"والظلمُ مِـنْ شِيَمِ النفوسِ......" (8 من؟؟؟)
مقدمة:
يبدو أنني تورطت فعلا، تورطت شاكرا حامدا،
هؤلاء الأصدقاء جدا من المرضى والزملاء الأصغر المتدربين، ثم من أصدقاء الموقع المشاركين قد فتحوا علىّ، علينا، فيضا من المعرفة، طريقا إلى المعرفة، يبدو أنه كان لا بد أن يفتح، وإن لم يقع أبدا في أولوياتي، لندرس معا، ومن واقع التجريب بمنهج آخر، في ثقافتنا الخاصة جدا، ما ينبغي أن ندرسه.
نبهت قبل ذلك بوضوح، ومرارا أن اللغة هي كائن حي، وهي وعاء الوعي، وفي نفس الوقت هي نسيج الوعي، كما أعلنت أننا إذا كنا نريد أن نضيف إبداعا بشكل عام، أدبيا أو نفسيا (علم نفس أو طب نفسي أو ما إلى ذلك)، فلا بديل عن البداية من لغتنا التي هي تاريخ بقدر ما هي حاضر، وأيضا بقدر ما هي حضارة، وفي نفس الوقت رفضت باكرا تماما تعبيرات ومفاهيم مثل "تعريب الطب النفسي"، بل رفضت أن تكون بداياتنا هي الترجمة، حيث وصلني أننا ربما بذلك سوف نضطر أن نستعير نبض ثقافة أخرى، ونحشر فيها وعي ثقافتنا حشرا، (مع الاعتراف بضرورة الترجمة، للحوار وليس للبحث عن مرادف يستحيل أن يترادف)؛
وقد طرحت هذه الأطروحة في أكثر من موقع، وأكثر من مجال، وأكثر من مرة، محاولا أن أبين من خلالها اختلافي الشديد حول نقطة البدء، وأن علينا أن نبدأ من ثقافتنا، تاريخا وحاضرا، ثم نبحث بعد ذلك (وليس قبل ذلك) في النظر في لغات أخرى، جميلة أيضا وعزيزة على أهلها، لنلتقي أو لا نلتقي، آملين طول الوقت أن يثري بعضنا بعضا إذا أحسنـَّا الحوار وصدقنا الاحترام المتبادل.
استشهدت في أطروحتى الباكرة مخاطر الترجمة (مسؤولية الترجمة بين تسطيح الوعي واختزال المعرفة) هذه بـظاهرة "الحزن" أساسا، رافضا تسميتها بالاكتئاب، مع تناول أقل لظاهرة "الهم" بدءا من لغتي وثقافتي أيضا، لكن لم يخطر في بالي أبدا – تقريبا أبدا – أن أستشهد بما هو "ظلم"، ربما لأنه أقل تواترا كعرض مرضي، اللهم إلا ما يتصل بضلالات الاضطهاد والمطاردة، مع أنني لاحظت أن تناول الظلم، والحديث عن الظلم، هو أكثر تواترا عند عامة الناس (الأسوياء أو العاديين) وخاصة في مجتمعاتنا التي يعتبر حكامنا أن حقهم في ظلم شعوبهم، هو حق إلهي أو شبه إلهي، حفاظا على مصلحتهم (مصلحة شعوبهم!! ولا مؤاخذة!!!)..... ما علينا.
ظل الأمر كذلك بالنسبة لأولويات اهتمامي بثقافتنا والبدء من وجداننا الخاص جدا، حتى تخلّقت "لعبة الظلم" هذه التي انبثقت في إحدى جلسات العلاج الجمعي كما ذكرنا 5-4-2011، ثم وجدنا أنفسنا، من خلال هذه اللعبة نستدرج إلى ما وصلنا إليه حالا.
كان الأوان قد آن، كما وعدت أمس، أن أبدأ في دراسة المادة المتاحة خلال سبعة نشرات متتالية (من 5-4-2011 // 6-4-2011 // 12-4-2011 // 13-4-2011 // 19-4-2011 // 20-4-2011 إلى 26-4-2011) وإذا بي أستدرج – بفضل سيدنا جوجل جزاه الله خيرا – إلى هذه الإضافة الأساسية التي أشعر أنها قد تمتد لتحتل مساحة أكبر مما أتصوره لها حالا.
بدأت بالمعلقات، ولم أكمل، فقد توقفت عند زهير بن أبي سلمى وهو يقول:
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بسلاحه يُهَـدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمْ النَّاسَ يُظْلَـمِ
ولم أتوقف عند طرفة بن العبد وهو يعاني المضاضة من ظلم ذوي القربى، بل لعلني كنت أقرب إلى رفض تمييز ظلم "ذوي القربى" عن ظلم "ذوي السلطة"، فظلم ذوي القربى قد يكون نقدا، أو تنبيها، أو عدلا خفيا، أما ظلم ذوي السلطة فخذ عندك.
ثم قفز إلي أبو الطيب المتنبي بإصرار طموحه، فنقلني بضعة قرون وهو يقول:
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفـّةٍ فلعلـّةٍ لا يظلمُ
وإذا بزميل فاضل من السعودية هو أ.د. إبراهيم حسن الخضير استشاري الطب النفسي، قد تناول هذه القضية بذكاء وإحاطة في مقاله المنشور بصحيفة الرياض بتاريخ 2 ديسمبر 2005 ، يعرض لنا من تاريخنا ليس فقط ما يؤكد هذه الطبيعة البشرية، وإنما يبين بتواضع رائع كيف ينقلب الإنسان من مثالي طيب، إلى مستبد طاغ شديد القسوة، فنتبه إلى أن هذه النقلة يمكن أن تفسر لنا بعض ما يجري منا وبنا وحولنا هذه الأيام ونحن نكتشف حجم القتل والسحق والقهر الذي كان (وما زال) يمارسه حكامنا حتى اضطرونا إلى أن نزيحهم هكذا، دون أن نكون متأكدين من أن من سيأتي بعدهم، لن ينقلب مثلهم (فالظاهر أن التحول وارد ما دامت آليته جاهزة) وأعتقد أن الباحث ما في تاريخ أغلبهم ربما يكتشف بدايات مثالية ثورية أخلاقية لا جدال حولها.
إن لم يكن هناك نظام داخلي وخارجي، بمعنى القانون العادل المطبق فعلا من ناحية، وفي نفس الوقت الردع الديني والسعي الإيماني من ناحية أخرى، ليحول كل ذلك دون ذلك، فالأغلب أن "أي واحد طيب جدا"، قد يتحول إلى "حاكم قاتل جدا". ولنستمع أولا –شاكرين– إلى الزميل أ.د. إبراهيم حسن الخضير منذ ست سنوات، ثم على من يريد أن يطبق الدروس المستلهمة من مداخلته على حكامنا الحاليين المخلوعين، أو الذين سوف يخلعون، فليفعل، شريطة أن يحصل على تاريخهم المثالي (غالبا) قبل أن يتولوا القهر (أعني أن يتولوا الحكم).
يقول الزميل الفاضل في مقاله:
الأمثال في التاريخ كثيرة، فقد فوجئ الكثيرون بتغير شخصيات تغيراً، جذرياً..! فمن شخص طيب القلب، هادئ الطباع، مسالم لا يحب سفك دم الحيوانات، تحول بعض الأشخاص إلى النقيض عند تسلمهم السلطة وأصبحوا في مراكز الحكم!
الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، كان قبل توليه الخلافة، شخصاً، هادئ الطباع، لطيف المعشر، يخالط الفقهاء والعلماء حتى أطلق عليه بعض من يسخرون منه لقب «الفقيه» نظراً لبعده عن الظلم والانخراط في ما كان يقوم به الخليفة الأول أبو العباس السفاح، من جبروت، وتقتيل الناس، مستعيناً بذلك بقائد جيوشه أبو مسلم الخرساني، الذي كان أحد دعائم قيام الدولة العباسية، وله المثل الشهير (ليس لعدوك مكان أكثر أماناً من القبر..!) وهو الذي قتل بي أمية شر قتلة.
كان أبو جعفر المنصور رجلاً متواضعاً، لا تهمه المظاهر، حتى عندما خرج إلي الحج وكان هو أمير الحج ذلك العام، وكان ولياً للعهد، خرج في عدد لا يزيد على الخمسمائة رجل، وكان يسافر ويتنقل بهدوء، ولا يعلم عنه أحد، بينما كان أبو مسلم الخرساني قد خرج للحج ومعه ما يقارب عشرة آلاف من المرافقين، وكان عندما ينزل ينحر الإبل والأغنام ويحفر الآبار ويطعم الناس.، ويعطي العطايا! فكان شتان بين أمير الحج الخجول، الذي يسير ولا أحد يعرف عنه شيئاً! فلا هو بالذي يعطي العطايا ولا بالذي ينحر الإبل والغنم، ولا يسير معه سوى خمسمائة شخص فقط، رغم انه أمير الحج وولي العهد!
كان الناس يخشون أن يضيع ملك بني العباس على يد هذا «الفقيه» فالحكم لا يراد له -في ذلك الوقت- شخصاً، بهذه الصفقات، وإنما يراد له شخصاً كأبي العباس السفاح، الذي يقتل أعداءه، بأبشع الطرق، ولا يتورع في سبيل تثبيت حكمه من قتل كل من له علاقة بالأمويين!
عندما تولى الخلافة أبو جعفر المنصور، استخف به الكثيرون -من أهل العراق- العارفون ببواطن الأمور، خاصة قائد الجيوش، الفارسي، الذي كان يحارب لإنهاء الدولة الأموية طمعاً في إحياء الدولة الفارسية، وكثر القول عن أن نهاية دولة بني العباس سوف تكون على يد هذا الفقيه الخجول، العادل، المسالم، الذي لا يظلم أحداً!
لكن ما أن آلت الأمور إلى أبو جعفر المنصور، حتى تغير تغيراً كاملاً! وأصبح أكثر جبروتاً من الخليفة الذي سبقه.. حتى أنه ذبح أبو مسلم الخرساني بيده، بعد أن أحكم خطة قوية لقتل هذا الخرساني الذي كان الناس يعتقدون بأن من الصعب على العباسيين التخلص من هذا القائد والذي تحت لوائه الجند الموالون له من بلاد الفرس وغيرهم من غير العرب، الذين كان لبعضهم نقمة على العرب فحاربوا مع أبي مسلم الخراساني رغبة تكوين دولة غير عربية بعد أن قضى أبو جعفر المنصور، والذي كان الناس يستضعفون، وأرسل أبو مسلم الخرساني الجيوش وقضى على عمه عيسى بن موسى، ثم سير جيوشاً للقضاء على العلويين في الحجاز وفي كل مكان كانوا يتواجدون فيه. وبعض المؤرخين يرون أنه هو المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، كذلك هو الذي بني بغداد وجعلها عاصمة للخلافة الإسلامية.. هذا التغير لم يكن يطرأ على فكر أي شخص ممن عرفوا أبو جعفر المنصور، لكن دائماً لا يجب الحكم على الشخص، وهو في موقف مختلف، خاصة في ما يتعلق بالسلطة.
ثم إن الزميل الفاضل أضاف ما يدعم رأيه بعرض موجز لبحث طريف أجرته جامعة ستانفورد كاليفورنيا موجزه أن جماعة الباحثين في هذه القضية:
"..... قامت بإنشاء سجن وهمي، لدراسة نفوس الطلاب عندما يكونون سجانين وعندما يكونون سجناء: فاختاروا أربعة وعشرين طالباً وطالبة من المتطوعين، وقسموهم إلى فئتين: "حراس"، وهم فتيان وفتيات يتمتعون بأخلاق عالية، رفيعة. وسجناء (الباقون) وبعد أسبوع واحد، اضطروا إلى إيقاف التجربة.
الحراس والذي كانوا يتمتعون بأخلاق رفيعة وعالية، تحولوا إلى وحوش حقيقيين، بات استخدامهم للتعذيب وإهانة زملائهم أمراً روتينياً، بل إنهم كانوا يقومون بتعذيب زملائهم تعذيباً جنسياً، ولا يرون غضاضة في ذلك، بعد إيقاف التجربة كان على الطلبة الذين شاركوا في هذا العلاج أن يتلقوا العلاج النفسي لفترة غير قصيرة للتخلص مما علق بأنفسهم من صفات لم يكن أحد يصدق بأن هذه الصفات سوف تصبح جزءاً من طبيعة شخصية المتطوعين. فرغم الاختيار التطوعى وانتقاء الأشخاص على أنهم من ذوى الأخلاق الرفيعة الحميدة، إلاّ أن الوضع جعلهم يصبحون جلادين بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة.. فرغم أنها تجربة، وان السجناء زملاء لهم في الجامعة إلاّ أن ذلك لم يمنعهم من ارتكاب أبشع أنواع التعذيب ضد زملائهم، رغم أنهم كانوا ضمن تجربة دراسية في علم النفس.
تعقيب:
مع احترامي الشديد لاستشهاد الزميل بالتاريخ (برغم أن علاقتي بالتاريخ واهية كما تعلمون) إلا أني تحفظت لأقصى درجة على هذا البحث ونتائجه هكذا، ربما لأنه ليس عندي تفاصيل التجربة، ووقتها القصير هكذا (فالكاتب لم يثبت المرجع تحديدا، وهذا قد لا يعيبه لأن المقال للشخص العادي في صحيفة سيارة)، ثم يختم الزميل الفاضل مقاله الجيد بأنه:
لعل تجربة جامعة ستانفورد تكون درساً، لمن يعتقد بأن الأخلاق والمبادئ لا تتغير.. فهؤلاء الطلبة، تم تقسيمهم عشوائياً، وبعد أسبوع فقط تم إيقاف التجربة نظراً لما ارتكبه الزملاء في حق زملائهم الذين كانوا يمثلون دور السجناء.
عن المنهج:
الآن نجد بين أيدينا ثلاث مناهج تعرض لتناول نفس الظاهرة تقريبا:
الأول: المنهج التاريخي، وهو جيد مع التحفظ والتحذير من التعميم.
الثاني: المنهج التجريبي، مع رفضي له تماما في حدود ما وصلني هكذا.
الثالث: المنهج الذي اتبعناه باستعمال الألعاب ونسميه مؤقتا "منهج استثارة الكشف التلقائي".
هذا وقد عدت إلى هذه الثروة التي بين أيدينا الآن والتي نشرت تباعا على عشر نشرات متتالية عن ماهية الظلم وعلاقتنا –بشرا– به، وهي التجربة التي نبعت من واقع ممارسة متواضعة، مع زملاء مبتدئين، ومرضى من عامة الناس جدا، وأصدقاء طيبين، ورأينا –حتى قبل التفسير– كيف يمكن أن تثري هذه التجربة، بمنهج آخر، في ثقافة أخرى، مفهومنا عن النفس الإنسانية فيما يتعلق بهذه الظاهرة (كمثال).
وللموضوع بقية وبقايا، وخاصة بعد استشارتي القرآن الكريم في هذه المسألة (دون أية شبهة للعبث المسمى: التفسير العلمي للقرآن)
وبعـد؛
أنا لست متأكدا كيف سنواصل الأسبوع القادم
أعينوني أفادكم الله.
واقرأ أيضًا:
ثقافة الحرب، ونظرية المؤامرة، والجهاد الأكبر!. / نجيب محفوظ يعلمنا، "القتل العبادة" = ثقافة الحرب!!./ هل تحب إسرائيل لحم العرب إلى هذه الدرجة؟؟