لقد كتبت هذه المقالة في التاريخ المثبت في صلب الموضوع في صحيفة (الخرطوم) بعد توقيع اتفاقية السلام وقد كنت في إجازة قصيرة (في لندن) وبعثت بها مع عدة مواضيع إلكترونيا إلى مكتب التحرير ونشر البعض و ما زالت تنتظر وحتى لا تبدو وكأنها تغرد خارج السرب أو تسابق الأحداث بأثر رجعي في السياق الزمني آثرت أن أكتب هذه المقدمة—تقول:
أليس من الغريب والمدهش حقا أن يمر الحدث التاريخي الذي يعيش فيه السودان هذه الأيام.. والميلاد الجديد لأحد أكبر أقطار أفريقيا.. القارة التي تمثل حلم وهاجس عالم اليوم، القارة التي أعيد اكتشافها من جديد في (النظام العالمي الجديد) وسط كل هذه الأهمية السياسية والجغرافية والاقتصادية أن يمر هذا التحول (الجيوبوليتيك) في الإعلام العربي دون الأهمية التي يستحقها في وقت تتهافت فيه القنوات الفضائية على تحليل نتائج انتخابات بقايا دول الاتحاد السوفيتي المنفرطة من عقد المنظومة الاشتراكية المنقرضة.
هل كان يصًدق أحد في كل هذه الفضائيات أن تنتصر إرادة شعب خاض حربا أهلية مفروضة عليه على مدى نصف قرن ثم انتصر على مراهنة الأعداء في التقسيم والانفصال لا الوحدة حتى ولو كان من خلال فترة انتقالية.. لأن مصائر الشعوب لا تتم صياغتها بقرار سياسي من قمة الهرم أو مرسوم سيادي من رأس الدولة وإنما بتفاعل القيم التي من أجلها رفع السلاح ثم انصهار هذه القيم في بوتقة واحدة من الحرية والعدل والمساواة.. وهذا لا يتم بين عشية وضحاها ولا يختصر في شهور ولكنه عملية ولادة جديدة واستنساخ مشروع وحدوي فريد يستغرق وقتاً من الأخذ والعطاء، والشد والجذب، والرفض والقبول، والاتفاق والاختلاف بأكثر مما حدث في ماراثون المفاوضات خلال سنوات طويلة.
وعلى عكس ما يعتقد المتشائمون فإن طول الفترة الانتقالية يعطي فرصة ضرورية لبلورة و نضج المفاهيم وإعادة صياغة المواقف الخاطئة وتصحيح الصورة المغلوطة في الأذهان أو الأحزان المنحوته في الوجدان، وهذا كله يحتاج إلى زمن، ونهاية حرب امتدت نصف قرن، لا يضيرها أن تنضج على نار هادئة خلال نصف عقد من الزمن وهذا منطق التعامل مع القضايا الخلافية في سيكولوجية العلاج النفسي المعرفي والإدراكي الذي يهدف إلى تحوير وتبديل الأعراض المرضية إلى أفكار صحية تعطي الفرد بصيرة نافذة ورؤية أكثر شفافية في التعامل مع ضغوطات الحياة، وتمنح المواطن مهارات أساسية في ترسيخ متطلبات السلام.
إذن لابد من الاتفاق على صنع السلام، لا فرض السلام فالأول يتحقق بخيار، والثاني يتم بقرار..ويبقى الأول الخيار الأفضل من بين بضع خيارات تخضع للدراسة والمناقشة والتداول بين الجميع.
إن من أكبر تجارب فشل السلام الذي يفرض من الداخل أو الخارج أن لا يتعامل ولا يتفاعل مع القاعدة.. فاتفاقية 1972 م فرضت السلام من أعلى ولكنه لم يؤسس له في البنية التحتية.. فجاء بقرار قمة وانتهى بقرار قمة.. لم يحظ بإجماع الشعب ولم يخضع لاستفتاء ولم يتم في ظل مباركة إقليمية ودولية، ورغم الحساسية المشروعة من هذه التداخلات المشبوهه إلا أنه في عالم اليوم أصبحت كالملح للطعام- وأشبه بقناعة لا خيار لمن لا يختار. وليس فقط لأنها قد تساعد في الوصول إلى سلام ولكنها تصبح من أكبر مقومات صنع السلام، والعالم اليوم ملئ بهذه الشواهد في أركانه الأربعة.
والآن هذه الفرصة الأخيرة تأتي بضمانات داخلية ودولية وأهم من هذا تنضج في مناخ نفسي داخلي وتعيش بين ضلوع الوطن الحبيب حتى تجئ (نعم) هنيئة أم (لا) مريحة وهذا يتوقف على قدرتنا على تغيير نمط حياتنا وأسلوب تفكيرنا.. وإعادة صياغة مفاهيمنا الموروثة والمكتسبة بكثير من القناعة والرضا.. لكي يتم الانتقال السلمي للسلطة.
وما دمنا نتحدث عن اقتسام الثروة وتداول السلطة وتحقيق الإصلاحات فأن كل هذه المفاهيم قد تصبح فارغة من محتواها، منقوصة في معانيها إن لم تستوعب كل قطاعات الشعب بكل أعراقه ودياناته وكياناته في منظومة تضع نصب أعينها أن العالم اليوم يسعى إلى تغيير الكيانات الصغيرة وبعثرة القوميات الضعيفة إلى جزئيات وفتات يسهل التحكم فيها وتشكيلها في قوالب يصنع منها دويلة أو مسخ دوله، أمة أو أمِية، عقيدة أو عقدة، لأن الكل ليس مجموع الأجزاء كما تقول مدرسة الجشتطالت (في علم النفس) إنك تستطيع أن تصنع من مجموعة المكعبات، أشكالاً عديدة مختلفة المضامين وإن كانت من نفس الجزئيات، وبنفس الفهم تصنع من جزئيات الجغرافيا مسخ دولة ومن فتات القوميات أمًة مشًوهة.
وحتى لا نقع في هذه المصيدة مثلما تجاوزنا القرارات الدولية وبالونات اختبارات الشرعية الدولية وحتى نظل نسيج وحدنا في الإطار الدولي السائد؛ وقد ثبت حقيقة أن الكيانات الصغيرة لم تعد قابلة للحياة وأن الجغرافيا لم تعد هي المحك في قياس السيادة ولكن الفضاءات هي التي تتحكم في إدارة الصراعات الإقليمية والدولية وربما يأتي وقت قريب لنسأل ما هو فضاؤك؟.. في أي فضاء تقع دولتك؟ وليس في أي قارة!.. في القرية الكونية الصغيرة، فالتكنولوجيا الكبيرة خلقت واقعاً جديداً قضى على كثير من النظريات التقليدية والموروثات الفكرية التي عليها أن تعيد النظر في مناهج تفكيرها وطرق حياتها حتى لا تخرج من هذا السيرك الدوار.
وهذا ما دفعني للبدء بالحديث عن هضم حق الحدث الهام والصحيح فيما أغفله التصحيح، حدث السلام السوداني، النموذج الفريد والجديد، بكل معاييره على القارة السوداء، والقومية العربية، والهوية الإسلامية، والرؤى العالمية لمستقبل الموارد الطبيعية والأهمية الاقتصادية وفوق كل هذا وذاك الجسور السياسية المعلقة بين الفضاءات الجديدة، وأحدها الفضاء الإفريقي.
لقد أذهلني غياب الإعلام وضعف الإعلان عن هذا الحدث الكبير والمولود الجديد، لقد تم تغطية أخبار لا ترقى إلى مستوى الحدث اليومي على اكتشاف كوكب آخر في قلب إفريقيا، وليس هذا من باب تضخيم الذات أو وهم التمني ولكنه من نبض الواقع وقراءة الأحداث.
لو كان إعلامنا المحلي يقف على قلب رجل واحد، وخطط منذ تباشير السلام لخطة إعلامية مؤسسة مدروسة من خبراء في كل مجالات الحياة العامة، لأسلوب المخاطبة ووسائل الطرح وطريقة الإخراج لبرامج هادفة ممرحلة لصنع بنية تحتية للسلام القادم والذي ينبغي أن ينبع من وجدان الناس لا من فكر القادة فأكثرهم يأتي ويذهب ويبقى الناس، يحملون هم هذا الوطن وأوجاع هذه الأمة.
إنني ألاحظ مع تقدير كبير للقائمين على أمر الإعلام، وكأنهم أخذوا على حين غرة وهم يحاولون اللحاق برقاب الأحداث والإجابة على تساؤلات المشاهدين، ولاحظت وكأنهم ما زالوا منقسمين بين مؤيد يكافح ومعارض ينافح ومتردد يراوح بين الشك واليقين وآخرين يصدق فيهم قول أبي الطيب المتنبئ:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ...... وصدق ما يعتاده من توهم
إننا دائما نلوم الإعلام على التقصير ولكن هل بنود الاتفاقية أو نصوص المفوضية أعطت الاهتمام المناسب للخطة الإعلامية في المرحلة القادمة.. لأننا إذا لم نعط الإعلام المحلي حقه المقدر فيصعب أن يؤثر على الإعلام الإقليمي ويستحيل أن يصل إلى الفضاءات العالمية إذا أردنا لمرحلة الانتقال أن تكون سلمية تؤدي إلى وحدة حقيقية فعلينا وضع خطة إعلامية تعطي الأولوية لتجميع هذا الشتات في كيان سوداني واحد قابل للبقاء وقادر على العطاء وفاقد الشيء لا يعطيه.
لقد سئل بوش الأب في أيام حرب أفغانستان في مؤتمر صحفي في البيت الأبيض قبل الانتخابات هل تعتقد أنه سيأتي يوم يدخل البيت الأبيض رجل أسود؟ فقال: نعم - ولكن بطريقة سلمية.
ربما تجاهل بوش شراسة الحرب الأهلية والصراعات العنصرية التي حدثت في أمريكا حتى تمت إجازة الدستور الاتحادي... وقطعا لم تكن أقل فتكا من الحرب السودانية ولكنه أكد على الانتقال السلمي وسوف يحدث؟.
إذن في كل تجربة ديمقراطية لابد من تمهيد الأرض لانطلاق محركات طائرة السلام لتحلق في فضاءات الحرية والتمهيد يأتي في البداية من خلق أجواء تسامح ومناخ مصالحة لا تطغى عليه نزعة الأحقاد الدفينة أو الحقوق المتوهمة ولا تكون فترة الانتقال تصفية حسابات قديمة أو انتزاع حقوق مستحقة جديدة بصورة تتوهم أن ما حدث يصب في مصلحة فئة دون أخرى.
ولنا عودة بإذن الله
واقرأ أيضاً:
لذة الهواية.. وألم الاحتراف / طب الحواس لماذا؟