البغل والعربجي.. والعربة الكارو..! (1)
تقدمت المطربة العربية تشدو بأعذب الألحان، خرجت من داخل قلب على شكل ديكور فظ الملامح خشن الحواف، أخذ بيديها رجلان مسرحيان شبيهان برجال الأمن، لكن بذلتاهما كانتا داكنتي اللون تزينهما على الياقة العريضة شارة تشير إلى عضوية حزب أو جماعة أو نادي أو فرقة. غنّت المطربة أغان قديمة عن الوحدة بين مصر وسوريا، منها على ما نظن (أنا واقف فوق الأهرام، وقدّامى بساتين الشام)، وكذلك تلك الأغنية الشهيرة (من الموسكي لسوق الحميدية)، طلبوا منها أغنية حزينة أو حتى رثاءًا بغير غناء تنعى فيه الوزير السوري المنتحر، لكنها تجاهلتهم وآثرت أن تجامل الملك وتغني له، تستسمحه في أن تعيد نداءها له راجية منه أن يعطى لشعبه المزيد، كانت القاعة مكتظة بخليط من العرب الخليجين والمغاربة والشوام حتى اليمن السعيد كان ممثلاً وموريتانا وجزر القمر والصومال.. تصاعدت روائح البارفانات الحريمي والرجالي تمتزج برائحة العرق والضجر؟!
***
كان الضجر في خارج القاعة قد تزايد إثر مكالمة العربجي المجهولة، وإثر غموضها، وإثر الهزّة التي أحدثتها طريقته في الاتصال، وإثر تراجع الجوقة الأمنية.. فجأة ودون سابق إنذار امتلأت الساحة الكبيرة بين المسرح العريق بجموع محتشدة، انتشروا في المكان في فوضي منظمة، بدوا أناسًا غير الناس. مجموعات من الثكلى والكسالى والثمالى والمجاذيب والمبرشمين، ماسحي الأحذية وبائعي الفلّ والياسمين والمناديل، اللذين بلا أطراف، المقعدين والمعوّقين، العميان والخصيان، المجانين وأشباه الرجال والنساء، رجال بدت ملامحهم أكثر قسوة من الظلم والبؤس واليأس، ونساء أخشوشنت قسماتهم حرمانًا من المتعة و الفسحة والبهجة، أطفال شوارع بوجوه معفرة عجوز هاربة من أهل أكثر تعاسة، يبيعون البيبسي في القطارات ويشربون الخمر تحت الكباري، مجموعات لا تقل عن خمسة ولا تزيد عن خمسة وعشرين من الحزانى والمرضى والمهرجين، تكوينات بشرية من البلياتشو والأقزام ومرضى الجذام والمشوهين، الزبالين والناجين من الكوارث والمصائب، رجال بعمائم وخناجر وسيوف ومسدسات، جوعى وعطشى ومومسات، موظفين متسولين بورق مضروب وأختام نسر حقيقية ومزورة، مرتشون صغار وقطاع طرق ونساء مُعيلات، خدم وسفرجية وقرداتية، غوغاء متصارعين دائمين مع فكر الغوغأة ، بعضهم جاء على ظهر حمار أبتر و الآخر جاء مترجلاً حافيًا بعد أن طاف المدن.. لكنهم كلهم في مجموعهم كانوا على وعي تام وخفي بالمسألة. دخلوا من نفق المترو الفاتح على باب المسرح العريق، كانوا ساخطين ورافضين لكل شيء، كانوا واضحين و لم يخلطوا الأوراق. كونوا دائرة كبيرة كادت تملأ الأرض و تسد فضاء السماء، تحلقوا حول العربجي والبغل و لعربة الكارو .. بسرعة فائقة وفي لحظة خاطفة اختفت الجوقة الأمنية ودخلت إلى باحة المسرح العريق .. كانت المطربة تغني منسجمة مع روح الأغنية وكلماتها وكان الجمهور اللامع الساطع المنندش المبتهج يغنى معها:
نعم يا حبيبي نعم .. أنا بين شفايفك نغم
أيامي قبلك عدم .. وأيامي بعدك ندم
(تذكروا حسين رياض بكل وجاهته وغلبه وصوته المشروخ المتأثر وهو يشجع الولد المصوص الرومانسي المريض بالبلهارسيا وهو يغني ).. كانوا كلهم الحلوين المغندرين يتمايلون يمنةً ويسارًا، و فجأة انتشر بينهم رجال الأمن فخرجوا جميعهم في لحظة من الأبواب كلها .. في نفس الوقت دخل الدهماء و الغوغاء و الرعاع يتقدمهم العربجي في هدوء شديد يرشد البغل المزدان بكل الألوان و كأنه كان يعرف طريقه و لا يحتاج إلى دليل أو إشارة، صعد البغل بخطوات مدروسة إلى خشبة المسرح يجر العربة الكارو ووقف العربجي مبتسمًا نصف ابتسامة.. أمال رأسه ناحية الضوء الفضي، وفجأة امتلأت قاعة المسرح العريق كلها بالناس أصحاب العربجي، انطلقت الزغاريد و علت.. نهضت النسوة من بين الكواليس ليضعن على العربة فرش و عفش عروس.. ألحفة ساتان أزرق وبمبي وشفتشي، مواعين نحاس وألومنيوم.. دقت الطبول وعلت أصوات المزامير، ارتفعت الأيادي بالدفوف لتطاول ارتفاعات الأعمدة المنتشرة في المكان، جلست العروسة والعريس على العفش والفرش، كانت بنت زى القمر بمنديل أويه بترتر، ورجلين متحنية، خدود حمرا ووشم ثلاثي طولي على الذقن، حركات لا إرادية كطفل بدأ المشي بعد الحبو، بجوارها جلس العريس يتنطط ويشير إلى أماكن محدودة في القاعة حتى يتوزع الشربات بقسطاس. بدوا سذج و بسطاء و طيبين شالوا همهم ورموه برّه، لم ينتبهوا إلى أن المذيعة ذات الصدر الأكبر لم تزل في الخلف، أمامها المغنية تبدو على وجهها علامات الخوف والدهشة والصدمة، ابتسمت المذيعة ابتسامتها المنافقة المعهودة و بدأت ترص الكلمات دون تفكير:
ـ نرحب بالشعب العظيم في المسرح العريق، نهدي ألف تحية للعروسين، انطلقت الزغاريد مرة أخرى مزمجرة، كانت ضربات الدفوف من هولها تهزّ المكان وترجه، صمتت المذيعة وبدأت المطربة تغنى:
نعم يا حبيبي نعم .. أنا بين شفايفك نغم
أيامي قبلك عدم .. وأيامي بعدك ندم
لم يدرك أحدًا إن كان الغناء للملك أم للعربجي، من منهما الحبيب الذي يقال له نعم نعم، من هو ذلك الأسطورة التي يكون الشعب بين شفايفها نغم، من هو ذالك الذي كانت الأيام، الأيام كلها والسنين قبله عدم.... من هو المخلص والحارس والمعشوق الذي تكون أيام الحلوين والغوغاء الرعاع والأفظاظ والأسياد بعده ندم .. من ترى يكون ..
توجه الرجلان اللذان أتيا بالمطربة من داخل القلب وسحباها من يديها كل من يد ووراهما المذيعة واختفوا بين الكواليس.
***
من بين الكواليس خرج البلياتشو يتدحرج رأسه على الأرض و ساقيه النحيلتان المزدانتان للسماء، يتشقلب بسرعة، ثم وقف مكان المطربة وقال في صوت رخيم:
لا تحسبوا ابتسامتي بينكم فرحًا
فالمرء عند طلوع الروح يبتسمُ
لا تحسبوا رقصاتي بينكم طربًا
فالمرء يرقص مذبوحًا من الألم
نظر الدهماء إلى بعضهم البعض ثم طالبوه بالتنحي عن مكانه لمذيعتهم التي كانت أكثر جسارة، طالبتهم (ولعة الوالعة) بالهدوء والتروي، قرأت عليهم نشرة الأخبار، ثم خلعت رداءها فبان لحمها الأبيض يرفل في زى أحمر، رقصت عند أقدام العريس والعروس والبغل والعربجي، مضت البنت الوالعة الطالعة من النار الوالعة الناجية من قطر الصعيد تكمل وصلتها .. سرت همهمة بين الحاضرين، كان الوقت بين الغسق و الفجر، أدركوا و استبصروا ذواتهم، اكتشفوا فيها أشياء جديدة وآفاق جديدة مكنتهم من نسيان الماضي، والبدء من جديد، صار الفجر والغسق في نعش واحد، كانت اللحظة الغامضة سرية للغاية، رهيبة، انسحبوا فيها كلهم من القاعة واختفوا كما جاءوا ، ترجلّ العربجي ناظرًا في ساعته الرولكس، لَمّع حذاءه الفخم ثم امتطى صهوة البغل جارًا العربة الكارو بالعفش والفرش والعروسين، مضى بها مسرعًا سرعة محسوبة، مارقًا كعربة رمسيس الذهبية من نفس البوابة التي فتح نصفها نفس العسكري الأبيض وموظف الأمن ذي البذلة الشعبية.. عند أول ضوء كانت حشود جنود الأمن المركزي بخوذاتهم وبزاتهم السوداء جدًا وأحذيتهم الغليظة جدًا، بدروعهم وعصيهم يدخلون إلى قاعة المسرح، رغم تعودهم على الوقوف إلاّ أنهم لم يتمكنوا من الانتشار إلاّ بالجلوس على نفس مقاعد الباشوات والدهماء، جلسوا منتصبين بنصفهم الأعلى وعصيهم إلى جوارهم، متعبين، منهكين، مشدودين، وأيضًا خائفين، هم دائمًا عبيد، مأمورين، لا يدرون ما يريدون أو ما يراد بهم، قليلو التعليم أو أميون، لايبتهجون ولايزعلون، لكنهم أدركوا أنها مهمة خاصة في مكان خاص، خاص جدًا.. ولما أنار المسرح بشمعة نظر كل منهم إلى الآخر وابتسم ابتسامة عرجاء، ظنوا أنهم يحرسون الحفل أو سيقبضون على المجهول .. أو ربما سينهالون بعصيهم الغليظة على الأشباح التي تسكن المسرح العريق. لكن شيئًا من ذلك لم يحدث.
دخلت المطربة العربية النحيفة إلى قلب المسرح من داخل القلب الديكور الرديء المنظر والمظهر، كانت شاحبة الوجه للغاية، تجرأ أحدهم و صاح من وسط القاعة (أنا كل ما أقول التوبة.. ترميني المقادير)... يا عيـــ ــــ ن .. يا ليـ ـ ـ ل ......
لم تنتظر! تكملة الجملة السؤال، صرخت من جوفها وصدرها وحلقها لتشق عنان السماء:
ـ لأأأأأأأأأأأأأه ... هيّ أغنية واحدة بس و هترددوها ورايا..
نعم يا حبيبي نعم .. أنا بين شفايفك نغم
أيامي قبلك عدم .. وأيامى بعدك ندم
نعم ... يا حبيبي نعم ....
غنى الجُند رواءها، كانت شفاهم غليظة للغاية، أصواتهم مبحوحة، كانوا جوعى ومرهقين لكنهم كانوا بكل غلاظتهم نغم، نعم نغم، ولما دوّى صوت كالرعد، قاموا من قعدتهم وأشهروا عصيهم ودبوّا بأحذيتهم الغليظة على الأرض الخشبية فحدث دوي فظيع، كان الصوت الذي كالرعد صارخًا في عنف جاء من بين الكواليس، كانت العربة الكارو والبغل والعربجي، تمرّ كالطيف، كالزلزال، كالبرق والرعد، كالسحاب و .. كالطير الأبابيل. ولما تحركوا ليهجموا عليها .. اختفت وتبخرت.. جروا وراءها خارج المسرح.. اندفعوا في جماعاتهم شبه المسلحة على الساحات الخضراء والرخامية بين المسارح العريقة واختفوا من نفس الفتحات التي جاء منها الغوغاء ..
****
على شاطىء النيل، ساعة الفجر التالي في اليوم التالي، خلت الدنيا من المارة تمامًا، تبختر البغل و شخلل الجرس على رأسه، اهتز الورد على جانبى أذنيه، تمهل إلى جواره العربجي ينفث دخان البايب مرتين مدندنًا: نعم .. ياحبيبي نعم . نعم .. ياحبيبي نعم. نعم ....
أخرج من جيبه نوتة صغيرة شبيهة بتلك التي يسجل فيها المخبرون ملاحظاتهم، كتب بخط أنيق أيها الوطن الجميل .. أنا لست نغمًا بين شفاهك ولا أنت نغم بين شفاهي، أحمالنا وأوزارنا وضعناها سويًا على ظهر العربة الكارو.
جرّ البغل العربة، جرّ العربجي البغل، كانت الأحمال ثقيلة للغاية، لكنهم جرّوها، تهادوا على الخط الضيق المرسوم بين كورنيش النيل وبين ساحات الفنادق الشاهقة والتي كانت قد اعتدت على حرم النيل.. فعلاً.
14 أكتوبر 2005
واقرأ أيضا:
شادي عبد الموجود/ قـُبَّعة الخواجة / طنجة الملفات الحساسة