كان المشهد رهيبا ومؤلما بأكثر مما يحتمل أي ضمير إنساني حيّ... مئات الجثث في قاعة كبيرة ملفوفة في أكفانها التي ظهرت منها دماؤهم، وقد وضعت عليها ألواح من الثلج حتى لا تتعفن، وهي في انتظار إصدار تقارير طبية وتصاريح وفاة تثبت سبب الوفاة حتى لا تضيع حقوقهم، وحول هذه الجثث يجلس آباء وأمهات الشهداء (نحسبهم كذلك والله حسيبهم) يبكون في حرقة تنخلع لها القلوب، فقد تبين أن ثمة حالة امتناع (لا ندري من المسئول عنها) عن إصدار تصاريح وفاة مثبت فيها سبب الوفاة الحقيقي (طلق ناري)، حيث سيصبح هذا التصريح وهذا التقرير دليل إدانة لمن قتل ولمن أعطى الأمر بالقتل ولمن فوض بالقتل.
وقد تعلمنا منذ الصغر في تراثنا المصري الأصيل أن "إكرام الميت دفنته"، ومن هنا فإن المساومة على ضياع حقوقه، والضغط على أهله كي يدفنوه بأي شكل وبأي طريقة وبأي تصريح يصبح انتهاكا لحقوق الموتى، وهو أشد قسوة من انتهاك حقوق الأحياء لأن الأحياء ما زالوا قادرين على المطالبة بحقوقهم، أما الميت فقد فقد القدرة والحيلة، ولكنه يظل يشكو قاتله وظالمه إلى الله من الآن وإلى أن يقوم الناس للحساب يوم العدل الإلهي المطلق.
وحقوق الموتى لا ترتبط بدين أو عرق أو جنس أو لون أو تيار سياسي، فالميت قد ترك لنا كل هذه الأشياء وأصبح في ذمة الله، وتبقى له في رقابنا إكرام جثمانه ودفنه والمحافظة على حقوقه.
ربما هذا هو الذي دفع الدكتور البرادعي إلى الاستقالة حيث لا يحتمل ضميره القانوني وضميره الإنساني تبعة كل هذه الدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت، وهو الذي عاش يدعو للسلام طوال حياته وحصل على أرفع جائزة دولية للسلام، ولا يستقيم مع هذا التاريخ أن يكون مشاركا بشكل مباشر أو غير مباشر فيما حدث وبالطريقة التي حدثت، وقد حذر هو قبل وقوع الكارثة أنه لو تم فض الاعتصام بالقوة فسيستقيل من منصبه، فشكرا لهذا الرجل الذي لم يتلوث بما تلوث به كثير من المصريين "العضّاضين" الذين يهاجمونه ويتهمونه بالتخاذل والارتعاش والتردد وربما الخيانة.
وكنت وما زلت أتمنى أن يتحرك ضمير القاضي لدى رئيس البلاد المؤقت وهو في الأساس رئيس لأعلى وأرفع سلطة قضائية في البلاد، فيأمر على الأقل بإصدار التقارير الطبية وتصاريح الدفن التي تعجل بإكرام هؤلاء الشهداء وتحفظ لهم حقوقهم وتهدئ بعض الشيء من حرقة قلوب ذويهم مهما كان الخلاف السياسي معهم، ليس هذا فقط بل أن يحرص على أن تكون كل الإجراءات والخطوات في هذه المرحلة الانتقالية محكومة بالقانون.
وأهيب بنقابة الأطباء ووزارة الصحة أن تتحركا بسرعة لتدافعا عن حقوق الموتى كما تدافعان عن حقوق المرضى، وأتعجب من غياب جمعيات حقوق الإنسان المنتشرة في طول مصر وعرضها، والتي اهتمت بشكل كبير في الماضي بآحاد الشهداء لا لشيء إلا لانتمائهم لتيار بعينه يميلون إليه، فهل في الموت تفرقة عنصرية؟!!.
وأعيب على كتّاب ومفكرين وإعلاميين شماتتهم وتشفيهم في موت هذا العدد الكبير من المصريين الذين يختلفون معهم سياسيا، وأتعجب كيف استطاعوا أن يميتوا ضميرهم المهني وضميرهم القانوني وضميرهم الإنساني دفعة واحدة ، ويقولون بينهم وبين أنفسهم (وأحيانا كثيرة في العلن وعلى شاشات الفضائيات): "يستاهلوا إيه اللي وداهم هناك". إن الضمير العالمي كان أكثر حساسية وإحساسا لما حدث، فرأينا دولا كثيرة تستنكر الفاجعة بصرف النظر عن موقفها السياسي، ورأينا كتّابا ومواطنين غربيين يتألمون من مشهد القتل ومشهد الدماء ومشهد حرق الجثث.
إنه لمن الخطورة بمكان أن نميت ضمائرنا فلا تتألم لمشهد الدم ومشهد الجثث ومشهد الحرق، لأننا حين ذلك سنكون أكثر جرأة في تدمير مظاهر الحياة وإسالة الدماء وإزهاق المزيد من الأرواح بدم بارد، وهذا أخطر ما يصيب الإنسان ويصيب المجتمع. وقانا الله جميعا شر موت الضمير.
واقرأ أيضاً:
إسلامية بالشطة، أو علمانية بالسم الهاري!!/ العضّاضون والعضّاضات/ مستقبل تيار الإسلام السياسي/ استراتيجيات حل الصراع