لم تكن المباراة بين مصر والجزائر في أنجولا يوم 28 يناير 2010 م مجرد حدث رياضي عابر، بل حدثاً إنسانياً أخلاقياً يختصر آلاف الصفحات من الكتب، وآلاف الخطب والمحاضرات والمواعظ عن القيم والأخلاق وقوانين الحياة.
لقد انتصر الفريق الجزائري منذ فترة قصيرة على الفريق المصري بعد ماراثون طويل من التجاوزات والابتزازات، وساد المباراة وتبعها أحداث مؤسفة وانتصر القبح والعنف، وانتشت الهمجية بالنصر، وراحت تدوس على قيم العروبة والأخوة وتلوث التاريخ المشرف بين مجاهدي الشعبين، وعلا صوت الغوغاء هناك وهنا وتلطخ وجه الرياضة الجميل ببقع شوهاء، وتورط حكم المباراة في التغاضي عن الأخطاء والخطايا فتحولت الدفة لصالح المتجاوز والمعتدي، وكان درساً بغيضاً مفاده أن عالم اليوم يقوم على البلطجة والعنف والابتزاز والسفاهة.
أما اليوم فنستطيع أن نقول بأن الجرح المصري الإنساني قد التأم، وهو لم يلتئم بقرارات سياسية أو بتصرفات انتقامية عشوائية أو بأعمال تخريبية ضد الأشقاء الجزائريين بلا تمييز، وإنما التأم بشكل أخلاقي وجمالي وحضاري. وعلى الرغم من كونها مباراة رياضية بين بلدين عربيين شقيقين (رغم أنف الغوغاء هنا وهناك)، إلا أن ما حدث فيها وما قبلها تجاوز حدود الكرة وارتقى إلى آفاق الأخلاق والمبادئ؛
وأول قيمة عليا في هذه المباراة هي العدل الذي أرساه الحكم الإفريقي الأسمر الجميل الذي تمنيت أن ألقاه فأقبل جبينه الوضّاء وضميره النقي، ذلك الحكم الذي وقف شامخاً بالمرصاد أمام التجاوزات الأخلاقية للاعبي الفريق الجزائري، تلك التجاوزات التي مررها وتغاضى عنها حكم المباراة الماضية في أم درمان فغيرت النتيجة لصالح القبح والعنف والهمجية، لذلك تظهر قيمة العدل هذه المرة تضيء وجه هذا الحكم الأسمر الرائع وتضيء الساحة الخضراء للملعب، وتعيد للرياضة حلاوتها ونظافتها ونقاءها وتعيد للمشاهدين أياً كانت جنسيتهم ثقتهم في القيم العليا واحتفائهم بها.
تحية إجلال وإكبار لذلك الحكم الشجاع، فهو لم يكن مجرد حكم لكرة قدم بل فيلسوف يعيد للحياة جمالها ويعيد للحق قوته واحترامه، ويجلو التراب عن الجمال، ورسول سلام يضفي على الحياة هدوءاً واستقراراً وطمأنينة.
وأرجو أن يعي الفريق الجزائري (الذي سيبقى شقيقاً رغم شقاوته) الدرس مع طرد ثلاثة من لاعبيه ببطاقات حمراء لتجاوزهم الأخلاقي وتدني سلوكهم، وليعلموا أنهم بحاجة إلى مراجعة أخلاقية كبيرة (أتمنى أن يساعدهم فيها العقلاء والعلماء والفضلاء من شعب الجزائر ومفكريه)، فقد ظنوا أن بقدرتهم القفز فوق قوانين الحياة وخطف الفوز في كل مرة بالهمجية والعنف، وظنوا أن العدل سيغيب في كل مرة وأن الحكم سيراعي الاعتبارات السياسية أو الأمنية فيتغاضى عن خطاياهم وتجاوزاتهم؛
لكن الأمر اختلف هذه المرة وافتضح الأمر وظهرت سوءة السلوك المضطرب والجانح، وخرج المسيئون من الساحة الخضراء التي لوثوها بتعديهم وعدوانهم، تعديهم على قيم الرياضة النظيفة وقيم جمال اللعب وفنه، وتعديهم على موازين العدل في هذا الكون، وعدوانهم على أمانة المنافسة الشريفة، وعلى قناعات الناس الراسخة أن النجاح للأكثر جودة والأكثر شرفاً والأكثر التزاماً.
إن البطاقات الحمراء الثلاث التي أشهرها الحكم العادل في وجه الغوغائية والبربرية والعنف في كل مكان وزمان، وأعاد بها الكرامة والعزة لكل من يتمسك بالذوق الجميل والمنافسة الشريفة ويحافظ على نقاء ونظافة البساط الأخضر والحياة بشكل عام!. ولكم تمنيت أن أحصل منه على الكثير من البطاقات الحمراء لنشهرها في وجه كل كذّاب ومزوّر ومغتصب وظالم وغشّاش ومشوّه لجمال الحياة.
ولست أقول هذا الكلام بدافع الحميّة الوطنية، لكن بدافع الحميّة الإنسانية والقيمية؛ إذ لو كان السلوك الخاطئ قد وقع من الفريق المصري لكنت أشد قسوة عليه في المحاسبة والتقويم. أربعة أهداف نظيفة يستحقها من بذل جهداً حقيقياً على البساط الأخضر، ويستحقها من يتمتمون بآيات من القرآن الكريم في بداية المباراة، ويستحقها من يصبرون على سفاهة الخصم وحماقاته ولا يستدرجون لساحته غير النظيفة.
أربعة أهداف نظيفة يستحقها مجموعة من الشباب صغار السن لعبوا برشاقة وجمال وفدائية ليعيدوا الكرامة الكروية لبلدهم ويعيدوا الاعتبار لكل قيمة جميلة في الحياة حتى لا يكفر الناس بالقيم في زمن تفشى فيه القبح وانتصرت البلطجة في كثير من المواقف.
تحية لحسن شحاتة ذلك المعلم الأسد الصبور الذي تحمل الهزيمة السابقة بنبل المحاربين والفرسان، وتجاوز مرارة الانكسار الظالم، وتحمل سفاهات الصغار من متصيدي الأخطاء، وجهّز رجاله ليعيدوا الاعتبار لقيم الصمود والتحدي، ليعلمونا في سائر نواحي حياتنا أن الصبر والمثابرة والصمود هي مفاتيح النصر ليس فقط في الكرة ولكن في كل مجالات الحياة.
تحية لمدرب استعان بعدد كبير من اللاعبين صغار السن من غير المشاهير وأعطاهم الفرصة ليخبروا من بيدهم الأمر في بلادنا أن الشباب بخير، وأن تشبث العجزة بالمواقع يضيع على الحياة فرص نموها ويطفئ حيويتها ويجرها إلى الوراء، هؤلاء هم الشباب الصغار يتحركون في رشاقة ويهاجمون في فدائية ليحققوا النصر، ويكتبوا أسماءهم بحبر متدفق فيّاض على أرض الساحة الخضراء.
تحية لأناس لم يذهبوا إلى أنجولا وتركوا أبناء الشعب يخوضوا غمار المباراة بشرف وتجرد، وهم يعلمون أن الفوز سينسب لهم هذه المرة ولن ينسب إلى أناس جلسوا في مقصورة زجاجية حضروا ليسرقوا الفوز وليوظفوه لصالحهم، وهذا درس عظيم يقول لهؤلاء اتركوا هذا الشعب يقرر مصيره وحرروه من قيود الزيف تجدوه شعباً عظيماً.
ما أحلى أن تنتشر هذه القيم الجميلة خارج أسوار الملاعب فينعم الناس بالعدل والجمال ويجنوا ثمرة الكفاح النظيف المتجرد من المصالح والأهواء، وأن نثق بالشباب وندفعهم إلى الصفوف الأولى، ونقول لمن تعدوا تاريخ الصلاحية آن لكم أن تستريحوا إذ لم تعودوا قادرين على خوض سباق الحياة النابضة السريعة، بل إنكم تعوقون الحركة نحو المستقبل.
وأخيراً: يحيا العدل والحق والجمال!.
واقرأ أيضا:
الانتماء الهستيري: الجرح النرجسي / كيف يفكر السيد الرئيس / نبوءة نجيب محفوظ للبرادعي وزويل