المشهد السياسي في مصر مغري جدا للمهتمين بالعلوم النفسية خاصة أنه يتغير بسرعة البرق وبطريقة غير متوقعة، وحتى الآن خلاصة المشهد سياسيا هو خسارة فادحة لكل رموز المعارضة سواء السياسيين أو الإعلاميين ومناقشة هذا ليس هدفي في هذه المقالة بل هدفي هو مناقشة سريعة للأحداث من منظور مدرسة التحليل النفسي.
فجميع الأطراف في المشهد السياسي سواء إعلاميين أو ليبراليين أو إسلاميين معارضة كانوا أو مؤيدين يتعرضون لضغوط نفسية شديدة منذ يناير 2011، فجميع من على الساحة الآن كانوا قبل هذا التاريخ راضون بلعب دور سياسي ينتهي عند رئاسة الوزراء أو عضوية المجالس النيابية، والإعلاميون راضون بدورهم في إظهار السلبيات والبكاء على حضارة سبعة آلاف سنة دون أن يضع أحد خططا واقعية لتغيير هذا الوضع المؤسف، وفوجئ الجميع بخروج مبارك من الحكم، ولأنهم كانوا مغيبين ولم يخططوا لهذا المشهد سابقا ظهرت الأطماع البشرية واختفى النضج السياسي والعلمي وكذلك كل أنواع التسامي سواء الديني أو الاجتماعي وبدأ الجميع يبحثون عن دور مما جعلهم جميعا بلا استثناء يستخدمون الحيل الدفاعية المرضية بلا توقف حتى الآن.
وحتى لا يكون كلامنا نظريا وبلا فائدة تعالوا نلقي الضوء على المشهد وأحداثه بالأمثلة.
ما هي الحيل الدفاعية؟
أول من أدخل مفهوم الحيل الدفاعية هو سيجموند فرويد، ويرى أن الناس يلجئون إليها لحماية أنفسهم وتساعدهم على معالجة الصراعات والإحباطات وهي أساليب عقلية لا شعورية تقوم بتشويه الخبرات وتزييف الأفكار والصراعات التي تمثل تهديداً للشخص وهي تساعد الناس على خفض القلق حينما يواجهون معلومات تثير التهديد (كل الموجودين على الساحة أصبح مطلوبا منهم أن ينزلوا البحر ويثبتوا أنهم سباحون مهرة ومؤمنون بالديمقراطية فعلا لا قولا).
وهنا يحضرني قول المستشار أحمد مكي في لقائه مع منى الشاذلي بعد استقالته حين قال أنه اكتشف أنه لا يصلح للسياسة وأن آل مكي فقدوا الكثير بعد اشتراكهم في الحكم، وقال أيضا أن القول غير الفعل وهذا نضج نفسي وعقلي لكنه للأسف متأخر ولكن يحمد للمستشار وأخيه أنهما توقفا عن استخدام الحيل الدفاعية وواجها نفسيهما بحياد وبنضج.
لو عدنا للمشهد السياسي بعد تنحي مبارك سنجد اختفاء التسامي Sublimation الذي ظهر في أيام الثورة الأولى، والتسامي آلية دفاعية يلجأ إليها الإنسان عندما تضيق عليه الأمور ويزداد التوتر بأعلى درجات الشدة (فترة الاعتصام وما أحاط بها من تخوين ومن ألم ومن فقد للشهداء، حيث ظهر إنكار الذات والاهتمام بالآخر)، وهذه الحيلة الدفاعية من أهم الحيل وأفضلها، والأكثر انتشارا، ويدل استخدامها على الصحة النفسية العالية. فبواسطتها يستطيع الإنسان أن يرتفع بالسلوك العدواني المكبوت إلى فعل آخر مقبول اجتماعيا وشخصياً (نتحدث عن نحن بدلا من الأنا)؛
وظهر التسامي في منتجات فكرية وأدبية وشعرية وفنية نتذكرها جميعا وكان أغلبها عفويا ووليد الميدان ويستخدمه المعتصمون للترفيه ولشحذ الهمم وكانت أعمالا مقبولة ووجدت الرضا من أفراد المجتمع.
تذكروا أن بعد الثورة لم يتم تقديم عمل فني واحد متقن لأن المبدعين للأسف لم يستغلوا هذه الأيام المجيدة وانتظروا ليعلموا لمن ستكون الغلبة وبالتالي بدأت أعمالهم بعد نهاية فترة التسامي فكانت مسخا مشوها بلا طعم ولا لون.
ويمثل الدين أعلى درجة من الإعلاء والتسامي بالنسبة للإنسان في ظروف التوتر والضغوط الشديدة والأزمات وظهر هذا في الالتزام بالصلوات وترتيل القرآن وإقامة القداس وغياب التحرش والسرقة بل وأصبح للثورة خطيب أيضا.
والتسامي حوّل كل الصراعات سواء سياسية أو فكرية أو عقائدية أو حتى اجتماعية إلى مجالات مفيدة وسليمة ومقبولة اجتماعيا، ومكن كل فرد من الإبقاء على هذه الصراعات مكبوتة وبعيدة عن الوعي.
وانتهت الثورة وبدأ البحث عن الغنائم واختفى التسامي وظهرت الحيل المرضية بجدية، فظهر التبرير Rationalization كإحدى أهم الحيل في هذه المرحلة حيث رفضت العديد من القوى السياسية في هذا الوقت (الأحزاب الكرتونية في عهد مبارك / شباب الثورة الذين قرروا إنشاء أحزاب / بعض المفكرين الليبراليين وبعض الإعلاميين المشهورين) فكرة استفتاء مارس وحاربوه وفعلت القوى الإسلامية العكس تماما بل تعدى الأمر الخلاف السياسيي إلى أنه خلاف ديني فمن يوافق على الاستفتاء مؤمن وينشد الاستقرار ومن يرفضه فهو خارج عن الملة ويمهد للفوضى واستمرار حكم العسكر؛
وهذه المبررات تبدو منطقية إذا كانت لا تخفي خلفها أطماعا وأهدافا شخصية، فالتبرير هو إعطاء أسباب مقبولة اجتماعيا للسلوك (الاستقرار كما يدعي الإسلاميون / بناء ديمقراطية سليمة قائمة على دستور يمثل كل المصريين كما ادعى الآخرون) بغرض إخفاء الحقيقة عن الذات أو عن المجتمع (طمع كل طرف أن يكون مشاركا فاعلا في الحكم وخاصة أن الطريق فجأة أصبح ممهدا لرئاسة الجمهورية).
والتبرير وسيلة دفاعية ترمي إلى محافظة الفرد على احترامه لنفسه وتجنب الشعور بالإثم والألم (فهو يعمل لصالح الوطن)، وتعطيه الشعور بأن ما قام به قد جاء بناء على تفكير منطقي معقول ومن هنا انقسمت مصر إلى معسكرين كبيرين وبدأت الحيل في الظهور تباعا، فظهر الهروب أو الكبت Repression من خلال الدعوة إلى رفض الاستفتاء أو رفض الذهاب للتصويت تحت دعاوى مختلفة في كل مرة (انتخابات مزورة / محسومة للإسلاميين لأنهم الأكثر تنظيما / رفضا لبيع صوتك بالزيت والسكر/ لعدم إعطاء الانتخابات شرعية).
والهروب عملية عقلية لا شعورية يلجأ إليها الفرد للتخلص من شعور بالقلق والضيق الذي يعانيه بسبب وجود عوامل متضاربة الأهداف في نفسه (الصندوق هو الحل بس أنا هاخسر لو اشتركت) وباستخدام هذه الآلية فإن الإنسان يحرر نفسه ولو مؤقتاً من الضغوط المتسلطة عليه وتشكل عبئا لا يطيقه، فيهرب من الموقف الضاغط بكبته ومحاولة تحييده على الأقل لكي يحصل على توازنه النفسي، وهذه الآلية لا يستخدمها إلا الذين ليس لديهم قدرة علىى المواجهة وتحمل المواقف.
ثم ظهرت حيلة التعويض Compensation بين العديد من الفئات فظهرت النقابات المستقلة والطلبات الفئوية والائتلافات الثورية المتعددة والظهور الإعلامي وبدأ كل شخص يبحث له عن تاريخ وماضي عارض فيه مبارك وظهرت فيديوهات تظهر هذه المعارضة.
والتعويض: حيلة دفاعية لا شعورية يلجأ إليها الإنسان حينما يبتغي سلوكاً يعوض فيه شعوراً بالنقص، والتعويض محاولة لا شعورية تهدف للارتقاء بالذات إلى الصورة المثالية الذي يحبها الإنسان لنفسه وقد يهدف الإنسان إلى تغطية الشعور بالنقص أو تحقيق مكاسب ذاتية مثل لفت الانتباه والعطف والاحترام أو إثارة الآخرين، أو ربما لكي يعزز موقعه في المجتمع الذي يعيش فيه (أرى الكثيرون يتذكرون نماذج ابتلينا بها من إعلاميين وسياسيين وفنانين وعلماء دين باحثين عن دور مثالي.
وظهر بعد ذلك التكوين العكسي Reaction Formation وهي أخطر ما حدث في الثورة حيث تحالف الثوار مع أعداء الثورة، وتحالف الاشتراكي مع الرأسمالي والمتدين مع العلماني والفاسد مع غير الفاسد تحت مبررات التقبل والقبول والرغبة في الصفح وغيرها من المبررات التي ساعدت علي ظهور حيلة التكوين العكسي: وهو إخفاء الدافع الحقيقي عن النفس إما بالقمع أو بالكبت، ويساعد هذا الميكانزيم الفرد كثيراً في تجنب القلق والابتعاد عنن مصادر الضغوط فضلاً عن الابتعاد عن المواجهة الفعلية، مثل إظهار سلوك المودة والمحبة المبالغ فيهما بديلا لحالة العدوان الشديد الموجود في داخله (الدفاع عن النائب العام وعن الزند وعن عكاشة بل وعن العسكر الذين طالبوا بإبعادهم عن الحكم).
ثم ظهر النكوص (الارتداد Regression) حيث طالب الثوار المؤسسة العسكرية بالانقلاب علي الشرعية وقيادة البلاد وهذا يمثل التقهقر إلى مرحلة سابقة وهي المرحلة الانتقالية التي شكك الجميع في إنهائها وقتها بل وطالبوا بمحاكمة القائمين عليهم والغريب أنهم نفس الأشخاص من طلب تخلي العسكر هم من طلبوا عودتهم إن النكوص كحيلة دفاعية تحقق للفرد ولو لفترة مهرباً من الضغوط المحيطة به وذلك بالرجوع إلى مرحلة سابقة تتمثل فيهاا السعادة والراحة النفسية (نلعب من الأول يمكن تتغير الأدوار والمكاسب)، يلجأ إليها الإنسان للتخفيف عما يعانيه الآن من نكسات (خسارات متتالية للمعارضة)، فيتذكر ماضيه المليء بالأمان الذي عاشه، ويذهب بتفكيره بعيداً إليه، وكأنه حلم مر سريعاً وقد أثبتت الدراسات النفسية بأن النكوص استجابة شائعة للإحباط.
والأخطر أن هناك دعوات حاليا ترى أن عهد حسني أفضل وينادي بعودته وهو ما نطلق عليه التوحد مع المعتدي Identification with the Aggressor ، فالتوحد:عملية لاشعورية يدمج فيها الشخص هويته مع شخص آخر تربطه به روابط انفعاليه قوية وعملية التوحد تخدم أغراضاً كثيرة وتعتبر وسيلة لتحقيق الرغبات التي لا يستطيع الفرد نفسه تحقيقها (أنا لم أحكم يبقى نرجع للحاكم السابق لنحرم الحالي).
فيقتنع بتحقيقها في حياة الغير ويرضاها لنفسه كأنه قام بها، ويكثر استخدام هذه الحيلة الدفاعية لدى الشخصيات التي تتسم بخلل التفكير مثل الشخصية الفصامية أو البارانويا (هذاءات العظمة والاضطهاد) وهي أنماط من الشخصيات ليست مرضية وإنما نمط سلوكها وتكوينها الشخصي بهذا النوع.
ونأتي لآخر الحيل المستخدمة وهو التحويل حيث ظهرت دعوات التمرد وسحب الثقة من الرئيس والدعوة للتظاهر وتدخل القضاة في السياسة سواء بطريقة مباشرة مثل تعطيل المحاكم أو رفض الإشراف على الاستفتاءات والانتخابات أو بطريقة غير مباشرة عن طريق إصدار أحكام تحرج السلطة الحاكمة وكل هذا بدعوى حماية استقلال القضاء من قضاة جاء بهم مبارك لتقويض القضاء.
فالتحويل آلية دفاعية تستخدم لنقل أو توجيه مشاعره وانفعالاته وسلوكياته المحبوسة تجاه شخص (رفض الإخوان أو الإسلاميين عموما) أو موقف خلاف الأشخاص أو المواقف الحقيقية (حماية مصر) وفي التحليل النفسي يدل هذا الميكانزيم على موقف انفعالي معقد.
يتضح من العرض السابق أن الجميع بلا استثناء يلعب سياسة بطريقة الأطفال أو المراهقين بمعنى أن الديمقراطية تعني أن أربح أنا في صندوق الانتخابات، والحرية هي أن أفعل ما أراه في صالحي دون حساب ودون أن يفعل الآخر هذا.
الجميع يبحث عن مصالحه الشخصية دون اهتمام بمصر أو بالمصريين فهل سنفيق من وهم أنهم يخدموننا أم سنظل نردد كالبلهاء يحيا س أو ص أو ع.
ويتبع >>>>>>>>>>>>: المشهد المصري في ضوء تحليل تفكير الأطراف المختلفة
واقرأ أيضًا: