مقدمة:
ليس هناك مرض نفسي يثير الاضطراب في العاملين في الصحة النفسية مثل صوم البنات أو ما نسميه بفقدان الشهية أو القهم العصبي Anorexia Nervosa هذا المرض أمره شديد وفتاة من كل عشرة على أقل تقدير يقضون حتفهم4 بسببه خلال عشرين عاماً والبعض يقول ضعف هذا العدد.
رغم أن هذا الاضطراب يصنف ضمن الأمراض النفسية ولكنه يدمر كل جهاز من أجهزة الجسم. يبدأ أولاً بتدمير العظام ويتسلل تدريجياً ليقضي على أعضاء الجسم الواحد بعد الآخر ويقضي في النهاية على مناعة الجسم يمكن أن نقول أنه مرض متعدد الأجهزة Multisystem Disease هناك من يقول بأنه ناتج من اضطرابات عضوية في الدماغ أما البعض الآخر فيقول بأنه نتيجة طبيعية لظاهرة مدنية جعلت من النحافة مقياساً للجمال لكنه ليس بمرض حديث ومعروف تاريخياً منذ آلاف السنين.
النموذج المثالي لهذا المرض سابقاً، وحتى حالياً بالنسبة للحالات الشديدة، يتمثل بفتاة في سن المراهقة من عائلة متوسطة أو أعلى تبدأ تدريجياً بخفض وزنها والامتناع الجزئي عن تناول الطعام يتم اكتشاف الحالة بصورة عفوية من جراء التدهور الصحي العام للفتاة أو ملاحظة كادر التعليم لتغيير ملحوظ في سلوكها ليس بغير المألوف أن تمر أعوام على الحالة المرضية قبل تشخيصها.
ولكي نعالج المرض هناك علاجا واحداً فقط يضمن النتيجة وهو تغذية المريضة بدون التغذية تصل المريضة إلى مرحلة لا يمكن تجاوزها وتشير إلى النهاية هذه الأيام هناك جدل قانوني حول تغذية المريضة بدون رضاها طبياً كان الرأي السائد سابقاً بأن التغذية الإجبارية تتعارض مع البعد الإنساني للعلاج لكن رجال القانون غيروا رأيهم وقرروا بأن هؤلاء الفتيات لا يملكون القدرة على اتخاذ قرار صائب ولا بد من تغذيتهن بالإجبار غير أن هذه القرارات القانونية لم تحدث تغييراً ملحوظاً على أرض الواقع فهناك مرحلة يستسلم فيها الأهل لمصير ابنتهم ويعلن الأطباء استسلامهم لنهاية المريضة.
الأغلبية منهن يتجاوزن هذا الاضطراب، وإن كان رهاب الوزن يصاحب الكثيرات منهن طوال العمر بصورة أو بأخرى البعض منهن يدخلن مرحلة أخرى من مراحل اضطرابات الأكل وهو ما يعرف بالضور العصبي Bulimia Nervosa (أو النهام العصبي) حيث يسيطر سلوك الشره والتقيؤ على سلوك المريضة ولكن الوزن يكون طبيعياً تم اكتشاف هذا النوع من اضطرابات الأكل في نهاية السبعينيات7، وكان يعتبر من أنواع القهم العصبي.
الكثير من المريضات يتجاوزن مرحلة الضور العصبي ويمضين في طريق الحياة ولكن بعضهن قد يعاني من اكتئاب مزمن وأقلية قد تدخل مرحلة جديدة وهي الإدمان على المواد الكيمائية المحظورة وغير المحظورة بالإضافة إلى الكحول كل ذلك يحصل خوفاً من زيادة في الوزن وربما مواجهة أزمات الحياة بعبارة أخرى هناك ثلاثة مراحل قد تمر بها الفتاة إن لم تتجاوز كلياً هذا الاضطراب وهي: 1- مرحلة القهم. 2- مرحلة الضور. 3- مرحلة الإدمان.
مشاكل التشخيص:
ليتم تشخيص هذا المرض حتى يومنا هذا لا بد من توفر ثلاثة معايير:
1- رهاب الوزن Weight Phobia.
2- نزول مؤشر كتلة الجسد Body Mass Index دون 18.
3- غياب العادة الشهرية (مع أن استعمال حبوب منع الحمل قد يمنع ذلك).
هذه المعايير في طريقها إلى التغيير العام القادم مع صدور المجلد الخامس التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (الجمعية الطبية الأمريكية) أول معيار سيتم التخلص منه هو المعيار الثالث المعيار الأخير كان ولا يزال يعتبر المؤشر الطبي الذي يعتمد عليه سريرياً لتشخيص الحالة بصورة لا تقبل الجدل قد يؤدي هذا التغيير إلى زيادة تشخيص حالات القهم العصبي مما يؤثر سلبياً على تقديم الخدمات الصحية واستهداف الحالات الشديدة.
أما نزول مؤشر كتلة الجسد فسيتم التعويض عنه بعبارة فقدان الوزن من جراء تحديد المقدار المأخوذ من الطاقة، وبالتالي نزول الوزن دون الحد الأدنى الصحي للبالغين أو دون الحد الأدنى المتوقع في المريضات دون سن البلوغ، هذا المعيار قد لا يقل غموضاً وإثارة للجدل وقد يزيد أيضاً من عدد الحالات التي يتم تشخيصها، وقد يكون تأثيره سلبياً كما هو الأمر مع المعيار أعلاه.
أما المعيار الثالث الجديد فهو يتعلق بسلوك المريضة من تجنب الأكل والحد من عدد السعرات الحرارية المأخوذة من خلال الطعام أو التخلص منها عن طريق الإسراف في الفعاليات الرياضية على سبيل المثال سيتم تصنيف القهم العصبي إلى نوعين:
1- النوع التقييدي Restricting "أو الحصري" حيث تمتنع المريضة عن تناول الطعام وتحرص على عدد السعرات الحرارية التي يتم تعاطيها عن طريق الطعام والتخلص منها كذلك عن طريق ممارسة الفعاليات الرياضية.
2- النوع الضوري Bulimic (أو النهامي) أو الشره المرضي حيث يطغى على الحالة السريرية سلوكاً يتصف بتناول كميات هائلة من الطعام والتقيؤ بعدها.
إن المعايير المستعملة في تشخيص جميع الأمراض الطبية والنفسية لا فائدة من استعمالها إن لم تساعد على التكهن بمسار الحالة وتقديم العلاج اللازم لا شك بأن المعايير الجديدة ستزيد من عدد الحالات التي ستصنف على أنها حالات قهم عصبي وربما سيكون مسار الحالات حميداً أكثر مما هو عليه الآن لكن هذا لا يعني بأن الحالات الشديدة سيتم اكتشافها مبكراً وبالتالي ستكون نتائج العلاج أكثر نجاحاً مما هو عليه الآن قد تنطبق القاعدة الأخيرة على الكثير من الاضطرابات الطبية العضوية وكذلك الأمراض الذهانية، ولكن لا يوجد دليل على تطبيقها في القهم العصبي.
موقع القهم العصبي في مجموعات الاضطرابات النفسية:
القهم العصبي كاضطراب عضوي:
هناك من يصف فقدان الشهية العصبي كاضطراب لمنطقة المهاد ناتج عن زيادة فعالية الناقلات العصبية الكيمائية ومن ضمنها الدوبامين والسيروتنين معظم هذه النظريات تستند على أبحاث مختبرية على الحيوان ومن الصعب ربطها بواقع الممارسة السريرية تحدث تغيرات بنيوية في القشرة المخية في المصابات بهذا المرض ولكن معظمها ناتج من سوء التغذية وهي قابلة للانعكاس مع زيادة الوزن5.
القهم العصبي كاضطراب ذهاني:
يحاول البعض ربط هذا الاضطراب بعملية ذهانية يمكن وضع رهاب الوزن في إطار فكرة طبيعية تتطور مع الوقت إلى فكرة حصارية وبعدها إلى فكرة باهظة الأهمية ومن ثم مجرد وهام رغم أن معظم المصابات بهذا المرض ينكرون الخوف من زيادة الوزن في بداية الأمر، ولكن تمسكهم بهذه الفكرة مع تقدم الحالة لا يختلف في إطاره عن الاضطراب الوهامي8. لكن لا يوجد تنصيف يدرج رهاب الوزن الواقع ضمن معايير فقدان الشهية العصبي ضمن الاضطرابات الوهامية.
هناك اتجاه تكثر ملاحظته في استعمال العقاقير المضادة للذهان من الجيل الثاني مثل الاولانزابين والكوتايبين هذه الأيام، وحتى عند الأطفال، رغم غياب الدليل العلمي القاطع بأن هذه العقاقير تساعد على زيادة الوزن6.
قد تساعد هذه العقاقير في علاج أعراض الاكتئاب والقلق المصاحبة للاضطراب ولكنها لا تساعد على التخلص من فقدان الشهية أو زيادة الوزن ما يعكسه استعمال هذه العقاقير أحياناً هي حالة اليأس من علاج الحالة بالتغذية والطرق النفسية السلوكية.
القهم العصبي كاضطراب وجداني:
يميل الكثير من الأطباء العاملين في مجال الطب النفسي إلى علاج المريضة على أنها مصابة باضطراب اكتئاب غير نموذجي Atypical Depression قد تكون هذه النظرية صحيحة في الكثير من الحالات التي تظهر في بعض المرضى بعد البلوغ، وتستجيب للعلاج باستعمال العقاقير المضادة للاكتئاب رغم هيمنة رهاب الوزن على الحالة المرضية.
كذلك العكس هو الصحيح، وهو أن أحد مضاعفات القهم العصبي هو الاكتئاب، والاستجابة للعقاقير المضادة للاكتئاب يساعد المريضة على التخلص من الأعراض الوجدانية والمشاركة بصورة فعالة في العلاج النفسي.
أما الضور العصبي فعلى عكس القهم فهو يستجيب للعلاج بالعقاقير المضادة للاكتئاب تلاحظ 60% من المصابات بالضور العصبي تحسناً في السلوك والاضطراب الوجداني المصاحب له. على ضوء ذلك يميل الكثير إلى تصنيف الضور العصبي على أنه اضطراب اكتئاب غير نموذجي Atypical Depression .
القهم العصبي كاضطراب عصابي:
إن الولع بالوزن والطعام ما هو إلا جزء من عقد نفسية تحملها الأنثى في مراحل معينة من مراحل حياتها وقد تتخلص منها بعد عبورها تلك المرحلة أو تستمر على حملها طوال العمر.
هذا التصنيف للقهم العصبي لا يخلو من المصداقية في بعض الحالات تميل المدرسة التحليلية إلى التركيز على علاقة الفتاة بأمها لتفسير امتناعها عن الطعام وعلى أن سلوكها ما هو إلا عقوبة طفل لأمه يكثر ملاحظة غياب الأب عن دائرة العلاقات العائلية وتركه الفتاة في تفاعل وتشابك مع الأم حيث تتدخل الأخيرة في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بابنتها.
تقضي الفتاة عمرها منذ الطفولة إلى عمر المراهقة في محاولة لإرضاء الأم وكسب رضاها. مع الدخول إلى مرحلة المراهقة يبدأ السلوك السلبي والعنيد ويصاحب ذلك شعور بأن الجسد هو في حالة فراق عن النفس، وأصبح ملكاً للأم ولا بد من القضاء عليه يميل البعض إلى أن علاقة الأم بابنتها تؤدي إلى تجريد الفتاة من شخصيتها ويتم التعامل معها على أنها مجرد الذراع اليمنى لها أما الذكور المصابين بالقهم العصبي فتلعب مشاكل الصراع مع التوجه الجنسي المثلي والقبول بالهوية الجنسية المثلية دورها.
القهم العصبي واضطرابات الشخصية الحدية:
سلوك الامتناع عن الطعام وفقدان الوزن ما هو إلا سلوك يلحق الأذى بالمريضة هذا السلوك لا يختف في إطاره عن أكثر أعراض اضطراب الشخصية الحدية شيوعاً وهو إلحاق الأذى بالنفس.
أكثر من 50% من المريضات المصابات باضطراب الشخصية الحدية يتم تشخيصهم باضطرابات الأكل3، بينما يتم تشخيص اضطراب الشخصية الحدية في ما لا يقل عن 20% من المصابات بالقهم العصبي، في 24% من المصابات بالضور العصبي، وما يقارب في 40% إذا اجتمع القهم والضور سوية.
القهم العصبي ونماذج الصحة النفسية:
يعتبر القهم العصبي من الأكثر الاضطرابات النفسية تمثيلاً لدور النماذج المختلفة المستعملة في الطب النفسي هي الاجتماعي، النفسي الحركي، المعرفي السلوكي، والطبي.
أصبحت النحافة معياراً للجمال سواءً كان ذلك في الغرب أو الشرق معظم الجمعيات الاجتماعية التي تعنى بالقهم العصبي تضع العوامل الاجتماعية ودور الفن والإعلام في موقع الصدارة أما تفاوت الاضطراب عبر مختلف الحضارات فهو أيضاً لم يخضع لدراسات ميدانية موثوقاً فيها1.
لا يحمل القهم العصبي تلك الوصمة السلبية التي تصاحب الكثير من الاضطرابات النفسية. على العكس من ذلك أصبح هذا الاضطراب علامة مميزة لفتاة شابة وذكية من عائلة أعلى من المتوسطة سلاحها الطموح لحياة أفضل هذا النموذج الاجتماعي المعروف للقهم العصبي لم يتم إثباته في الدراسات الميدانية، ومن الجائز بأن المريضة التي تنحدر من مستوى اجتماعي متوسط ربما أوفر حظاً في الحصول على العلاج.
أما النموذج النفسي الحركي فقد أعطى القهم العصبي الكثير من الانتباه سواء على مستوى العلاج الفردي أو العائلي كانت ولا تزال قاعدة العلاج هذا الاضطراب تتلخص بأن العلاج العائلي يستحسن في المريضات دون سن البلوغ وأما بعد ذلك فيستحسن العلاج على مستوى فردي أما النموذج الطبي فيتم تطبيقه في الحالات المتقدمة والعسيرة.
من يعالج البنات الصائمات؟
ليس هناك جدال بأن المصابات بالقهم العصبي دون سن البلوغ يجب تقديم الخدمات لهن عبر الفرف الصحية للطب النفسي للأطفال والمراهقين أما بعد عمر السادسة عشر فيستحسن تقديم العلاج عن طريق فريق طبي له خبرة في علاج هذا الاضطراب لعدة أسباب:
1- هناك عدة عوامل اجتماعية وعائلية تلعب دورها في الاضطراب التي قد يتم التغاضي عنها في مجال الطب النفسي العام.
2- علاج اضطرابات الأكل قد تتجه تدريجياً نحو النموذج الطبي إذا تم حصرها ضمن خدمات الطب النفسي العام وهذا النموذج لوحده قلما يكون كافياً.
3- سلوك البنات الصائمات لا يخلو من التلاعب في التعامل مع الفرق الصحية والنفسية وهذا التلاعب بحد ذاته قد يولد تفاعل سلبي تجاه المستخدمة وبالتالي انهيار العلاقة العلاجية. على ضوء ذلك فإن من المستحسن أن يتم تقديم هذا العلاج من قبل فريق صحي لديه خبرة في التعامل معهن.
هناك من يعارض استحداث هذه الفرق ويطالب بالدليل على استهدافها الحالات الصعبة الخطيرة حيث أن أكثر من 50% من الحالات التي يتم علاجها من قبل هذه الفرق هي اضطراب الأكل الغير قابل للتعريف2 أو ما يسمى EDNOS (Eating Disorder Not Otherwise Specified). لا شك بأن المعايير الجديدة في العام القادم ستؤدي إلى انخفاض تشخيص اضطراب الأكل الغير قابل للتعريف واستبداله بالقهم العصبي كذلك فإن نتائج مختلف أنواع العلاج النفسي والطبي لمريضات القهم العصبي غير حاسمة على أقل تقدير، ويشمل غياب الدليل أيضاً تقديم العلاج من قبل فريق مختص مقارنة بفريق عام.
المصادر References
1- Bennet D, Sharpe M, Freeman C, Carson A(2004). Anorexia nervosa among female secondary school girls in Ghana. B J Psych 185: 312-7.
2- Button E, Benson E, Nollett C, Palmer R (2005). Don’t forget EDNOS( eating disorder not otherwise specified): Patterns of service use in an eating disorder service. The Psychiatrist 29: 134-136.
3- Herzog, David B.; Keller, Martin B.; Lavori, Philip W.; Kenny, Gina M.; et al(1992).The prevalence of personality disorders in 210 women with eating disorders. Journal of Clinical Psychiatry, 53(5): 147-152.
4- Hlynsky J , Goldner E, Gao M. The mortality rate from anorexia nervosa. Int J Eat Disord. (2005) 38(2):143-6.
5- Mainz V, Schulte-Rüther M, Fink GR, Herpertz-Dahlmann B, Konrad K(2012). Structural brain abnormalities in adolescent anorexia nervosa before and after weight recovery and associated hormonal changes. Psychosom Med.; 74(6):574-82
6- McKnight RF, Park RJ.(2010) Atypical antipsychotics and anorexia nervosa: a review. Eur Eat Disord Rev. 2010;18(1):10-21.
7- Russell G (1979). Bulimia nervosa: an ominous variant of anorexia nervosa. Psychological Medicine 9 (3): 429–48
8- Steinglass JE, Eisen JL, Attia E, Mayer L, Walsh BT(2007). Is anorexia nervosa a delusional disorder? An assessment of eating beliefs in anorexia nervosa. J Psychiatr Pract. ;13(2):65-71.
واقرأ أيضًا:
هوس النحافة أم القهم العصابي؟ م / ماذا لدى أطبائنا لعلاج القهم العصبي؟ م. مشاركة / من القهم إلى القهم النهامي والاكتئاب / قهم عصابي وميول جنسية مضطربة / اضطراب القهم النهامي