حينما بلغتني أنباء الأب النمساوي (جوزيف كرتزل 72عاما) من قرية أمشتايتن في النمسا، والذي حبس ابنته في قبو 24 سنة، وأنجب منها سبعة منهم طفل مات رضيعا فحرقه ودفنه في القبو، فزعت وأصابني غثيان مؤلم، لكنني خشيت في نفس الوقت من احتمال هجوم بعض شباب الإعلام يسألوني عن "التفسير النفسي" لهذا السلوك.. إلخ، وتصورت تصريحات الزملاء وهم يطلقون اسم هذا المرض أو ذاك على هذه البشاعة، أو يفتون بهذا التفسير النفسي جدا لهذه الجريمة.إلخ
هاأنذا أعلن مقدما أنني عاجز عن التفسير، خصوصا النفسي، المسألة أقبح وأكثر دلالة من معظم معلومات العلوم النفسية عبر التاريخ! رحت أبحث عن مزيد من التفاصيل: فعلمت أن الأب اغتصب ابنته في سن 11 سنة، ثم خبأها منذ سن 18 سنة في كهف سفلي، وأعلن اختفاءها، وراح يسلم أمها (روز ماري) خطابات تكتبها ابنته (قهرا غالبا) تطمئن أمها عليها في غربتها، ثم أخذ ثلاثة من أبنائه من ابنته الواحد تلو الآخر، وسلمهم لجدتهم في الدور الأعلى وهو يدعي أنه وجدهم أمام الباب مع رسالة من ابنتهم تطلب رعايتهم لأنها أعجز (ماديا) عن تربيتهم....إلخ
المسكن في شارع مليء بالمحلات التجارية، والقبو (كما ظهر في التليفزيون) يتكون من دهاليز وحجرات ومطبخ وغرفة نوم، وله مدخل سري، وتمر 24 سنة ولا يبقى مع البنت الأم سوى ثلاثة من الستة (كريستين 19 عاما وستيفن 18 عاما وفيلكس 5 سنوات).
تمرض البنت الكبرى منذ أسابيع وتفقد الوعي، فيتم نقلها بواسطة والدها إلى إحدى مستشفيات البلدة ويقول الوالد أنه عثر عليها أمام باب المنزل، وبحوزتها ملحوظة مكتوبة بخط يد والدتها تطلب منه المساعدة. المستشفى تريد معلومات أكثر عن الفتاة المريضة للإحاطة بالحالة وعلاجها، فتطلب من وسائل الإعلام المحلية أن توجه نداء إلى والدة كريستين. تشاهد الأم إليزابيث الإعلان في التليفزيون، فتطلب من والدها (ووالد البنت!!) السماح لها ولابنيها بالتوجه للمستشفى لإنقاذ كريستين، فيوافق والدها، ويسمح.
برجاء ألا يسرع الزملاء بالفتوى، قبل أن ينتبهوا: أنها 24 عاما (لا يوما ولا أسبوعا ولا شهرا)، وأن بالقبو مطبخ به شوك وسكاكين، وأن الوالد هو الذي نقل كريستين إلى المستشفى، وأنه هو الذي سمح للأم (ابنته أصبح عمرها 42عاما) وللأخوين بزيارة كريستين للإدلاء بالمعلومات اللازمة، وأنه اعترف بكل ذلك.
هذه ليست دعوة للشفقة بهذا الأب الشاذ، ولكنا تذكرة ربما تساعد في عدم استسهال الحكم بتشخيص مرض نفسي جاهز، أو إصدار مذكرة تفسيرية تحليلية نفسية (لو سمحتم!!).
وصف الأب بـ "الوحش البشري" ربما يكون إهانة للوحوش، ودمغه بالجنون هو تجريح لنبل ورقة عمق مشاعر أصدقائي المجانين.
حين نعجز عن تفسير ظاهرة ما، علينا أن نتحلى بشجاعة التأجيل، والاعتراف بالجهل (ولو المؤقت)، مهما بلغت مشاعرنا معها أو ضدها، ثم نبحث طول الوقت على مزيد من المعلومات فالعلم.
حين فشلتُ تماما في أن أفهم، ولو مؤقتا، رحت أتلفت حولي بعيدا عن هذا الحادث الفردي الصعب، لعلي أجد فيما يجري حولي ما يساعدني، وإذا بي أكتشف أنه أسهل علينا أن نفسر الجرائم الأعم والأخطر التي تجري حولنا يوميا (ليس تفسيرا نفسيا، فما أسخف ذلك عادة) كل دقيقة على مدار الساعة فالأيام فالشهور فالسنين، وهي جرائم جماعية أخطر وأعم مما فعله هذا الوالد المقزز: هذه الجرائم الرسمية العلنية الموثقة بالإعلام في كل مكان، طول الوقت، أليست أبشع، وفي نفس الوقت أسهل تفسيرا من جريمة هذا الرجل؟
إن ما ارتكبه هذا الرجل –بالقياس الموضوعي- لا يمثل واحد على مليون مما يفعله بوش في العراق، أو ما تفعله شركات الدواء في المرضى والعلم والأطباء، أو ما تفعله شركات البترول في السياسة والحرب والاستغلال، أو ما تدعي أنها فعلته وهي لم تفعله القاعدة (حسب تصريحات أيمن الظواهري الأخيرة)..، أو ما تفعله إسرائيل في غزة وغير غزة، أو ما تفعله تجارة دعارة الأطفال وأعضائهم.
أسهل علينا أن نفسر هذه الجرائم العلانية مع سبق الإصرار والتبجح، وأن نتخذ منها الموقف المناسب، وليس فقط المشاعر المناسبة، من أن نسرع بدمغ مجرمين أو شواذ فرادى لا نعرف بقية قصتهم.
أو على من يتحمس من الزملاء النفسيين أن يكتفي باقتداء الطبيب النمساوي "ماكس فريدريك" الذي راح يجري الأبحاث على من ظلوا في القبو من الأطفال ليحدد المشاكل التي لحقت بعيونهم وبشرتهم من أثر نقص الضوء!!
أليس ما يفعله هذا الطبيب يشبه ما تفعله بنا –مثلا في غزة- خريطة الطريق، أو حكومات العملاء أو تصريحات هيئات الأمم المتحدة؟
نشرت في الدستور بتاريخ 7-5-2008
واقرأ أيضا:
استحالة الممكن وحتمية المستحيل / أدنى من النمل الأبيض!!! / الاستهبال على وعىٍ كسولْ / نفس الموقف عبر ثلث قرن!! فما لزوم الكتابة؟