الجاذبية الأرضية
لم تكن سيرة ناصر والسادات العطرة تخلو من العك، ولكن كانت لكل منهما كاريزما، يقودنا ناصر إلى النكسة فيتنحى فتخرج الجماهير رافضة التنحي، يقف السادات في البرلمان يمسح بكرامة معارضيه الأرض بالاسم، فيصفق له الجميع لأنه كان يفعلها بـ«معلمة» عملا بمقولة مصطفى شعبان «حتى الغلط لازم يتعمل صح علشان يكيف»، كانت لكل واحد منهما جاذبية تقنن الشعور بالامتعاض تجاهه وتجعل أشد المعارضين يمنحه فرصة جديدة وتجعل حكم الأغلبية عليه في منطقة الـ«هات وخد»، أما في حالة الرئيس السابق فقد كانت في منطقة الـ«خد» فقط.
الكلام عن العفو لا يلقى قبولا شعبيا، ليس لأسباب سياسية فقط ولكن أيضا لعدم امتلاك الرئيس السابق جاذبية شعبية، والسؤال: لماذا لم يمتلكها؟
ربما لأنه كان يحافظ على صحته بطريقة تثير وطناً معظم سكانه بعافية، كانت صحته مستفزة لدرجة جعلت كثيرين يطلقون أساطير من نوعية «بيسافر كل 6 شهور يزرع نخاع عيل لسه مولود»، في الفترة التي تحولنا فيها إلى شعب شبابه ورجاله رايحين جايين في الشوارع بملفات التحاليل الطبية، لم يغب الرئيس عن الأنظار ولو حتى بنزلة شعبية باستثناء رحلة ألمانيا الأخيرة (بس بعد إيه؟).
حتى الرياضة التي اشتهر بها «الاسكواش» أكبر ملعب لها يسع 3 آلاف متفرج بالعافية، لعبة لا تخصنا ولا جمهور لها في مصر، وعندما قرر أن يزيد شعبيته فلعب «ماتش ودي» مع أحمد برادة هبطت أسهم برادة بعدها فاعتزل اللعبة واتجه للغناء، ستقول لي طب ما ناصر اشتهر بصورته وهو يلعب البنج بونج، سأقول لك هذا هو الفارق فصور ناصر جعلت اللعبة شعبية وأصبح في كل حارة ترابيزة بنج بونج قبل أن تحل محلها ترابيزات الـ«بلاى ستيشن».
حتى رهانه على كرة القدم كان خاطئا، تمسكه بالظهور في الصورة مع المنتخب جاء من خلفية غير كروية بالمرة، كان يعتقد أن المنتخب سيظل البطل للأبد لا يعرف أن كل جيل كروي له دورة حياة قصيرة، ربط اسمه بالمنتخب فلم تكن مصادفة أن ينهار النظام بالتزامن مع التعادل مع سيراليون والهزيمة من النيجر.
وفى الوقت الذي كان فيه لناصر مقعد في الصف الأول في حفلات أم كلثوم، وكان السادات يكرم أباطرة الفن في عيد الفن سنويا، في الوقت الذي كانت فيه صورة الرئيس إلى جوار الفنان الكبير إضافة لكليهما فوجئنا بالرئيس السابق يبدأ مسيرته يتبنى محمد ثروت وينهيها باستضافة طلعت زكريا (مع احترامي للجميع)، يعنى لو كان سأل حد عن مطرب جماهيري أو ممثل صاحب شعبية كانت هتفرق، ولكن هذا عيب الأسرة التي لا يوجد بها ابنة، فخلفت الأولاد ليست دائما ممتعة، فهي أولا «بتنشف» قلب الأب وثانيا تجعله بعيدا عن التفاصيل التي تلمس القلب، لو كان للرئيس ابنة لاستفاد منها كثيرا في اكتساب جاذبية شعبية ربما لمح حزنها على ضحايا العبارة فاتخذ موقفا أكثر حسما، ربما شعر باكتئابها على خلفية الشاب الذي انتحر لرفض تعيينه في الخارجية لأنه غير لائق اجتماعيا فتفكر في مسألة العدالة الاجتماعية، لكن خلفته كانت أولاد، وخلفت الأولاد فقط تجعلهم يتحولون بمرور الوقت إلى مخبرين عايشين معاك في البيت.
كانت أناقة ناصر في القميص المحلاوي وأناقة السادات في الجلباب البلدي، أناقة زعيم، لكن أناقة مبارك كانت تليق برئيس مجلس إدارة بنك، كانت جاذبية ناصر في الشعيرات البيضاء التي تليق بشخص ناضج مهموم بالبلد، وكانت جاذبية السادات في صلعته السمراء التي تليق بشخص داهية، لكن قل لي هل المصريون من النوع الذي يتقبل بسهولة رجلا تجاوز الثمانين دون شعرة بيضاء واحدة بالرغم من أنه مشيِّب الجميع؟!
لم يعرف الرئيس السابق طريق الكاريزما الشعبية لأنه كان طيارا يتحدى الجاذبية الأرضية ففقدها، طيارا يحلق فيرى الناس في حجمهم الطبيعي ثم يراهم أقزاما وبمرور الوقت يصبح «مش شايفهم أصلا».
واقرأ أيضاً:
المستقبل الدستوري لصاحب السيادة / قنا: البحث عن.. جملة مفيدة / أهم من الاستفتاء، وأخطر من ثورة مضادة / كشف الطيش.. في مسألة الجيش/ حكاوي القهاوي