كان يرى بقلبه .. وقد توقف قلبه ..
ملحوظة قبل البدء في الاسترسال: هذه قصة حقيقية حدثت بالفعل منذ عاماً واحداً فقط، كان أحد أيام العيد .. هل كان عيد الفطر أم كان عيد الأضحى ؟؟ .. حقيقة لا أذكر ..
ذهبت إلى أصدقائي في هذا اليوم .. قضينا بعض الوقت على إحدى المقاهي بمنطقة (الكيت كات) .. ثم قررنا الذهاب إلى السينما حين حدث ما هو آت ذكره حالاً ..
مشاجرة .. مشاجرة عنيفة جداً حدثت بيني وبين أحد أصدقائي .. والنتيجة ؟؟ تسألون عن النتيجة ؟؟ .. غادرت المكان طبعاً ..
تركتهم إلى حال سبيلهم .. واندفعت مغادراً المكان ..
لم تكن أعصابي لتحتمل تلك المشاجرات .. كنت متأزماً نفسياً ومعنوياً وربما جسدياً كذلك بنزلة برد متوحشة .. وهكذا .. رحت أمشي في الطرقات على غير هدى .. الشوارع ممتلئة عن آخرها بالناس .. أطفال .. بالونات .. بائعوا حلوي .. هكذا المصريون .. في الأعياد يفرحون جداً .. وفي الأحزان يحزنون جداً ..
رحت أسير بلا هدى .. تجاوزت منطقة العجوزة .. صعدت كوبري (6 أكتوبر) .. ثم هبطت إلى حيث كورنيش النيل.. وما أدراك ما كان
عليه منطقة كورنيش النيل ..
ولد وبنت .. ولد وبنت.. ولد وبنت .. ولد وبنت .. تمتمت في سري (كل الأحبة اثنين اثنين وأنت يا قلبي حبيبك فين ؟؟) .. كنت أشعر بإحباط .. كنت أشعر بأنني أريد أن أتحدث مع أي إنسان
تجاوزت كورنيش النيل .. ثم (جاردن ستي) .. عبرت إلى حيث شارع (قصر العيني) .. كل هذا راجلاً .. تخيلوا .. من (الكيت كات) إلى (قصر العيني) سيراً على الأقدام دون توقف ..نظرت في ساعتي فوجدتها الثانية عشرة بعد منتصف الليل ..حين حدث شيء ما لفت نظري بشدة .. التفت خلفي فرأيت شاباً يودع عجوزاً :
ـ عايز حاجة يا حاج علي ؟؟ ..
ـ الله يكرمك يا ابني ويكتر من أمثالك ..
ـ خلي بالك من نفسك يا حاج .
ـ كله على ربنا ..
ـ سلام عليكم يا حاج .
ـ وعليكم السلام ..
وهكذا ترك الشاب هذا العجوز الطاعن في السن .. وابتعد ..
شيء ما جعلني أنظر إلى هذا الشيخ.. أن أتأمله بدقة ..كان يرتدي جلباباً رمادياً ثقيلاً متردياً .. وكان يلف رقبته بكوفية قديمة ممزقة في أكثر من موضع . كان يسير مترنحاً .. وكان يمسك بعصا سميكة يقدمها أمامه .. يحركها في الفراغ .. ثم يسير .. ثم يرفع ذراعه اليسرى متحسساً ما أمامه ..وهكذا فهمت .. أنه أعمى .
كانت أمام هذا الشيخ الطاعن في السن درجات سلالم تقود إلى أحد المتاجر المغلقة .. درجات سلالم هابطة .. والعجوز لم يلاحظ وجودها .. وهو يتقدم منها ببطء .. ببطء .. وكان هذا يكفي .. اندفعت نحوه وأنا أهتف : ـ لحظة يا حاج .. توقف مكانك ولا تمش خطوة أخرى ..
أجفل الرجل وتردد .. ورفع رأسه لأعلى فأبصرت عيناه .. لم تكن هناك عينان .. فقط فجوتان خاويتان مخيفتان تحتلان مكان عينيه .. إنه أعمى فعلاً .. اقتربت منه وأمسكت بيده وأنا أقول موضحاً :
ــ هناك درجات سلالم أمامك تقول للأسفل .. الحمد لله .. الله سلم .
قال وهو يرفع رأسه نحوي :
ـ الله يبارك لك يا ابني ..
ـ أعطني يدك يا حاج .. إلى أين تريد أن تذهب ..
ـ متشكرين يا ابني .. لا أريد أن أتعبك ..
ـ واجب علينا يا حاج .. أعطني يدك ..
وهكذا دس الرجل يده العظمية النحيلة في يدي .. وصرنا سوياً نمشي ببطء .
ـ إلى أين تريد الذهاب يا حاج ؟؟ .
ـ المبتديان .. شارع (أمين سامي) ..
كنت أعرف تلك المنطقة جيداً .. فمدرستي الإعدادية التي كنت أدرس بها تقع على مسافة خطوات ..كان صوته خشناً منهكاً مضعضعاً محبباً للنفس ..
ـ كم عمرك يا ابني ؟ .
هكذا سألني فأجبته قائلاً :
ـ 24 سنة .
ـ آه .. يعني أنت لسه في شبابك .. العمر قدامك كتير .. الدور علينا بقى إحنا اللي عجزنا .. ربنا يحسن ختامنا .
ـ ربنا يديك الصحة يا حاج .
ـ يدينا ويديك .. ده أنا كانت في سنك بالظبط سنة 1940 .
1952 .. هذا يعني أنه من مواليد 1916 .. أي أن عمره الآن يناهز التسعين عاماً .. يا الله .
كررت قائلاً :
ـ ربنا يديك الصحة يا حاج .
قال :
ـ خلاص بقى .. الزمان جار علينا ..
ـ ما تقولش كده يا حاج .
ـ ولادي مش سألين فيا .. خدوا الفلوس .. والأرض .. ورموني .
ـ لا حول ولا قوة ألا بالله .
استطرد قائلاً :
ـ الدكتور المحترم .. اللي علمته وكبرته وصرفت عليه دم قلبي عشان يفهم الدكترة سرقني .. ولا الباش مهندس التاني .. اللي خد أرضي بالقوة .. وطردني من بيتي في الشرقية .. قال لي : ما
لكش لازمة هنا .. بيتك مش هنا .. بيتك في مصر .. (يقصد القاهرة) .
قلت بتأثر شديد :
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله .. هما ها يروحوا من ربنا فين .. ده ربنا أمر ببر الوالدين .
أجاب هو في مرارة :
ـ وهما دول يعرفوا ربنا ؟؟ .. أنا وارهم .. القضية أهي .. مرفوعة في المحاكم من 25 سنة ..
ثم أضاف بصوت حزين متهدج مزق قلبي :
ـ خمسة وعشرين سنة .. محاكم .. ابتدائية .. ونزاع عائلي .. إيشي محامين .. وإيشي مستشارين .. ومش عارف آخذ حقي .
ـ معلهش يا حاج .. ربنا ها ينصرك .
رفع بصره إلى السماء وقال بإيمان حقيقي:
ـ آمين يا رب .. وراح يرددها حتى اعتقدت أنه لن يقول غيرها ..
ـ آمين يا رب .. آمين يا رب .. آمين يا رب ..
ثوان مرت ثم سألني :
ـ إحنا فين دلوقتي يا ابني ؟؟ .
أجبته قائلاً :
ـ قرب شارع المواردي .
ـ هه .
هكذا تنهد .. ثم أضاف :
ـ شارع المواردي .. كان أكثر شارع ضج بالمظاهرات .. لما الريس (جمال) الله يرحمه أعلن قرار التنحي بعد النكسة .
سألته :
ـ أنت وقتها كنت هنا يا حاج ؟؟ .
فوجئت به يجيب :
ـ كنت شغال (بنا) (فاعل) .. بنيت نص بيوت المواردي الجديدة بإيدي .. شيلت رمل وظلط فوق ظهري لجل ما الناس تلاقي شقق .. والدنيا تبقى عمار .
سألته وقد بدأ الموضوع يشدني :
ـ وكان موقفك إيه يا حاج لما الريس (جمال) تنحى بعد النكسة .
شعرت به يعود بذهنه إلى الوراء .. رفع فجوتي عيناه الفارغتان إلى أعلى فشعرت به يتجاوز حيز الزمان والمكان .. قال بصوت بطيء شعرت بنفسي أسمعه بقلبي لا بأذني :
ـ (جمال عبد الناصر) كان راجل .. كان ابن مصر .. كان هو الأمل .. لما كان يخطب كنت باسمع صوته .. بيمس القلب .. كانت خطاب الريس (جمال) أحسن عندي من غنيوة لأم (كلثوم) .. حسيت معاه بمصر .. كأنها أختي .. بنتي .. أمي .. كرامتي .. كنت بقول أكيد ها نكسب .. أكيد ها نغلب .. ولما حصلت النكسة .. وولاد بلدي تاهوا في سينا .. حسيت بمصر بتبكي .. أختي بتبكي .. أمي بتبكي .. كرامتي بتتجرح .. لما اتنحى (جمال) صرخت بأعلى صوتي : يا ولداه .. الحقوا البلد .. انصروا الراجل .. انصروا ابن مصر .. أبن أمي .. يا ولداه .. يا ولداه .. كان يصرخ فعلاً بأعلى صوته .. وهو يقول تلك الكلمات .. صوته الخشن المضعضع يشق صمت الليل .. شعرت بأنني معه .. أهتف بقلبي وعقلي وكياني .. يا ولداه .. يا ولداه ..
ووصلنا .. إلى حيث بناية صغيرة يسكن هو في الطابق الأرضي منها .. في شقة ضيقة من حجرة واحدة وحماماً ضيقاً ومطبخاً عبارة عن مائدة وموقد غاز صغير ..
ـ تأمرني بأي حاجة تانية يا حاج (علي)
ـ الله يكرمك يا أبني .. توكل أنت على الله .
ـ طيب سلام عليكم .
قلتها وهممت بالرحيل .. لكنه استوقفني فالتفت إليه .. فوجئت به يقول بدون أي مناسبة:
ـ أنا مش لوحدي يا ابني .. أنا معايا ربنا .. ربنا وحده هو اللي قادر ينصر عباده ..
ـ كله على الله يا حاج .
ـ بس أنا يا أبني عايز أقول لك حاجة :
ـ اتفضل يا حاج .
قال :
ـ لو عاوز تعيش بسلام .. وتعيش وأنت مطمئن أن ربنا راضي عنك .. واجه مشاكلك وما تهربش منها .. ومش لازم تكون في النور علشان تشوف اللي أنت عاوزه .. الأهم من كده أن يكون في النور
اللي انت عاوز تشوفه .. إيه لازمة النور وأنت مش شايف فيه اللي أنت عاوزه .. وأنت مش شايف فيه هدفك وحلمك وحقيقتك ..
كانت عباراته غريبة وغامضة .. لكنني فوجئت بأنني أحتاج إليها بشدة ..
لقد كتب لي الله أن ألقى هذا الرجل في وقت كنت أحتاج فيه فعلاً لأي شخص أتحدث إليه ..
وهكذا ودعته .. وعدت إلى منزلي وأنا أتذكر كلماته ..
بعد أسبوعين كنت أعبر جوار داره .. ففوجئت بنفسي أتوجه إليها دون إرادة مني .. لكنني فوجئت بباب داره مغلق بقفل سميك ..
هممت بالرحيل حينها : ثم سمعت أحد يسألني
ـ عاوز حاجة يا أستاذ؟؟ .
التفت حيث مصدر الصوت فرأيت شاب في مثل سني تقريباً .. يرتدي جلباباً .. قلت له مبتسماً :
ـ أبداً .. كنت عاوز أشوف الحاج (علي) .. تعرفه ؟؟ .
ـ ربنا يطول في عمرنا وعمرك .
خفق قلبي بمنتهى العنف .. وارتعدت أطرافي .. سألته بصوت مختنق :
ـ أنت تقصد أنه ..... ؟ ولم أتمكن من استكمال عبارتي .. لكن الشاب فهمها فقال :
ـ الله يرحمه برحمته .
سألته وأنا لا أصدق :
ـ مات ؟؟ أمتى وازاي ؟؟
أجاب بلا مبالاة :
ـ من ست أيام ..
لم أتمالك نفسي .. شعرت بعيناي تدمعان .. والرؤية تهتز .. وتمتمت :
ـ لا إله ألا الله ..
ـ غسلته ودفنته أمبارح أنا وأولاد الحلال بأيدي دي .. بسم الله ما شاء الله عليه .. كان وشه منور .. وكفنه منور .. وقبره منور ..
ثم سألني الشاب :
ـ أنت تعرفه ؟؟ تقرب له ؟؟ .
أجبته :
ـ نعم .. كنت أعرفه .. الله يرحمه .
قال الشاب :
ـ الله يرحمه .. كان راجل طيب .. ربنا خد بصره .. بس كان بيشوف بقلبه ..
قلت متابعاً :
ـ ودلوقتي وقف قلبه خلاص .
رد الشاب :
ـ بس كلامه وأفعاله ونصايحه موجودة .. يا ما كان بينصحني .. ويا ما كان بيقول لي ..
ـ الله يرحمه .. قلتها أنا .. وودعت الشاب .. ومشيت .. وكنت أبكي .. فعلاً أبكي .. ودوت عبارته الأخيرة (رحمه الله) والتي كان قد قالها لي في أول وآخر لقاء بيننا .. واجه مشاكلك وما تهربش منها .. ومش لازم تكون في النور علشان تشوف اللي أنت عاوزه .. الأهم من كده أن يكون في النور اللي أنت عاوز تشوفه .. إيه لازمة النور وأنت مش شايف فيه اللي
أنت عاوزه .. وأنت مش شايف فيه هدفك وحلمك وحقيقتك ..
وفي مساء هذا اليوم .. توجهت إلى الطبيب النفسي .. كي أعالج حالة المازوخية المزمنة التي كنت أعاني منها ..
رحمك الله يا حاج (علي) .. وجمعني وإياك في الجنة ...
واقرأ أيضاً:
حجارة/ سورة الفاو/ السأم/ وأبدأ ثانيةً من جديدْ/ معذبتي/ صباح الخير سيدتي/ طموح/ ذكريات/ لعينيكِ في دفتري ألف سطر/ هو العشقُ يا ربُّ زدنا/ أحبك يا آخر المعجزات/ وتبتعدين عن صدري/ أنا وأنت/ هيام