان طالباً نابهاً، وينتسب إلى أسرة مصرية عريقة في النسب وعريقة في مهنة الطب، ولكنه وجد نفسه في مواجهة ظروف محلية ودولية دفعت به إلى الدخول في تنظيمات جهادية سرية إلى أن انتهى به المطاف إلى حيث هو الآن الرجل الثاني في تنظيم القاعدة.
إذن فنحن في العالم العربي والإسلامي نعيش ظروفاً داخلية وخارجية تفرز تحولات هائلة في أشخاص عاديين ينتمون إلى أسر مستقرة وعريقة فتحولهم إلى العمل السري أو العمل المخابراتي أو العمل العسكري، وهذا ليس تبريراً لأي أخطاء أو تجاوزات تحدث من هؤلاء أو من غيرهم، لكنه تفسير لظاهرة قابلة للتكرار بما يعزز ثقافة العنف والموت والانتقام ثم الانتقام المضاد بلا نهاية، بينما تجلس أمريكا وإسرائيل على أشلائنا تصمنا بالعنف والإرهاب.
واقرأ أيضا:
شيخوخة الضمير: دلالات النتائج / الانتماء الهستيري: الجرح النرجسي / كيف يفكر السيد الرئيس / انتصار أخلاقي
التعليق: دكتور محمد المهدي
أختلف معك أن شخصية همام خليل البلوي تغيرت كما حدث مع أسامة بن لادن
بالعكس همام خليل كان لديه معرفة بالتاريخ الإسلامي من صغره وحب الشهادة وهو أوضح ذلك في مقطع قبل تنفيذه العملية