كان الصوتُ الذي اخترقَ أُذنيه أشبهُ بصريرِ عجلاتِ القطارِ عندما يُوشكُ أن يتوقفَ! ولم يوقظْه من غفوتِه التي آلَ إليها من فرطِ الإرهاق إلا شعاعُ ضوءٍِ اخترقَ ظُلمةَ عربةِ القطارِ المتجهِ إلى الجنوبِ؛ هربًا من زحامِ القاهرةِ وفرارًا من ضجيجِها!!
ولكنه هو لم يكن هاربًا من الزحامِ والضجيجِ، بل هاربًا من نفسِه.. من يأسِه!
حارب كثيرًا من أجلِ الضعفاءِ والبسطاءِ.. ولكنه فَشِلَ!!
الرياحُ كانت أقوى منه، هزمته.. كسرته.. لم يعدْ قادرًا على محاربةِ طواحينِ الهواءِ!! تخلي عن قلمِه.. عن سيفِه.. أصبح مجردًا.. أعزلَ..
في قريتِه البعيدةِ في أعماقِ الصعيدِ جلس "سالم عِمران" وحيدًا.. مقهورًا، تحتَ تلك الشجرةِ التي شهدت أجملَ فتراتِ حياتِه.. على شاطئ النهرِ.. يسترجعُ أحلامَه.. وكيف ترك قريتَه ذاهبًا في اتجاه تحقيق هذه ألأحلامِ في قاهرةِ المُعِزِّ! التي قهرتُه!! دفعته إلى أن يكسرَ قلمَه.. يرمي سيفَه.. يمزقُ دفترَه.. يثني رمحَه!!
غاب عن قريتِه منذ زمنٍ طويلٍ، وحين عاد مرةً أخرى جاء متخليًا عن تلك ألأحلامِ!
لم يدرْ بخَلَدِهِ يومًا ما أنَّ تلك ألأحداثَ كانت مثلَ الظلالِ التي تلازمُ الضوءَ؛ ففي كلِّ مكانٍ يُوجَدُ ضوءٌ ويُوجَدُ ظل، وكلما كان الضوءُ أقوي؛ كان الظلُّ أعمقَ أيضًا!!
فجأةً.. نظر إلي صورتِه التي تنعكسُ على سطحِ المياهِ التي تتراقصُ ببُطءٍ.. فوجد نفسَه عاريًا!نعم.. عاريًا!! لم يصدِّقْ عينيه!
كانت رياحٌ خفيفةٌ تنتزعُ أوراقَ شجرةِ التوتِ الهَرِمةِ الثابتةِ فوقَ رأسِه، ولكن لم تستطعْ الرياحُ نزعَ الشجرةِ من مكانِها؛ لأن جذورَها كانت ضاربةً في قلبِ ألأرضِ؛ تتشبثُ به!
سقطت ورقاتُ التوتِ على سطحِ الماءِ لتغطيَ عُريَه.. وتسترَ عورتَه! وكأنها أسقطتْ عليه قلمَه ودفترَه!!
فعلاً.. كانت ملابسُه القلمَ والدفترَ.. والدفاعَ عن حقوقِ البُسطاءِ!
فقال لنفسِه: لماذا لا أكونُ مثلَ هذه الشجرةِ؛ متشبثًا بجذوري وما نشأتُ عليه، ولو لمرةٍ واحدةٍ؟!!
وقذفَ بنفسِه في أولِ قطارٍ.. عائدًا إلى القاهرةِ.. إلي حربهِ من أجلِ الضعفاءِ والبُسطاءِ، وكان قلمُه له بمثابةِ ورقةِ التوتِ لـ "أدمَ"!!
واقرأ أيضًا:
زمن الحب انتهى.. / تحت المطر / خريف لم يرى الشمس / قبل قلبك / أحبك.... لأنك / اعترافات امرأة !