بين يديكم مقال عن تجربة خاضها مريض بالفصام الوجداني حيث تزامن المرض مع بداية الثورة المصرية المباركة.
بداية أعرفكم عن نفسي أنا طالب طب أسنان شاءت ظروف المرض أن أتعثر في دراستي وأؤخر الترم بعد الترم, أبلغ الخامسة والعشرين من عمري أصبت بنوبتين من قبل وبين يديكم النوبة الثالثة بحذافيرها.
ما زلت حتى الآن أذكر بداية النوبة بالشعور بتغير في التفكير وارتفاع مستوى الذكاء حاولت السيطرة على نفسي والتزام الصمت قدر الإمكان وتجربة العلاج بالرقية الشرعية بناء على نصيحة شيخ معروف لكن المرض يبقى هو المرض رغم أنني فعلا اعتقد أنني أعاني من مرض روحي وهو الحسد إلا أنني أعتقد أيضاً أن العلاج الدوائي لحالتي لا يجوز إهماله بحال من الأحوال مع الاستمرار في الرقية.
لسوء الحظ أنني وعائلتي اعتمدنا على الرقية وحدها دون العلاج الدوائي في البداية مما أطال فترة النوبة التي أوشكت على نهايتها لحظة كتابة هذه السطور. ما زلت أعاني من عدم القدرة على الجلوس في مكان واحد والقراءة أو الكتابة لفترات طويلة لذا قسمت هذه المذكرات إلى فقرات.
أريد أن أصف الشعور الذهاني الهوسي الذي كنت أشعر به، فهو مزيج من الزهو والإحساس بالظلم الشديد من كل من حولي فكون النوبة تزامنت مع الثورة أعطاني ذلك ما أسميه تبرير مرضي للأفعال والتصرفات والكلام العصبي الذي كان يصدر مني مما جعلني في حاله هائلة من العصبية ورغم العصبية إلا أنني شعرت ببهجة الثورة أو ما يمكن أن نسميه فيضان الوطنية الذي أغدقته الثورة على الجميع لدرجة أن هوسي ونشاطي ألح علي في البداية بالحصول على الجنسية المصرية بجوار الفلسطينية, مما اضطر أخي الأكبر إلى إخفاء جواز سفري الفلسطيني خوفاً من أن أتخلص منه فقد كنت أعددت خطة متكاملة لهذا الغرض أو هكذا هيأ لي هوسي ولكني على كل حال مزقت بطاقة وصولي التي أعطوني إياها عندما سحبوا جوازي في مطار القاهرة بدعوى أنها من مخلفات النظام البائد.
ثم اقتنعت بصعوبة الفكرة بعد اخذ ورد ونقاش مع أخي الذي للأسف كان يعاملني معاملة سيئة لا يجوز أن يعامل بها مريض وكان الأصوب هو وضعي في مستشفى نفسي لمدة شهر مثلاً مع تناول العلاج.
وهكذا فطوال فترة وجودي في مصر كنت أتفاعل مع الثورة اذكر أنني كنت أكره عمرو أديب المذيع المصري المعروف وأشعر بأنه يعاديني شخصياً أو يتكلم عني فكنت أتفاعل مع ذلك وأريد الاقتصاص منه!.
وغير ذلك كنت انتفض من العصبية على الجيران المزعجين والضوضاء الرهيبة التي تحدث في الشارع حيث اسكن وقد خيل لي أن هناك من يقوم بالتصنت علي أو تصويري بالأقمار الصناعية أو أن هناك نفر من المباحث يتربصون بي وأنني أقوم بإرسال رسالة مشفرة إلى قيادة الجيش كل هذه الأفكار كانت تدخل حيز التطبيق وكنت بالفعل أرسل رسائل عن طريق الطرق أو اللعب بأصوات الموبايل, المهم في النهاية أخذني أخي إلى العيادة النفسية ووصف لي دواء زيبركسا مع هبنور وطبعا الأدوية النفسية بطيئة العمل لذلك عانيت فترة من الأفكار والهلاوس والنشاط العصبي الذي لم ينتهي فكلما أتأكد من زوال فكرة وبطلانها تبدأ أخرى كالتعليق على أفعالي حتى في الحمام كنت اسمع هلاوس أو أصوات تقول (صح, خطأ, مضبوط) والعجيب أنني حتى عندما أصلي أسمع نفس الهلاوس وأحيانا تنادي باسمي وكأني نائم لتوقظني.
المشكلة أني كنت أتواصل مع أحد الشيوخ وكان قد طلب مني إقفال البيت والاعتصام فيه حتى تنقشع الغمامة في أول الثورة والعصابات والبلطجية الذين كانوا في ذروة نشاطهم بدعوى أن كل ذلك غوغائية وكلامه صحيح فأنا مقيم في مصر ليس معي إلا أخي الأكبر الذي كان مرتبكا مثلي المهم أننا في النهاية لم ننزل إلى الشارع نهائياً وبقينا في البيت.
ومن ضمن ما خيل لي أني تخيلت أني مهدد بفعل الهلاوس وحتى بأنني كنت أعتقد أن أخي لا يقدر حجم التهديد وأن هناك جهات تريد الاعتداء علي وقتلي لذلك وصل بي الأمر أن أصبحت أسد باب غرفتي بالمكتب وأعتصم داخل غرفتي ليس معي إلا السجائر وبعض الطماطم حتى الحمام لم أكن أحتاجه كثيرا ففضلا على أنني كنت أشعر بأني مراقب في الحمام فقد كنت لا أكاد آكل شيئاً أو اشرب شيء لذلك كنت ألبث أياما بدون الحمام.
اليوم أنا عند أهلي أشعر براحة وطمأنينة اختفت أيام العصبية وحلت السكينة والهدوء بدأت هذه المذكرات بصعوبة لأني لم أكن أستطيع التركيز أما اليوم فأنا في أفضل حال ومتفائل نوعاً ما على الرغم من أني لا أستطيع الهروب من الذكريات التي يزعجني تذكرها وأتمنى ألف مرة أنها لم تحدث ما يصيبني بعض الإحباط والقهر حين أتذكرها وأتمنى لو أن هناك طريقة لمحو هذه الشهور من حياتي وكأنها لم تحصل هنا.
قبل سفري إلى السعودية عندما كنت في مصر ذهبت للدكتور وائل أبو هندي وقام بتعديل العلاج وسحب الدواء القديم بحيث أتناول الآن 300 ملجم سيركويل 1000 ديباكين 400 دوجماتيل فورت 5 ملجم سافيناز 2 كوجنتول والحقيقة لقد وجدت فائدة عظيمة من الدواء وكما أسلفت فأنا الآن لحظة كتابة السطور الأخيرة في كامل عافيتي لا أشكو الاضطهاد ولا اشعر بالعظمة! وحتى أن العصبية اختفت وأكاد أكون طبيعيا لولا إلحاح الذكريات علي.
واقرأ أيضاً:
الفصام: الأسباب المرسبة(2) / الفصام: الشيزوفرينيا / ليس الفصام مرضا تسببه الجينات / الاضطرابات الفصامية / الفصام
التعليق: شكرا لك أن أشركتنا معك في تجربتك شفاك الله وعافاك مدونة متميزة تابع من فضلك تحياتي