ويظلُّ الشيطانُ ذكيًّا جدًّا يتبع على أثر خطواتِها المرتعدةِ، ويهددُ بموتِها مقتولةً!
يعلنُ أنَّ اللهَ القادر العظيم المنتقم الجبار المذل المُعِز.. سلَّطه عليها، وفي يديه الكبيرتين القبيحتين له القدر.. نبرةٌ حاسمةٌ يصيحُ بأنها ميتةٌ، ولا خروجَ من ذلك!
تجاهدُ لتُسرعَ الخُطى؛ فيسارعُ هو بالقذفِ بالكلماتِ الحجريةِ.. والكلماتِ الناريةِ.. والكلماتِ الكيَّادةِ الأليمةِ!
تتذكَّرُ آيةً في القرآنِ تطمْئنُ العبادَ بأنَّ كيدَ الشيطانِ كانَ ضعيفًا؛ فتُوجِّه له سؤالاً لاهثًا: افتكر أنت أنك شيطان! هل يمكنُ أن تكونَ الملكَ "عزرائيل" يرتدي قناعًا في الدنيا هذه؟! لأنها تشربُ القهوةَ كثيرًا كثيرًا؛ ولذا يجبُ أن تموتَ!! وكذلك التدخينُ يدمِّرُ قلبَها ورئتيها.
يجيبُها بـ: "أنَّ ربنا أذِنَ له أن يرتكبَ جريمةَ سِحْرٍ أسودَ في جسدِها ورُوحِها؛ بسبب تعاطِيها لكلِّ هذه المنبِّهاتِ!! وأنَّه هو نفسُه اسمُه ربنا بتاع الشيطان"!! تسترجعُ جملةً في مسرحيةٍ تقولُ بأنَّ أحدَهم "قتلَ اللهَ وسرقَ بطاقتَه الشخصيةَ"!!
يستمرُ الشيطانُ يَهْذِي، وهي أيضًا إذْ تُسرعُ الخُطى نحوَ المقهى؛ لتجلسَ قليلاً فتحتسي قهوةً وتدخنُ، راجيةً أنْ تفكرَ قليلاً بدونِه؛ ذلك المجنونُ الملعونُ، وأن تستعيدَ نفسَها من قبضتِه، وإنْ كانَ ذلك سيتمُّ بفعلِ الانتحارِ!
تكادُ خطوتُها المذعورةُ تختنقُ وتهوِي إلى الجحيمِ في شوارعَ محروقةٍ من الشمسِ الكئيبةِ كآبةَ انتصارِ القوى المظلمةِ الغاشمةِ الجبَّارة على عقلِها البسيطِ!!
يسترسلُ الشيطانُ في هذيانِه؛ فيقول: إنه"لا إله إلا الله، أنا الكونُ مغلوبًا.. الناسُ والأشجارُ والنيلُ والسماءُ.. أنا!! أنا رجلٌ وأنتِ امرأةٌ، أنتِ مَسْخٌ مثلُ الشيطانِ! اخلعي ملابسَك لأنني أريدُك!! بل اذهبي إلى الجامعِ واعْرَفي الحقيقةَ، أنتِ لم تعرفي إيه الحقائق من الآنَ فصاعدًا إنْ لمْ تصلِّ"!
تتمنى أن ترى مرةً أخرى -وإن كانَ لأخرِ مرةٍ- سماءً مظلمةً يبتسمُ في أحضانِها قمرٌ نُورانيٌّ، وبعضُ نجماتٍ تريدُ أن تتنفسَ هواءً، الجوُّ شديدُ الحرارةِ، تُرى هل ستصابُ بنوبةٍ قلبيةٍ أو سكتةٍ دماغيةٍ؟!
لعلَّه نقصُ الأوكسجين في جسدِها ذلك المسكينِ المسحورِ هو الذي يسبِّبُ كلَّ هذا الكابوسِ!
"نريدُ أن ننتهيَ".. صوتُه كالرَّعدِ يعلنُ.. "أنا جئتُ، ولن أمضيَ إلا وأنتِ ميتةٌ"!
الشوارعُ مزدحمةٌ بكبارٍ وأطفالٍ، وجميعُهم يُحَمْلِقُون في جسدِها الذي تغيَّر شكلُه، وانتفخَ الكِبارُ -وحتَّى الأطفالُ أيضًا- ينطقون بتحدٍّ عباراتٍ مخلةً للأدبِ! ويشيرون إشاراتٍ لها دِلالاتٌ جنسيةٌ، جميعُهم ينظرون إليها ويكلمُونها ويسبُّونها! ويخبِطُون في جسدِها المفترَسِ!
"يا اللهُ!! ماذا يحدثُ لِي" تكادُ تبكي.. ولكنَّ الدموعَ لا تُسعفُها.
تتمنى أن يكلمَها الله ولو مرةً واحدةً فقط؛ فتعرفَ أنَّها ما زالتْ نفسَها! وأنَّ الشيطانَ الرجيمَ صنعَ كابوسًا ضعيفًا سيزولُ الآنَ.. الآنَ.. الآنَ.. سيزولُ الآنَ.. ويعودُ كلُّ شيءٍ إلى طبيعتِه.
"لنْ يخلصَك اللهُ إلاَّ بالموتِ"! يقرأُ أفكارَها فيصيحُ كالكلبِ المسعورِ: "مُوتِي تعيشينَ"!
تفكرُ بأنَّها حتمًا سوف تدخلُ المستشفى مرةً أخرى؛ فتتناولُ العقاقيرَ والحقنَ المهدئةَ؛ لأنَّ الطبيبَ العلمانيَّ يرى أنَّ المشكلةَ محضُ "ذِهانٍ مزمنٍ"! لكنْ هي باتتْ تكرهُ أن تُحجزَ في مستشفًى.
ولكنَّها تعودُ فتراجعُ نفسَها بضميرٍ ما زالَ حيًّا بأنَّها إن لمْ تدخلِ المستشفى فسترتكبُ جريمةَ قتلٍ وتخرجُ كلَّ غضبِها وتمردِها على هذا الموتِ في إنسانٍ أو إنسانةٍ ما؛ كبيرًا كانَ أو طفلاً!
"رحمتَك يا الله! لماذا ينظرُون إليَّ هكذا؟! من أين يأتي كلُّ هذا العنفِ والفهمِ؟! إنَّهم يأكلونني حيةً! المخلوقاتُ جميعُها تحوَّلت إلى آكلي لحومِ البشرِ"!!
أخيرًا وصلت إلى المقهى، فجلست على كرسيٍّ بلاستيك أخضرَ أمامَه منضدةٌ معدنيةٌ صغيرةٌ، أبصرت النادلَ وركنَ الشيشةِ والجالسين وحدَهم وآخرين في صُحبةٍ.. يضيِّعُون الوقتَ في كسلٍ ولا مبالاةٍ بالموتِ! الشحَّاذون.. والباعةُ المتجوِّلون.. وماسحُ الأحذيةِ العجوزُ ذو القامَةِ المحنيةِ إلى الأرضِ.. وأمُّ أميرةٍ طاهيةُ سندوتشات البطاطسِ المقليةِ، ألفةُ المكانِ وتناسيه المتعمدُ للموتِ ورعبِه؛ بالغوصِ في بحرِ أقدارٍ تعيسةِ، ولكن صادقوها بالتسليمِ التامِّ إلى إرادةِ الله!
الفقرُ والعملُ والوحدةُ والأصحابُ والبَطالةُ والصحةُ المقبلةُ وألفةُ المكانِ.. لم يطمئنُها!!
راحَ الشيطانُ الرجيمُ يصيحُ بصوتِ غُرابٍ ويضحكُ ضحكةً واسعةً:
"اشربي قهوةً وسجائرَ إلى الأبد.. واكتُبي كتابتَك المحمومةَ.. وأنا سأهبُك المجدَ في أبديَّتي.. أنت تسكنين في أبديةِ الشيطانِ.. ملعونةٌ أنتِ إلى الأبدِ.. يا مَيُّ"!!
واقرأ أيضًا:
ما أسوأ، ما أقسى! / مَنْكوشَةَ الشَّعْرِ ! / تعالي..تعالي! / عِندَ السقوطْ !