قام فريقٌ من الباحثين في سنة 1982 باستخدام لاحباتٍ مجهرية Electrodes زرعت في خلايا مناطق مختلفةٍ من الوطاء بحيثُ يسجل كلٌّ من هذه اللاحبات المجهرية نشاطَ الخلية العصبية التي زرع فيها، وقد تبين أنه في بعض أنواع الحيوانات تنشطُ خلايا عصبية معينة استجابةً لطعامٍ معينٍ دون الآخر، وبعض هذه الخلايا يكونُ حساسا لمذاق الطعام بينما يكونُ البعضُ الآخرُ حساسا لشكل أو منظر الطعام، كما استنتج الباحثون في تلك الدراسة (Rolls & Rolls, 1982) أن الاستجابات البصرية والتذوقية للمدخلات المرتبطة بالطعام، في هذه المرحلة من المعالجة الوطائية يتمُّ تعديلها وفقًا للشعور بالجوع، فتكونُ الاستجابةُ أشدَّ في حالة الجوع بينما يكونُ تأثرُ الكائن الحي أقلَّ في حالة الشبع، وفي مقدور خلايا الوطاء أن تقوم بتوصيل الاستجابات للطعام في الحيوانات الجائعة بما في ذلك استجابات الجهاز العصبي المستقلي واستجابات التغذية.
والكائن الحيَّ أيضًا يتعلمُ كيفَ يتجنبُ أطعمةً معينةً، فلدى الفئران على سبيل المثال القدرة على التعلم بسرعة هائلة عند تعرضها للتسمم لمرةٍ واحدة، والمعروف عن الفئران أنها عندما تصادفُ نوعًا جديدًا عليها من الطعام تظهرُ ما يعرف في علم النفس برهاب الجديد Neophobia فتتذوقُ عينةً غايةً في الصغر من ذلك الطعام الجديد بحيثُ تجنبُ نفسها التسممُ في حالة كون الطعام الذي لا تعرفه مسموما، فإذا حدثَ أن أصيبت بوعكةٍ ما ولو بعد ذلك بساعات فإنها تتجنبُ ذلك الصنف من الطعام بعد ذلك، وهذا النوع السريع من التعلم يتعارضُ إلى حد كبيرٍ مع نظريات التعلم التقليدية في علم النفس والتي تشترطُ وجود تجاورٍ أو تزامنٍ متكررٍ بين المثير (الطعامُ الجديدُ في هذه الحالة) والاستجابة (التوعك المعوي) لكي يحدثَ التعلم، لكن ما نراه في الفئران مختلفٌ عن ذلك، لأن التوعك قد لا يحدثُ إلا بعد ساعات من تناول الطعام كما أن التكرار غير لازم فالفئران تتعلمُ تجنبَ الطعام الضار بعد مرةٍ واحدةٍ من تذوقه.
وأفرادُ البشر يتعلمونَ بنفس الطريقة أيضًا فالأطفال الذين يتلقونَ علاجا كيميائيا لابيضاض الدم Leukemia يشعرونَ غالبًا بإعياء وغثيان، وفي إحدى الدراسات (Bernstien, 1987) قدمَ للأطفال نوعٌ معينٌ من الآيس كريم قبل جرعة العلاج الكيميائي، فتعلمَ الأطفال اجتناب ذلك النوع من الآيس كريم بعد ذلك وأظهروا نفورًا شديدًا منه، لأنهم ربطوا بين الآيس كريم والشعور بالإعياء والغثيان الناتج أصلاً عن العلاج الكيميائي، ورغم تعريف الأطفال بعد ذلك بحقيقة السبب في شعورهم بالغثيان فإنهم ظلوا يظهرون النفور من ذلك النوع من الآيس كريم رغم علمهم أنه غير مسؤول عن غثيانهم.
وهذا التعلمُ السريعُ لتجنب تناول (أكل أو شرب) ما قد يصيبنا بالأذى يعتبرُ واحدًا من أهم آليات التكيف مع البيئات الجديدة، وهناكَ منطقةٌ مخيةٌ معينةٌ يعتقدُ أنها مسؤولة عن هذه القدرة وهذه المنطقةُ هي منطقة التركيب اللوزي Amegdaloid Nucleus حيث إن تدمير هذا الجسد للوزي يؤدي إلى عدم قدرة الكائن الحي على إصدار الحكم الصحيح على ما هو جديدٌ وما ليسَ جديدًا من الأطعمة، أي أنه يؤدي إلى فقدان رهاب الجديد إضافةً إلى الإخفاق في اكتساب الشعور بالنفور من تناول الطعام الذي قد يحدثُ أذىً معينًا، والجسم اللوزي يمكنُ أن يكونَ ذا أهميةٍ أيضًا بالنسبة إلى مناطقَ أخرى تتطلبُ التمييز بين المثيرات لكي تستجيبَ لها بصورةٍ ملائمة (عاطف أحمد، 2002).
ومن مقالٍ لأحد الكتاب العرب آخذُ الفقرتين التاليتين:
وقد لوحظ أن الحيوانات تملك موهبة التعرف على الأعشاب والمواد النافعة ضد أمراض معينة، فالخيول والنسانيس مثلاً تعمد إلى أكل الشعر حين تصاب بطفيليات الأمعاء، وهذه التقنية -التي لم يعرفها الإنسان إلا مؤخرًا- مفيدة في خنق الطفيليات وإنزالها من البطن، وحين تصاب السعادين بالحمى تهرش لحاء الكينا وتلعقه من الداخل (وهو المستخدم حاليًا لصنع طائفة واسعة من الأدوية)، هذه المواهب الغريبة اتخذت كأساس لعلم جديد يدعى Zoopharmacognosy أو «الصيدلة الحيوانية»، وقد بدأ هذا العلمُ في التبلور عام 1994م حين اجتمع بعض العلماء لتبادل الخبرات حول طرق العلاج الذاتي في المخلوقات، وقد اتفقوا على أهمية مراقبة السلوك الصحي للحيوانات والاستفادة من كيفية علاجها لنفسها، كما نصحوا بمراقبة التغيرات الطارئة في عاداتها الغذائية حين تصاب بالأمراض، فقد أشاروا مثلاً إلى أن الكلاب والقطط (التي تعتمد على اللحوم كغذاء أساسي) تتحول إلى أنواع معينة من الأعشاب حين تصاب بالمرض أو الحمى، كما تعـمدُ الخراف في جرينلاند (التي تتناول الأعشاب أساسًا) إلى أكل رؤوس العصافير فقط لتعويض نقص المعادن في فصل الشتاء البارد!!».
ويستكمل صاحب المقال:
«ويبدو أن الموهبة الأخيرة موجودة لدى الإنسان ولكنها تضعف مع تقدمه في السن، فقد لوحظ مثلاً أن الأطفال الذين يعانون من نقص في الأملاح والمعادن يعوضون هذا النقص من خلال التهام التراب وأملاح الحصى، وهذا دليل على أن جسم الإنسان يتمتع بميزة الربط بين نوعية الطعام والعناصر التي يحتاجها، فنحن بلا وعي منا نربط بين أكل السمك ونقص فيتامين A، وبين الكبد وعنصر الحديد، وبين الحليب ووفرة الكالسيوم، وفي حين تجبر الأمهات أبناءهن على التهام ما يعتقدنه مناسبًا يميل الأطفال (بالفطرة) إلى تناول الطعام الذي يحتاجونه.. ولكننا -للأسف- كلما تقدمنا بالسن كلما ضعفت لدينا هذه الموهبة وقلَّ إحساسنا بالقيمة النوعية للطعام».
المراجع:
1) Rolls , E. and Rolls , B. (1982): Brain Mechanisms involved in Feeding . In: Barker , L. (Ed.) The Psychobiology of Human Food Selection. A.V.I. Publishing Co.
2) Bernstien,I.L. (1987): Learned Taste Aversions in Children Receiving Cemotherapy.Science, V.200 P: 1302-1303.
3) عاطف أحمد (2002): المخ البشري، مدخل إلى دراسة السيكولوجيا والسلوك، ترجمة كتاب: C. Temple: The Brain: an introduction to the Psychology of the Human Brain and Behavior.، إصدار: سلسة عالم المعرفة، العدد287، نوفمبر 2002.
واقرأ أيضاً:
ما هي الآليات الدماغـية المنظمة للأكل؟ / ماذا يجعلنا نتوقف عن الأكل / لماذا نأكل؟